18 ديسمبر 2019
مقبرة “الغراء” في طرابلس: ملعبٌ للأولاد ملجأٌ للفقراء
"-وحين يكون دفنٌ، ماذا تفعلون؟ إلى أين تذهبون؟ -نساعدهم في الدفن... ونلعب". أمسك شادي (7 سنوات) يد صديقه عبد الرحيم وجلسا على أحد التوابيت الكثيرة التي هناك، منتظرين التقاط صورة لهما.
“-وحين يكون دفنٌ، ماذا تفعلون؟ إلى أين تذهبون؟
نساعدهم في الدفن… ونلعب”.
أمسك شادي (7 سنوات) يد صديقه عبد الرحيم وجلسا على أحد التوابيت الكثيرة التي هناك، منتظرين التقاط صورة لهما. أطلقا ابتسامةً رائعة على وجهيهما، تحوّلت بعد حين إلى ضحكات عالية صدحت في أرجاء “مقبرة الغرباء” في طرابلس، حيث تتماهى القبور والمساكن وتتجاور، ويصبح الموتى والأحياء، أصدقاء وعائلة.
بعد الصورة قال شادي لأصدقائه وهو يقف على تابوت مرتفع: “فلنلعب لقيطة”. سألني إن كنت أرغب في اللعب معهم. وحين رفضت، ألغى لعبة اللقيطة وسار مع أصدقائه معنا في رحلة الاستكشاف، بين دهاليز ذاك المكان العجيب.
“طوفة” أبو علي
في مقبرة الغرباء التي تصل مساحتها إلى نحو 1100 متر مربع، يعيش أكثر من 500 عائلة في ظروف مأسوية (200 عائلة منها مسجلة فقط في سجلات دائرة الأوقاف)، داخل ما يشبه البيوت، التي بنيت بطريقة غير شرعية، قبل “طوفة” نهر أبو علي المحاذي للمقبرة، كما يردد الجميع. يخبرك السكان ألف قصة عن يوم الفيضان ذاك، منهم من عاشوه ومنهم من سمعوا عنه. في المحصلة يعيش يوم الفيضان ذاك في ذاكرة سكان مقبرة الغرباء، كأيام ميلادهم وأيام موت أحبائهم. الفيضان الذي حصل عام 1958 وأخذ أبنية تراثية وناساً وذكريات.
يقول يحيى العلي (53 سنة، سائق شاحن، من سكان المقبرة) لـ”درج”: لقد سكن جدي في مقبرة الغرباء قبل طوفة النهر، ومن بعده أبي والآن أنا، ولا أفكر بالمغادرة أبداً، لقد عشنا هنا واعتدنا صعوبات الحياة هنا، ليس سهلاً أن يترك الإنسان المكان الذي ولد فيه ومات فيه أهله”.
ومقبرة الغرباء هي في الواقع ملك للأوقاف الإسلامية، يعود تاريخها إلى أيام العثمانيين، حين كانت هذه المنطقة تعتبر خارج مدينة طرابلس القديمة، كان يأتيها الغرباء من كل صوب، ليدفنوا هناك، فأصبحت المقبرة مقبرة الغرباء، والشارع شارع الغرباء، وحتى الثانوية التي هناك سميت ثانوية الغرباء.
منطقة كلها مخالفات، غرف متلاصقة، لا طرق بينها، أولاد يلعبون بين المقابر، تسمع أصوات الموتى يضحكون من فرحة الأولاد، أو حزنهم. في مكان كمقبرة الغرباء لا أحد يسأل عن الحزن والفرح. تبدو الحياة مجرد غرفة مسقوفة.
طائرة إلى بيروت
قال شادي: “أريد أن أخرج من هنا”، حين سألناه عن أحلامه. وأضاف الطفل ذات البشرة السمراء الداكنة: “حين أكبر سأغادر مقبرة الغرباء، أريد أن ألعب في مكان آخر. سأصبح رجل أعمال وسأسافر”.
اقترب صديقه محمد (10 سنوات) ليقول: “أنا أريد أن أكبر بسرعة حتى أساعد الفقراء”، سألناه كيف ستساعدهم، فأجاب: “سأعطيهم طعاماً وثياباً جديدة، ومنازل جميلة”، ثم يأتي على ذكر مدرسته من حيث لا ندري، ويخبرنا أنه نجح، مؤكداً أنه لم يرسب “ولا مرة”.
