منتدى الحوار – سدني -
نتائج انتخابات 18 أيار 2019 لم تكن متوقعة أبداً. كل استطلاعات الرأي كانت تضع حزب العمال في الطليعة. أكثر الاستطلاعات تفاؤلاً كانت تشير الى تقارب في النتائج مع ترجيح دائم لصالح العمال. سكوت موريسون نفسه وصف نجاحه في العودة الى الحكم بأنه معجزة. فلماذا حصل ما حصل؟ ومن هم الرابحون ومن الخاسرون بالنتيجة؟
لنبدأ من السؤال الثاني. الرابح الوحيد في الانتخابات الاسترالية هم رجال المال والأعمال والشركات العابرة للقارات. الاحزاب أصبحت الواجهة التي تحكم من خلالها الشركات الكبرى، مرَّة باسم تحالف الاحرار الوطني، ومرة أخرى باسم العمال. والا فلماذا يتحمَّل الفقراء والطبقة الوسطى دائماً أعباء تتزايد يوماً بعد يوم؟ ولماذا تُعفى الشركات الكبرى دائماً من الضرائب بألف حجَّة وحجّة؟ ولماذا لا يتجرَّأ أي حزب من فرض ضرائب معقولة عليها؟ على وسائل التواصل الاجتماعي أسماء شركات كثيرة يصل ربح كل منها الى مئات الملايين من الدولارات ولكنها لا تدفع سنتاً واحدا على هذه الأرباح. كل سنة تنشر وسائل الاعلام الاسترالية لائحة بأغنى أغنياء استراليا. احدى الصحف أخذت الأسماء العشرة الأوائل على اللائحة وحقَّقت ببياناتهم الضريبية. كانت النتيجة أن أي موظف عادي، لا يتجاوز دخله السنوي السبعين ألف دولار، يدفع ضريبة على دخله أكثر مما يدفع أكبر ملياردير في استراليا. أكثر من ذلك. عندما كان كيفن راد العمالي في عز مجده، طرح ادخال ضريبة على أرباح الشركات المصدّرة للمواد الأولية وخاصة الفحم الحجري. انقلب عليه حزبه واستبدله في ليلة صافية، وتمَّ دفن مشروعه، وغسل الحزب يدَيه، واستمرَّ، مطمئناً، في حكم البلاد وكأن شيئاً لم يكن. الشركات الكبرى وجدت ان مصلحتها راهنا ستبقى مصانة أكثر في ظل حكومة الاحرار الوطني، فبقيت الحكومة. لا معجزة في الموضوع يا سيِّد موريسون. المعجزة الفعلية هي أننا لا زلنا مخدوعين بهوية من يحكمنا.
أما كيف تحقَّقت هذه المعجزة فهناك تفاصيل كثيرة منها:
أولاً الحدود الباهتة بين السياسات الرئيسية للحزبين الكبيرَين. فباستثناء بعض الضمانات الاجتماعية التي لا زال حزب العمال يدافع عنها لصالح الطبقات الوسطى والفقيرة، وباستثناء تميّزحزب العمال في بعض سياساته الضريبية، تجد السياسات الداخلية والخارجية تكاد تكون متشابهة. أو أنها تختلف في بعض تفاصيلها الصغيرة. مما دفع الكثيرين من المؤيدين التاريخيين لحزب العمال ليبتعدوا عنه لصالح الخضر والأحزاب الأخرى الصغيرة. لذلك لا يجد الحاكمون الفعليون للبلد، أي الشركات الكبرى، مشكلة في اعتماد هذا الحزب أو ذاك لقيادة مرحلة معينة كواجهة للحكم.
ثانياً: تميَّزت الانتخابات الأخيرة بغياب السياسات من جانب الائتلاف وتشابكها بكثرة من جانب العمال. فالائتلاف ركَّز على التخويف الدعائي الكثيف من سياسات حزب العمال دون ان يتمكَّن العمال من الدفاع عن سياساتهم بشكل جيّد أو شرح نتائجها على الاستراليين. وعَزَتْ نائبة رئيس الحزب، تانيا بليبرشك، في اليوم التالي للهزيمة غير المتوقعة، ان مدّة شهر لم تكن كافية للعمال لاقناع الناخبين بايجابيات سياساتهم. وهذا تقصير فاضح من العمال اذ كان أمامهم سنوات طويلة من المعارضة لعرض سياساتهم بالتدريج وشرحها وعدم تركها الى ربع الساعة الأخير "لينحشروا" بها.
ثالثاً: التحالفات المصلحية على الاصوات التفضيلية والثمن الذي ستدفعه استراليا كنتيجة. فالاحرار اتفقوا على تجيير الأصوات مع حزب كلايف بالمر، الملياردير المتهرِّب من دفع الضرائب والمتهرّب من إنصاف موظفيه وعمال شركاته. فلماذا يدفع هذا الملياردير، أكثر من ستين مليون دولار على الدعايات المكثّفة ضد حزب العمال؟ خاصة انه لم ينجح في الحصول على مقعد واحد. لكنه نجح في تجيير ما يقارب الثلاثة والنصف بالمئة من مجموع الناخبين لصالح الائتلاف. في اليوم التالي وقف بالمر مفاخراً بأنه هو من أعاد الائتلاف الى الحكم. ولكن السؤال الواجب طرحه: ما هو الثمن الذي سندفعه، نحن المواطنين، للملياردير بالمر بدل ملايينه التي "وظَّفها" في هذه الانتخابات؟ هل ستكون المزيد من الاعفاء الضريبي؟ أو المزيد من "سرقة" البلد من قبل الشركات الكبرى؟ وهل يقدّم أمثال بالمر خدمات مجانية بهذا الحجم؟ والتجيير الثاني من قبل حزب امة واحدة لصالح الحزب الوطني الشريك الثاني بالائتلاف. فأمة واحدة، برئاسة بولين هانسن، تعني امة المتطرفين اليمين، والتي تجنح الاحزاب الكبيرة نحوه وخاصة الاحرار. وثمن هذا التجيير، لا شك المزيد من التطرف اليميني الأبيض، الذي غذّى، ويغذّي، أمثال مرتكب مجزرة نيوزيلندا، والمزيد من السياسات اللاانسانية بحق المهاجرين واللاجئين وبحق المكتسبات الداخلية وبحق البيئة والسياسة الخارجية.
رابعاً: المظهر المتديِّن الذي ظهر به موريسون وزياراته الدعائية المتكررة للكنائس والمساجد والمعابد اليهودية، شدَّت الكثير من مدّعي التديّن، أو بالأحرى من المتعصبين دينياً، ليفاخروا بالنصر "الآلهي" الذي حققه حزب الأحرار. هذا مع الملاحظة أن التعصب الديني والتعصب العرقي أو التمييز العنصري أصبحا وجهين لعملة واحدة.
خامساً: السياسات الخارجية التابعة للسياسة الامريكية. رغم بعض الاستقلالية، أحيانا، من قبل حزب العمال، فسياسات استراليا الخارجية تابعة بالكثير من التفاصيل، للسياسة الاميركية. ومن يريد حكم البلاد فعليه بالرضا الاميركي أولاً. ولنيل الرضا الاميركي لا بد من المرور من بوّابة تل أبيب. والمزايدة الأحرارية كانت واضحة في هذه الانتخابات من خلال الوعد الذي أطلقه موريسون بنقل سفارة استراليا الى القدس.
سادساً: عدم وعي الكثير من الناخبين بمصلحتهم الحقيقية. فرغم أن طبقة الفقراء تتضخم باستمرار، ورغم الصعوبات الاقتصادية المتزايدة والتي تشدّ بالطبقة الوسطى الى تحت، تجد الكثيرين منهم يبنون خياراتهم على أساس أحلامهم المليونيرية. وبدل أن يفتش الناخب عن الحزب الذي يستطيع ان يساهم في تغيير واقعه الصعب، تجده ينتخب الحزب الذي يحلم أن يكون ممثلاً فعلياً له في يوم من الأيام. وهذا الحلم لن يتحقّق أبداً في الغالبية الساحقة من الحالات. وهنا نضع الحقّ على الحزب أيضاً، والمقصود هنا حزب العمال، لأنه لم يستطع أن يكون، بسياساته، الممثل الحقيقي لهؤلاء.
سابعاً: بعض سياسات حزب العمال، التي طرحها بيل شورتن خلال المعركة الانتخابية، والتي لم يستطع شرحها كفاية أو تسويقها بين الناخبين، واستغلالها بذكاء من قبل دعايات الائتلاف، فعلت فعلها وأبعدت عن العمال من هم عادة معه. وحتى الآن لم نفهم لماذا يحاول حزب العمال أن يمدَّ يده الى جيوب المتقاعدين مثلاً، ويتعامى عن مليارات العوائد الضريبية المفترض تحصيلها من أصحاب الشركات الكبرى؟
ثامناً: الكاريزما الشخصية. لم يستطع بيل شورتن، رغم المدة الطويلة التي قضاها كزعيم للمعارضة، من اقناع الاستراليين انه الشخص الأفضل لقيادة البلاد. ففي جميع استطلاعات الرأي، على امتداد السنتين الماضيتين، ورغم حلول العمال أولاً، الا أن شورتن لم يأتِ أبداً أولاً كزعيم مفضّل لقيادة البلاد ودائماً بفارق كبير لصالح منافسه.
أخيراً عودة على بدء. فرغم التفاصيل الكثيرة، فالشركات الكبرى هي التي تحكم البلاد. مرّة باسم العمال وأخرى باسم الائتلاف. ومن يريد أن يحكم باسم شعب استراليا عليه أن يستمدَّ سياساته من هذا الشعب. من آلامه ومن جراحه. من أحلامه ومن تطلعاته. ومن حقّه بحياة حرة كريمة عادلة. لذلك ندعو حزب العمّال، أو جناحه الأكثر قرباً من مصالح الشعب، أن يتَّعظ من الخسارة الأخيرة ويستعيد تراث الدفاع عن العدالة الاجتماعية بالترافق مع العمل على تطوّر الاقتصاد ونموّه. كما ندعو الجالية العربية، وهي بغالبيتها من الطبقتين الدنيا والوسطى، أن تلتف حول الحزب الأكثر تمثيلاً لمصالحها ودفعه لتبني سياسات تصبّ في مصلحتها ومصلحة استراليا بشكل عام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق