الأربعاء، 12 يناير 2022

النفط مقابل الشاي .. تحايل إيراني على العقوبات


 بقلم: د. عبدالله المدني*

من نافلة القول أن إيران دولة إقليمية كبيرة في مساحتها وسكانها، عريقة في تاريخها، متنوعة في تضاريسها، متعددة في أعراقها، غنية في ثرواتها النفطية والزراعية والحيوانية والمائية. وبعبارة أخرى فإنها تملك كل مقومات النهوض والبروز والمشاركة كعنصر فعال في المجتمع الدولي من أجل خير شعوبها وشعوب المنطقة. غير أن ما يعيق قيامها بهذا الدور هو نظامها السياسي الذي يسعى إلى التخريب والافساد وزعزعة الأمن والاستقرار وفق أجندة ارهابية توسعية طائفية، وأوهام وخرافات دينية ما جعل ايران معزولة ومنبوذة ومشكوك في تصرفاتها ومقيدة بسلسلة من العقوبات الدولية، من بعد أن كانت قبل أربعة عقود بلادا لها مصداقيتها واقتصادا يشار إليه بالبنان، وشعبا محسودا على معيشته ورفاهيته.

لقد انقلبت أوضاع هذه البلاد رأسا على عقب منذ تغير نظامها السياسي سنة 1979م، فراحت تنحدر إلى الهاوية عاما بعد عام، وراح شعبها بالنتيجة يئن من الفقر والجوع ونقص الخدمات علاوة على القمع الممنهج. وبطبيعة الحال فإن نظامها السياسي المتسربل برداء ديمقراطية صورية وشعارات فضفاضة فارغة لم يجد أمامه وسيلة للتهرب من العقوبات المفروضة عليه إلا باللجوء إلى الأساليب الملتوية التي كان آخرها أسلوب المقايضة الذي يعيدنا من جهة إلى عصور ما قبل ظهور النقود كوسيلة للدفع والمبادلات، أو عصور الانهيارات المالية الكبرى، ويذكرنا من جهة أخرى ــ رغم الفارق ــ ببرنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي أقره مجلس الأمن الدولي عام 1995 لمساعدة النظام العراقي السابق في تصدير جزء من نفطه كي يتمكن من استخدام العائدات في استيراد الاحتاجات الإنسانية.

والمقايضة ، كما هو معروف، نوع من أنواع المعاملات القديمة بين البشر، ونظام يعتمد على مبادلة شيء بشيء آخر، فمن يملك شيئا لا يحتاجه او يفيض عن حاجته ويريد شيئا بحوزة شخص آخر يقايض هذا الشخص، وبالتالي فهو يقع في نطاق ما يسمى بـ "بيع العين بالعين".

وهذا ما فعله النظام الايراني مؤخرا حينما توصل إلى اتفاق مكتوب مع حكومة سريلانكا تتعهد الأخيرة بموجبه بتصدير شحنات شهرية من منتجاتها من الشاي إلى إيران مقابل نفوط إيرانية استوردتها في الماضي بقيمة 250 مليون دولار. وبهذا تحايلت طهران على العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأممية المفروضة على قطاعيها البترولي والمصرفي، وتفادت استخدام احتياطياتها من العملات الصعبة في استيراد الشاي، وتجنبت احتجاجات شعبية متوقعة في حال اختفاء هذه السلعة من الأسواق، خصوصا وأنها سلعة لا يستغني الايرانيون عنها بدليل أن معدل استهلاكهم السنوي منها يصل إلى مائة ألف طن.

والحقيقة أن سريلانكا، التي تنتج نحو 340 مليون كلغ من الشاي سنوياً، وصدرت الى الخارج في عام 2020 نحو 265.5 مليون كلغ، بأرباح بلغت 1.24 مليار دولار، وافقت على هذه الصيغة وهي مطمئنة لتبعاتها لسببين أولهما أن الشاي مصنف ضمن المواد الغذائية المستثناة من العقوبات، وثانيهما أن التبادل تمّ بعيدا عن المصارف الإيرانية الواقعة تحت العقوبات، وبالتالي فإن الحكومة السريلانكية لن تـُتهم بأي خروقات. ومن ناحية أخرى تأمل كولومبو أن تقدر لها طهران ابرام هذه الصفقة فتزودها بامدادات نفطية بسعر رخيص، خصوصا وأنها تشكو عجزا في احتياطاتها من العملة الصعبة.

لكن هل سريلانكا هي الوحيدة التي سعى إليها الإيرانيون لعقد صفقة مقايضة، فوجدوا ترحيبا منها؟ الإجابة بالنفي طبعا، لأن "المقايضة" صارت جزءا من استراتيجية إيرانية متنامية لتحييد العقوبات الأمريكية والأممية باعتراف المسؤولين الايرانيين أنفسهم، الذين باتوا يتفاخرون بهذا الحل "العبقري"، ويرون فيه سياسة جدية لإبطال فاعلية العقوبات على بلادهم. ففي عامي 2013 و2014 مثلا ظهرت تقارير تفيد بأن إيران وروسيا اتفقتا على مبادلة نحو 500 ألف برميل من النفط الإيراني ببضائع روسية، في صفقة وصلت قيمتها إلى 1.5 مليار دولار شهرياً. ومؤخرا صرح مسؤول في اللجنة الإيرانية العليا للسكن، بأن إيران اشترطت على شركات أجنبية  صينية وتركية، أن تأخذ نفوطا مقابل مستحقاتها المالية الناتجة عن مشاريع تنفذها في إيران.

لعل أكثر ما أثار دهشة المراقبين هو ما نشرته صحيفة كيهان الإيرانية أواخر ديسمبر الفائت من انتقادات لصفقة "الشاي مقابل النفط" ومثيلاتها على لسان عضو الغرفة التجارية "مسعود دانشمند" الذي لم يتردد في قول ما معناه: "يستوردون نفطنا مقابل بضائع صينية بائرة وشاي سريلانكي من الدرجة الثالثة لا تقبله الأسواق العالمية ونحن مضطرون لقبوله، ومبيدات زراعية صينية عالية الخطورة على محاصيلنا ما جعلها غير مقبولة في الخارج ومسببة للأمراض في الداخل" (في إشارة إلى تقارير نشرتها وسائل الإعلام الإيرانية عن رفض دول مثل روسيا والهند وأوزبكستان والإمارات وتركمانستان استقبال منتجات زراعية ايرانية بسبب استخدام المبيدات الصينية "غير القياسية" فيها.

والحقيقة أن كيهان لم تنشر تصريح دانشمند من باب إيمانها بحرية الرأي، وإنما للرد عليه واتهامه بالعداء لسياسات النظام. حيث علق محرر الصحيفة، التي يشرف عليها مكتب المرشد الأعلى، قائلا:"هناك تيار على ما يبدو غير راضٍ بعودة أموال بلادنا بأساليب مبتكرة، فبدأ بالتشويه والتشويش".



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يناير 2022م


الأربعاء، 5 يناير 2022

محاكمة العصر في ماليزيا تؤجج الخلافات الداخلية

 


 بقلم: د. عبدالله المدني*

لم تكد ماليزيا تخرج من أزمتها السياسية باختيار إسماعيل صبري يعقوب في شهر أغسطس الفائت كرئيس جديد للحكومة، إلا ودخلت اليوم أزمة جديدة بسبب تضارب المواقف في أوساط حزبها التاريخي الحاكم (المنظمة الوطنية المتحدة لشعب الملايو، المعروفة اختصارا باسم أمنو) حول محاكمة رئيس الحكومة الأسبق نجيب رزاق، الذي شغل منصبه من أبريل 2009 حتى مايو 2018 وكان رئيسا لـ "أمنو" من عام 2008 وحتى تاريخه.

ففي أوائل ديسمبر المنصرم أيدت محكمة الاستئناف الماليزية برئاسة القاضي عبدالكريم عبدالجليل بالاجماع حكما سابقا بإدانة رزاق لاختلاسه مبلغ 42 مليون رينغيت (حوالي 9.9 مليون دولار أمريكي) من صندوق إم دي بي السيادي، رافضة بذلك كل المحاولات والدفوع القانونية لتبرئته. وكانت المحكمة العليا الماليزية قد أصدرت في يوليو 2021 حكما بسجن رزاق لمدة 12 عاما وتغريمه مبلغا يوازي نحو 45.7 مليون دولار أمريكي في سبع تهم شملت اساءة استخدام السلطة وخيانة الأمانة وغسيل الأموال والتحايل على القانون.

وعلى حين ينظر البعض إلى هذا القرار القضائي الجديد بأنه خطوة هامة على طريق مكافحة الفساد وترسيخ لإستقلالية السلطة القضائية، يتخوف البعض الآخر من انعكاساته السلبية على الأوضاع السياسية الهشة في البلاد، ويتخوف البعض الثالث من أن يشكل القرار سابقة تطبق على زعيم "أومنو" الحالي أحمد زاهد حميدي الذي يواجه اتهامات جنائية شبيهة.

فنجيب رزاق ليس بالشخصية الهامشية في الحياة السياسية الماليزية كي تدان بهذه السهولة، ويسدل الستار نهائيا على طموحاته في العودة إلى السلطة. ذلك أنه من الرموز الكبيرة في الحزب الذي قاد البلاد إلى الاستقلال عام 1957 عن بريطانيا وتولى قيادتها على مدى ستة عقود دون انقطاع، وهو سياسي متنفذ وله اتباع كثر وشغل العديد من الحقائب الوزارية في الحكومات الماليزية المتعاقبة منذ منتصف السبعينات، ناهيك عن أنه نجل "تنكو عبدالرزاق" ثاني زعماء البلاد (من بعد رئيس الوزراء الأول "تنكو عبدالرحمن") الذي شغل منصبه من 1970 إلى 1976 وعرف لدى الماليزيين بجهوده في تحرير أرياف البلاد من الفقر.

ولكل هذا، يقول محاموه بقيادة الحقوقي المعروف "محمد شافعي عبدالله" أن السبل لم تستنفذ كلها بعد لإستئناف الحكم الصادر ضد الرجل السبعيني. حيث قرروا أن ينقلوا القضية إلى المحكمة الفيدرالية التي تعتبر أعلى محكمة استئناف نهائية في ماليزيا، وبهذا تمّ إخلاء سبيل رزاق بكفالة مالية، ما سمح له بمزاولة عمله في البرلمان الاتحادي كنائب منتخب، انتظارا لقرار المحكمة الفيدرالية الذي قد يستغرق نحو عام.

لكن مؤيدو وأعوان رزاق داخل أجنحة الحزب الحاكم وخارجها يأملون أن يقوم العاهل الماليزي السلطان "عبدالله إبن السلطان أحمد شاه" قبل ذلك باصدار عفو ملكي عنه، خصوصا وأن ملك ماليزيا يملك صلاحية منح العفو الكامل عن جميع الجرائم المرتكبة على أراضي الإتحاد الماليزي وإلغاء أحكام الإدانة ذات الصلة، ناهيك عن أن هناك سوابق في هذا الشأن يمكن البناء عليها. فسلطان ماليزيا السابق محمد الخامس أصدر في عام 2018 عفوا ملكيا عن زعيم المعارضة المعتقل آنذاك السياسي أنور ابراهيم، ما حرر الأخير من سجنه وأسدل الستار على كافة التهم التي فبركها ضده الزعيم الماليزي الأسبق مهاتير محمد  بدوافع سياسية، الأمر الذي مهد الطريق أمامه للعودة إلى حلبة السياسة وخوض الانتخابات العامة لسنة 2018.

وسادت في الأشهر القليلة الماضية مخاوف وتكهنات في أوساط المعارضة الماليزية من أن تؤدي عودة "أومنو" إلى السلطة، على رأس الحكومة الفيدرالية الجديدة برئاسة إسماعيل صبري يعقوب بتكليف من ملك البلاد، إلى استخدام الأخير لنفوذه وسلطاته للتأثير على السلطة القضائية بغية تبرئة رزاق، خصوصا وأن رزاق لعب دورا لجهة صعوده إلى قيادة البلاد، وذلك حينما قاد هو وصديقه "أحمد زاهد حميدي" تمردا داخل الحزب الحاكم للإطاحة برئيس الحكومة السابق محيي الدين إسماعيل. 

لكن يبدو أن صبري يعقوب استوعب مخاطر التدخل في أحكام القضاء، رغم استيائه من حكم القاضي عبدالجليل المشار إليه، فقرر النأي بنفسه عن التدخل والضغط حفاظا على سمعته وتفاديا لسكاكين المعارضة المتربصة به وحملات مهاتير محمد التشهيرية المتوقعه. غير أن قراراه هذا قد يؤدي إلى اتساع شقة الخلاف داخل الحكومة والحزب الحاكم، وقد ينجم عنه وصفه بالقائد المتخاذل الذي يتخلى عن رجاله في أوقات الشدة والأزمات.

في غضون ذلك، يستمر رزاق في استغلال كل الأدوات المتاحة أمامه، ولاسيما وسائط التواصل الإجتماعي والمنصات الالكترونية، لحشد التأييد لشخصه ولتبييض صفحته وتصوير ما حدث له من اذلال ومهانة على أنه محاولة استهداف رخيصة قام بهاأتباع مهاتير محمد بالتعاون مع شخصيات من إدارته السابقة مثل محافظة بنك نيجارا ماليزيا "ستي أختر عزيز" وزوجها توفيق أيمن ورجل الأعمال الهارب "لو تايك جوهو"، الذين يتهمهم بتحويل أموال إلى حساباته البنكية دون علمه. ولعل ما شكل دفعة معنوية كبيرة لنجيب رزاق، وجعله أكثر اصرارا على المضي قدما في هذا التوجه هو نتائج الانتخابات المحلية في ولاية ملقا الجنوبية في نوفمبر الفائت. ففي انتخابات هذه الولاية الصغيرة، التي تعتبر جوهرة ماليزيا، قاد رزاق حزبه ــ رغم ما أحيط بصورته وشخصه من تشويه ــ إلى انتصار ساحق تمثل في سيطرة "أمنو" عبر تحالفاتها على 21 مقعدا من مقاعد برلمان الولاية البالغ عددها 28 مقعدا.

يقول المراقبون أن هذا الانتصار قد يشجع رزاق والجناح المؤيد له داخل الحزب الحاكم على الضغط على الحكومة الحالية لإجراء انتخابات عامة مبكرة في التاريخ المقرر وهو شهر يوليو 1923 أو قبل ذلك، كي يخوضها من أجل تأكيد شعبيته وثقة الناخبين به.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: ديسمبر 2021م