أما علي (9 سنوات) فأكد أنه سيتعاون مع محمد في مشروعه، مشيراً إلى أنه يحلم ببناء منزل كبير يجمع فيه كل أطفال الفقراء…
تبدو أحلام أولئك الأطفال أكثر ما يؤلم في تلك النزهة الموجعة في “الغرباء”.
بعد ذلك، أتى والد شادي وناداه، فذهب معه، ثم رأيته بجانبي بعد لحظات، يدلّني على الطريق قائلاً: “تفضلي يا حلوة”.
كان حديث سري يدور بين الأطفال الثلاثة، واحد قال: “هؤلاء من بيروت”، آخر أكد أن “الضاحية قرب بيروت وكلها زعران”، ردّ الثالث: “لا، بيروت كلها مسيحيون، والضاحية للأغنياء”. كان سؤالي بديهياً: “هل ذهبتم إلى بيروت قبل الآن؟”. فكان الرد جماعياً: “لا! إنها بعيدة جداً”. تقدّم طفلٌ أصغر سناً، إلى الفتيان الثلاثة، سائلاً إن كان الذهاب إلى بيروت يحتاج إلى طائرة. حينها كان على العالم أن ينتهي، لكنه لم يفعل.
ليتنا نموت!
قادنا حارس المقبرة عماد الصياد بين تلك الأروقة الضيقة التي تفصل الغرف، حتى وصلنا إلى منزل جميلة ناصر (70 سنة، من الضنيه)، عرفت من دون أي توطئة أننا نريد أن نسألها عن حياتها وأننا جهة إعلامية، فسارعت إلى البكاء وهي تقول: “ليتنا نموت، إذا ضربونا وقتلونا أفضل من هذه الحياة”. ثم هدأ بكاؤها، فيما علقت دمعة صغيرة في مجرى عينيها معتصمة هناك. تقول جميلة: “كنت عروساً حين جئت إلى مقبرة الغرباء وأنجبت 10 أولاد، تزوجوا كلهم وجلسوا كل واحد مع عائلته في غرفة”. تضيف: “الأوضاع صعبة جداً، الجميع يلوموننا لأننا نعيش هنا، لكن لا أحد يعرف أي ظروف اجتماعية و”تعتير” وفقر تحيط بنا، أنا في هذه السن وما زلت أعمل في سوق الأحد، أبيع أغراضاً مستعملة حتى أعيش”. تنزل الدمعة من عينيها، فستدير وتتركنا، ثم تعود لترشنا بالأدعية والتحايا، هكذا من دون مناسبة.
أكملنا السير، حتى وصلنا إلى غرفة درويشة (50 سنة) التي أخرجت رأسها من النافذة لتقول: “تفضّلوا اشربوا قهوة”. في هذه اللحظة تتذكر جيرانك الأغنياء الذين يبخلون عليك بـ”صباح الخير”، درويشة التي لا تملك شيئاً دعتنا إلى فنجان قهوة. لكننا أخبرناها أنّ لا وقت لدينا. قالت درويشة: “لدي طفل مريض، وزوجي مريض، ابني ترك المدرسة منذ 3 سنوات، وهو يبيع البلاستيك، نحن نعيش بفضل بقرة نملكها ونبيع حليبها”. تابعت: “الحالة لا تطاق، لا أشغال ولا مياه ولا حياة، يقال إننا نعيش بين الموتى، نحن الموتى، نحن موتى أكثر من الموتى!”.
في مقبرة الغرباء ترقد أجساد كثيرة لغرباء لا يحصون، منهم قتلى من فتح الإسلام، وسوريون وناس ماتوا ولم يعرف عن هوياتهم أو أهلهم الكثير، إضافةً إلى فقراء من أهل المدينة…
مقابر “فتح الإسلام”
سرنا إلى مقابر فتح الإسلام، حيث يقال إن أبا هريرة (شهاب قدّور الملقب بأبي هريرة، أحد قادة فتح الإسلام) دفن هناك وغيره من المتطرفين، بعد معركة مخيم نهر البارد عام 2007 والمعارك التي دارت بين فتح الإسلام والجيش اللبناني في طرابلس. هناك لا أسماء ولا توابيت ظاهرة. الجثامين داخل صناديقها تحت الأرض، ولا رخامات ولا أسماء، لا شيء. كأنّ لا أحد دفن هنا. حين استفسرنا عن الأمر، قيل إن لا إجابة واضحة، أتى القرار بأن يدفن هؤلاء بهذه الطريقة. وقال حارس المقبرة عماد الصياد: “البعض انتظر أن يسأل أحد عنهم، لكنّ ذلك لم يحدث. دفنوا وانتهى الأمر”.
“سمانة” منى
تكاد الكلمات تتعثر في فم منى صاحبة محل سمانة في مقبرة الغرباء، بعدما فقدت السيدة السبعينية أسنانها كلها تقريباً. يبدو القهر واضحاً على وجهها، لا ابتسامة بسيطة، لا ظل ابتسامة حتى، تقول لـ”درج”: “أعيش في حي الغرباء منذ أكثر من 50 سنة، لا أتمنى سوى أن يأتي نيزك ويقتلعنا نحن وكل شيء”.
في السمانة الصغيرة التي فتحتها قبل 15 سنة، تضع منى حاجيات بسيطة، يزورها الكبار والصغار، ذلك أن السمانات معدودة هناك، على رغم المساحة الكبيرة.
تضم المقبرة عائلات من الضنية وعكار، مع أقلية طرابلسية، وبعض العائلات السورية، وتعيش كل عائلة في غرفة بلا توريق، وكانت هذه قبل معارك جبل محسن وباب التبانة من “التوتيا” والتنك، إلا أن القذائف التي وصل بعضها إلى داخل الغرف، أجبرت السكان على سقفها وترتيبها بالتي هي أحسن.
أزقة ضيقة من الباطون غير المصبوب تفصل البيوت المتلاصقة، بحيث لا تزيد المسافة بين غرفة وأخرى عن متر أو مترين. في المقابل، تعاني مقبرة الغرباء من إهمالٍ واضح، فالنفايات تملأ الدنيا، ويعاني السكان من نقص فادح في الخدمات.
مخالفات عمرها سنوات
في المقابل، يوضح رئيس قسم الشؤون الدينية في دائرة الأوقاف في طرابلس الشيخ فراس حسين بلوط أن “ليس كل سكان المقبرة من الفقراء، فمنهم من يؤجر بيته، فيما يسكن في مكان آخر، أو يعمل في منطقة أخرى”، مضيفاً: “لا شك في أنّ هناك حالات إنسانية صعبة وأن هناك إهمالاً متراكماً لحقوق الناس، لذلك كدائرة أوقاف نحن نتعاطف مع الناس، ولا نريد إعلان حرب لاستعادة أملاكنا، علماً أن مساحة المقبرة كبيرة جداً، وبإمكاننا أن نستفيد منها، والمخالفات عمرها سنوات، لذلك بات صعباً اقتلاع الناس من أمكنتهم”. ويلفت إلى أن “دائرة الأوقاف استطاعت في الفترة الأخيرة استعادة جزء بسيط من المقبرة، وأجبرت بعض المستثمرين والتجار هناك على دفع بدلات”. ويؤكد بلوط أن “من الصعب جداً حل موضوع المخالفات في مقبرة الغرباء، لا سيما أن الدولة لا تتدخل، والقضية تتأجل عاماً بعد عام، لكننا نحاول استرداد أجزاء بسيطة من المكان مع مراعاة الوضع الإنساني”.
ويلفت إلى أن “دائرة الأوقاف رفعت عدداً من الشكاوى بخصوص الاهتمام بنظافة المكان، إلا أنها لم تلقَ آذاناً صاغية، حتى الطريق الذي شيد لفصل جهتي المقبرة، يعتبر مخالفاً، إذ إنّ أحداً لم يدفع للأوقاف أجرةً أو بدلاً، مع العلم أن الطريق جزء من مقبرة الغرباء المؤلفة من أكثر من عقار، وهي كلها ملك لدائرة الأوقاف”.
غرباء في كل مكان
حين تكتب على غوغل “مقبرة الغرباء”، ربما ستصدمك حقيقة وجود مقبرة للغرباء في دول كثيرة، منها سوريا قرب ضريح السيدة زينب وتونس في مدينة جرجيس على الساحل الجنوبي من البلاد. ربما يكون منصفاً أن توجد مقبرة للغرباء في كل مكان، إذ إنّ لكل بقعة غرباءها. إنما ما يوجع حقاً أن يؤدي سوء الأحوال والبطالة والفقر إلى تحويل المقبرة إلى منطقة سكنية، حيث تنعدم أبسط شروط الحياة. لا طرق، لا عمل، لا خدمات، لا مكان، لا شيء!
المصادر: المواقع العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق