برزت عدّة اشكاليات تتعلق بظروف عمل الأجراء وسلامتهم في ظل انتشار فيروس كورونا COVID 19 في لبنان ومختلف أنحاء العالم، مما خلق نوعاً من التخبط في العلاقة التعاقدية بين المؤسسات والأجراء لديها خاصة لناحية السلامة والوقاية.
ولتوضيح هذه النقطة، نورد ما يلي:
صدر قانون العمل بتاريخ 23/9/1946 وخضع لبعض الإضافات اللاحقة. ورغم ذلك، لا تزال تلك التشريعات بحاجة إلى التطوير والتعديل للتناسب مع الأوضاع العامة للأجراء والمؤسسات بصورة عامة.
وبالعودة إلى نصوص قانون العمل، نجد فيها بعض الموجبات التي تقع على عاتق صاحب العمل لناحية وقاية الأجراء والحفاظ على سلامتهم خاصة في ظل انتشار فيروس كورونا. ويجب أن تكون المؤسسات نظيفة دائماً ومستوفية لشروط الصحة والراحة الضروريتين للأجراء. ويجب أن تكون المؤسسة مهيئة على وجه يضمن سلامة الأجراء (المادة 61 من قانون العمل).
ووفقاً لنص المادة 62 من القانون المذكور أعلاه، تحدد بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بعد أخذ رأي مصلحة الشؤون الاجتماعية، التدابير العامة للحماية والوقاية الصحية التي تطبق على جميع المؤسسات الخاضعة لها، ولا سيما فيما يتعلق بتدابير السلامة والانارة والتهوية وتجديد الهواء والمياه الصالحة للشرب والمراحيض واخراج الغبار والدخان ومنامة الأجراء والاحتياطات المتخذة ضد الحرائق.
كما فرض المرسوم الرقم 11802/2004 المتعلِّق بتنظيم الوقاية والسلامة والصحة المهنية في المؤسسات كافة الخاضعة لقانون العمل، على صاحب العمل القيام بعدة إجراءات وتدابير لوقاية العمال وتأمين سلامتهم.
وقد أكدت توصية مؤتمر العمل الدولي رقم 97 على أهمية حفظ صحة العمال في أماكن العمل واعتماد التدابير التقنية لمكافحة المخاطر التي تهدد صحتهم. كما دعى المؤتمر في توصيته رقم 31 صاحب العمل إلى تجهيز منشأته وأن يدير أعمالها بطريقة تكفل حماية كافية للعمال.
أما الاتفاقية الدولية (مؤتمر العمل الدولي) رقم 120، فقد شددت على اعتماد القواعد الصحية في التجارة والمكاتب وتزويد جميع الأماكن التي تستخدم بتهوية كافية ومناسبة بحيث يكون الهواء فيها متجدداً أو مطهراً. إضافة إلى توفير مياه صالحة للشرب بكميات كافية ومرافق للاغتسال ومرافق صحية كافية ومناسبة وتصان صيانة تامة. وفي نفس الإطار، أكدت الاتفاقية الدولية (مؤتمر العمل الدولي) رقم 115 على حماية العمال من الإشعاعات المضرة.
أما الاتفاقية الدولية (مؤتمر العمل الدولي) رقم 135 فقد أشارت إلى حماية العمال من مخاطر التعرض للمواد أو العوامل المسببة للسرطان. وفي السياق عينه، نصّت الاتفافية الدولية (مؤتمر العمل الدولي) رقم 136 على أهمية اتخاذ الوقاية من مخاطر التسمم الناجم عن البنزين. وهذا الأمر، ورد أيضاً في مضمون الاتفاقية الدولية (مؤتمر العمل الدولي) رقم 170 التي أشارت إلى ضرورة تزويد العمال بالمعلومات عن المواد الكيميائية في أماكن عملهم وعن التدابير الوقائية لالمناسبة لكي يتمكنوا من المشاركة بفعالية في برامج الحماية. كما ورد في هذه الاتفاقية، ضرورة ضمان عدم تعرض العمال للمواد بما يتجاوز حدود التعرض أو غيرها من معايير التعرض لتقييم بيئة العمل ومراقبتها، التي تحددها السلطة المختصة أو هيئة تقرها أو تعترف بها السلطة المختصة وفقاً للمعايير الوطنية أو الدولية.
كما أوجبت المادة 13 من الاتفاقية أعلاه، توفير الاسعافات الأولية لحماية سلامة وصحة العمال. كما يحق للعامل أن يبتعد عن خطر ناجم عن استعمال مواد كيميائية إذا كان لديه اعتقاد معقول بوجود خطر وشيك وشديد على سلامته وصحته. وأشارت الاتفاقية الدولية (مؤتمر العمل الدولي) رقم 155 والاتفاقية رقم 161 إلى أهمية قيام بيئة عمل مأمونة وصحية.
أما الاتفاقية العربية (مؤتمر العمل العربي) رقم 7 بشأن السلامة والصحة المهنية فقد أشارت إلى وجوب أن تشمل التشريعات العربية الأحكام الخاصة بالسلامة والصحة المهنية في جميع مجالات العمل وقطاعاته.
وفي هذا الإطار، إن الاتفاقيات والمعاهدات التي صادق عليها لبنان تسمو على القوانين الداخلية عملاً بمبدأ تسلسل القواعد المنصوص عليه في المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية فقرتها الثانية، حيث يقتضي تقديم أحكام المعاهدات الدولية على أحكام القانون العادي عند التعارض بينهما (محكمة التمييز المدنية، رقم 94 تاريخ 30/11/2010).
أما قانون الموجبات والعقود، فقد تطرق أيضاً إلى مسألة حماية العمال والحفاظ على سلامتهم، وفقاً لما ورد في نص المادة 647 منه التي أكدت على ما يلي: على صاحب العمل أن يسهر على توفير ما يلزم من شروط السلامة أو الصحة في المصانع والغرف وبالإجمال في جميع الأماكن التي يقدمها للعملة أو المستخدمين أو الخدم ليتمكنوا من تنفيذ اجارة العمل. وأن يقوم بكل تدبير واجب تستلزمه ماهية العمل والأحوال التي يتمم فيها، لحماية حياة المستخدمين أو الخدم ولصيانة صحتهم في أثناء الأعمال التي يقومون بها تحت ادارته لحسابه. وعلى صاحب العمل اتخاذ الاحتياطات التي تفرضها مبادئ الاحتراز الأولية.
كما أن المادة 122 من قانون الموجبات والعقود تنص على أن كل عمل من أحد الناس ينجم عنه ضرر غير مشروع بمصلحة الغير يجبر فاعله على التعويض. وفي السياق عينه، أشارت المادة 18 من قانون الأمراض المعدية تشير إلى أن كل من يخالف أو يعرقل تدابير العزل وسائر التدابير الوقائية يعاقب بالحبس من عشرة أيام إلى ستة أشهر وبغرامة مالية أو باحدى هاتين العقوبتين. وكل مخالفة للتدابير الوقائية المنصوص عليها في قرارات وزارية صادرة بموجب هذا القانون والمتعلقة بالمخالطين يعاقب مرتكبها بغرامة مالية (المادة 21 من القانون المذكور أعلاه).
كما يعاقب وفقاً للمادة 604 من قانون العقوبات، من تسبب عن قلة احتراز أو اهمال أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة في انتشار مرض وبائي من أمراض الانسان عوقب بالحبس حتى ستة أشهر. وإذا أقدم الفاعل على فعله وهو عالم بالأمر من غير أن يقصد موت أحد، عوقب بالحبس من سنة إلى 3 سنوات وبغرامة مالية. أما المادة 606 من قانون العقوبات، فقد أكدت على أنه يعاقب بالحبس حتى ستة أشهر وبغرامة مالية حتى 200 ألف ليرة لبنانية من لا يراعي الأنظمة الخاصة لمكافحة الأوبئة.
وعلى سبيل المثال، نجد أن العديد من التشريعات والاجتهادات العربية والدولية[1] أوجبت على صاحب العمل توفير كل أسباب الأمن والسلامة في منشأته وأن يؤمّن بيئة أمنة خالية من أي سبب قد يهدد الصحة والسلامة الصحية أو الجسدية أو النفسية وأن يهيء كل ما يلزم لتمكين العامل من تنفيذ التزاماته.
وإذا ارتكب صاحب العمل أي مخالفة، تقرر الجهة المختصة العقوبات المناسبة إلى أن يزيل صاحب العمل هذه المخالفة وصولاً إلى حد الاغلاق الموقت. ولا يجوز تحميل العامل أي نفقات تترتب على توفير أسس السلامة أثناء العمل. بالمقابل، إن توفير وسائل وقاية العمال من مخاطر العمل يكون من التزامات صاحب العمل. أما الالتزام باستخدام تلك الوسائل وما يتعلق بها من تعليمات فإنه يكون من التزامات العامل التي قد يعرضه تجاهلها إلى نتائج سلبية على صحته وصحة من معه.
مع التأكيد هنا، على أنه إذا تم اغلاق المؤسسة نتيجة عدم اتخاذها الاحتياطات اللازمة لحماية المؤسسة والعاملين فيها من أي أخطار، عندها يجمد (يتوقف) موقتاً عقد العمل لسبب ناتج عن صاحب العمل. ولكن، بالرغم من توقف العمال عن تنفيذ التزاماتهم بسبب اغلاق المؤسسة في مثل هذه الحالات، فإن دفع الأجور يقتضي أن يستمر خلال فترة الوقف لأن لا علاقة للعامل به، مع حقه الأساسي بالعودة من مكان عمله سالماً[2].
وبالتالي، إن هذا الاغلاق لا يؤدي إلى انقضاء عقود العمل مع احتفاظ العمال بحق قبض أجورهم طيلة هذه الفترة. وهذا المبدأ يؤدي إلى استقرار العمال بأعمالهم ومنحهم حق اعادة استئناف العمل بعد زوال سبب الوقف من دون أن يكون لذلك تأثير على الالتزامات العقدية. ويقتضي الأخذ بتطبيق القانون الأفضل لمصلحة الأجير (مجلس العمل التحكيمي في جبل لبنان، رقم 176/98) ويجب تفسير القواعد القانونية وفقاً لما هو أصلح للعامل (محكمة التمييز المدنية، تاريخ 13/4/1993) وترجيح مصلحة الأجير عند وجود الشك كونه الأضعف اقتصادياً (مجلس العمل التحكيمي في بيروت، تاريخ 15/2/1989) خاصة وأن الهدف من عقد العمل هو الحفاظ على الرابطة واستمرارية العمل تحقيقاً للاستقرار المنشود. أضف إلى ذلك، أن المادة 43 من قانون العمل أعطت الأجراء حق الاستفادة من الاتفاقيات والأنظمة الأكثر فائدة لهم (محكمة التمييز المدنية، رقم 130/97).
أضف إلى ذلك، أنه لا يجوز، وفقاً للمادة 7 من الاتفاقية الدولية (مؤتمر العمل الدولي) رقم 95، الاستقطاع من الأجور إلاّ بالشروط والمدى الذي تقرره القوانين أو اللوائح الوطنية أو تحدده الاتفاقيات الدولية أو قرارات التحكيم.
لذلك، يخرج هذا الأمر عن القاعدة العامة التي تقضي بأن الأجر مقابل العمل، حيث يستحق العامل أجراً في كثير من الحالات بالرغم من توقفه عن العمل في ظروف معينة. كما لا يؤثر وقف العمل موقتاً في الحقوق المقررة في الضمان الاجتماعي. فالإقفال هنا، لا علاقة للأجير به، ويقتضي الحفاظ على صحته وسلامته وفي الوقت عينه لا يجب حرمانه من راتبه ولا يجب تعريض صحته (وصحة عائلته) للمخاطر نظراً لأن الإقفال لا علاقة للأجير به وهو العنصر الأضعف اقتصادياً. ولا يجوز هنا لصاحب العمل التذرع بالمادة 50 الفقرة " و " من قانون العمل من أجل ايقاف راتب العامل لديه، لأن هذه المادة لا تقع في مكانها الصحيح في حالتنا الراهنة ولا يجوز - مبدئياً - تعديل بنود عقد العمل من جانب واحد وبالإرادة المنفردة. وقد أشارت المادة السابعة من الاتفاقية العربية (مؤتمر العمل العربي) رقم 15 بشأن تحديد وحماية الأجر إلى أنه يستحق العامل أجره كاملاً حتى وإن لم يؤد عملاً لأسباب خارجة عن ارادته، على أن تحدد التشريعات الوطنية تلك الأسباب. وإذا كانت القاعدة القانونية تحتمل التفسير على أكثر من وجه، يجب الأخذ بالتفسير الذي هو أكثر حماية لمصلحة العامل (مجلس العمل التحكيمي في بيروت، رقم 575 تاريخ 5/5/1971).
ويمكن اعتبار عدم توجه الأجير إلى مركز عمله بسبب إقفال المؤسسة نتيجة وجود مخالفة من هذه الأخيرة بمثابة حق لهذا الأجير في الحصول على أجره[3] ولا يمكن تحميل الأجير عبء ونتائج هذا الإقفال بل يجب الحفاظ على حقوقه المشروعة.
ختاماً، نشير إلى أنه وفي ظل التوجس الصحي الخطير وانتشار فيروس كورونا الذي بسببه تم تم اعلان التعبئة العامة من قبل الحكومة ومنع الاكتظاظ في مساحة جغرافية معينة ومنع التجمعات في الأماكن العامة والخاصة والتزام المواطنين في منازلهم والابتعاد عن الاختلاط، يقتضي على أصحاب المؤسسات والشركات اتخاذ كافة تدابير الوقائية من أجل الحفاظ على صحة وسلامة الأجراء والزبائن.
[1] على سبيل المثال: التشريعات المتعلقة بقضايا العمل في فرنسا وكندا والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا ومصر والأردن والجزائر والسعودية والبحرين الخ...
[2] وفقاً لإحصاءات منظمة العمل الدولية، يقع عالمياً في كل سنة حوالي 330 مليون حادث مرتبط بالعمل، ويموت كل سنة 2،4 مليون فرد كنتيجة لظروف مكان العمل غير الآمنة وغير الصحية (منشور مكتب العمل الدولي بعنوان: تحسين الابلاغ عن الحوادث والأمراض المهنية، جنيف 2017، ترجمة المعهد العربي للصحة والسلامة المهنية، ص.3).
وهناك أكثر من ٧٠ اتفاقية وتوصية لمنظمة العمل الدولية مرتبطة بقضايا السلامة والصحة.
[3] على سبيل المقارنة، إذا كان عقد العمل لا يعتبر معلقاً في مرحلة الإضراب بل يكون سارياً ومدفوع الأجر (مجلس العمل التحكيمي في بيروت، تاريخ 10/3/1993).
رئـيس المركز الدولي للملكية الفكرية والدراسات الحقوقية - فِكر
عضو الاتحاد العربي لحقوق الملكية الفكرية
عضو اتحاد المحامين العرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق