الجمعة، 30 ديسمبر 2022

لماذا تعزز استراليا واليابان روابطهما أمنيا؟


 

بقلم: د. عبدالله المدني*

ترتبط أستراليا واليابان بعلاقات ودية بصفة عامة، بل شهدت علاقاتهما البينية نموا متواصلا في مختلف المجالات على مدى العقود الماضية بسبب القواسم المشتركة العديدة بينهما. فرغم تباينهما في الثقافة والمساحة وعدد السكان والقوة الاقتصادية، ورغم ما شهدته علاقاتهما من أزمات وخلافات في الماضي بسبب غزو القوات اليابانية لآسيا وهجومها على مدينتي داروين وسيدني، ثم مشاركة القوات الاسترالية في احتلال اليابان زمن الحرب العالمية الثانية، إلا أن القواسم المشتركة بينهما سهلت في حقبة ما بعد الحرب تحولهما إلى شريكتين استراتيجيتين رئيسيتين في منطقة آسيا والمحيط الهاديء. فكلتاهما قوتان مزدهرتان وبلدان ديمقراطيان صناعيان وحليفتان مهمتان للولايات المتحدة، وتواجهان نفس الأخطار والتهديدات، وتشغلهما نفس المخاوف.

صحيح أن التجارة شكلت حجر الزاوية في علاقة البلدين منذ القرن 19  وذلك حينما استوردت اليابان من استراليا أول شحنة من الفحم سنة 1865 ثم أول شحنة من الصوف سنة 1888، قبل أن يتنوع ويزداد التبادل التجاري تدريجيا حتى صارت اليابان ثالث أكبر شريك تجاري لأستراليا في عام 1930، وثاني أكبر سوق تصدير لأستراليا بحلول منتصف الثلاثينات. وصحيح أيضا أن علاقات البلدين البينية لئن بدأت تجارية وازدهرت كثيرا بعد بروز اليابان كقوة اقتصادية واستثمارية كبيرة وبلد مستورد للغذاء والمواد الخام وبروز استراليا كبلد مصدر للطاقة والغذاء والمعادن، إلا أنها تشعبت سريعا إلى مجالات أخرى صناعية واستثمارية وثقافية وسياحية وعلمية، وصولا إلى الشراكة الأمنية والدفاعية والاستخباراتية في السنوات الأخيرة على المستوى الثنائي أوعلى المستوى الجماعي. 

ونجد تجليات ذلك في تعاون طوكيو إلوثيق مع التحالف الاستخباراتي الموقع عام 1941 تحت اسم "العيون الخمسFVEY" من أجل المساهمة في استخبارات الإشارات بين الولايات المتحدة واستراليا وبريطانيا وكندا ونيوزيلنده، والاتفاقية الثنائية الموقعة عام 2015  بين طوكيو وكانبيرا للتعاون في مكافحة الإرهاب، وتعاون اليابان الفعال في رؤية "منطقة المحيطين الهندي والهاديء الحرة والمفتوحة FOIP " مع استراليا والولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا والهند منذ عام 2016، وانضمام اليابان سنة 2021 إلى أستراليا والولايات المتحدة والهند في التحالف الأمني الرباعي المعروف باسم "كوادQUAD ". وأخيرا اتفاقية الأمن المتبادل بين كانبيرا وطوكيو (RAA) في 2022 للتعاون والتدريب المشترك على أنشطة الإغاثة والانقاذ في حالات الكوارث.

مؤخرا حل الزعيم الياباني فوميو كيشيدا بمدينة بيرث (غرب أستراليا) في أول زيارة لرئيس وزراء ياباني إلى هذا البلد منذ عام 2018، وعقد محادثات مع نظيره الأسترالي أنتوني ألبانيز، أثمرت عن إطلاق البلدين لتحالف استراتيجي تاريخي جديد، يجدد ويعزز تحالفاتهما القديمة ويعمقها مع واشنطن ويرسل إشارات قوية للآخر بأنهما عازمتان على العمل معا من أجل ضمان الأمن في منطقة آسيا والمحيط الهاديء ومنع عسكرتها.

وعلى الرغم من أن الإعلان المشترك عن التحالف الجديد وكذا الكلمات المتبادلة بين الضيف والمضيف لم يشر صراحة إلى من هو المقصود بـ "الآخر”، واكتفى بأنه يهدف إلى تعزيز التعاون العسكري والأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية وإجراء تدريبات عسكرية مشتركة، فإن المراقب لا يحتاج إلى كبير عناء لمعرفة أن المقصود بالآخر هو الصين أولا ورربما كوريا الشمالية ثانيا. والمعروف أن العلاقات اليابانية ــ الصينية متوترة وتخيم عليها هواجس وخلافات قديمة متجددة، بعضها تاريخية وبعضها الآخر جغرافية/ سيادية، وبعضها الثالث بسبب روابط اليابان القوية مع تايوان وهونغ كونغ. أما كوريا الشمالية فهي تمثل مصدر تهديد عسكري دائم لليابان بسبب ترسانتها النووية ونظامها الشمولي ومغامرات زعيمها الطائش. ومن جهة أخرى ، فإن علاقات كانبيرا ببكين هي الأخرى ليست على ما يرام منذ 2018 (وإن كان التبادل التجاري بينهما مزدهرا) بسبب خلافاتهما حول الجيل الخامس (جي 5) وشكوى كانبيرا من التجسس عليها والهيمنة الصينية على بحر الصين الجنوبي المفترض أن يكون دوليا مفتوحا، وصولا إلى مواقفهما المتباينة من تايوان وهونغ كونغ ومنشأ جائحة كوفيد 19، ناهيك عن اتهام كانبيرا لبكين بتوسيع نفوذها السياسي في استراليا عن طريق إغراء الحكومات المحلية بالإنخراط في مشروع "الحزام والطريق" الصيني.

أما توقيت زيارة الزعيم الياباني وتوقيت الإعلان عن التحالف الجديد، فلا شك أن له علاقة بالقلق المتزايد في منطقة آسيا/ الباسيفيكي مما وصفه كيشيدا بـ“بيئة استراتيجية تزداد قسوة" ربما في إشارة مبطنة إلى التعاون الروسي ــ الصيني الوثيق على هامش الحرب في أوكرانيا ( قال رئيس المخابرات الأسترالية "أندرو شيرر" في مارس الماضي أن التقارب الاستراتيجي الروسي الصيني تطور مقلق قد يجر إلى صراعات كبرى، مضيفا أن قادة البلدين يخططون للهيمنة على المحيطين الهندي والهاديء)، وتهديدات بكين لتايبيه وما خلقته من توتر في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، واستمرار بيونغيانغ في اطلاق الصواريخ الباليستية فوق وحول أراضي اليابان، ومواصلة الصينيين لخططهم الرامية لبناء جيش عالمي (دعا الزعيم الصيني شي جينبينغ إلى ذلك صراحة في مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير).

ولعل من نافلة القول أن الخطوة اليابانية الأسترالية أغضبت الصين، لاسيما وأن البلدين يملكان قدرات هائلة في مجالي الإشارة والاستخبارات الجيوفضائية مثل التنصت الإلكتروني والأقمار الاصطناعية العالية التقنية التي توفر معلومات استخباراتية ثمينة عن الأعداء. ناهيك عن أن تمكين اليابان من تقاسم معلومات الإشارة مع دولة أجنبية غير الولايات المتحدة، يشكل في حد ذاته حدثا مفصليا قد يسرع انضمامها إلى "العيون الخمس" رسميا.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص بالشأن الآسيوي

تاريخ المادة: نوفمبر 2022م


الاثنين، 19 ديسمبر 2022

قتل الجندي الأيرلندي على ايدي عملاء الحرس الثوري الايراني يحتم على الامم المتحدة بمبادرة تنفيذ القرار الدولي 1559 تدريجيا من قبل الجيش اللبناني


واشنطن في    19 كانون الاول 2022

يتقدم المجلس العالمي لثورة الأرز من قيادة قوات الأمم المتحدة ومن الشعب الإيرلندي الصديق بأحر التعازي لفقد أحد جنود الكتيبة الأرلندية العاملة في جنوب لبنان ضمن قوات اليونيفيل في العاقبية جنوب صيدا أول من أمس، كما يتمنى الشفاء العاجل للجنود الجرحى. وهو يرى بأن الفاعلين الذين خططوا لعملية التعدي على قوات حفظ السلام هم أنفسهم من اغتالوا في مرات عديدة اللبنانيين الشرفاء وكان آخرهم المناضل السياسي لقمان سليم الذي قتل بدم بارد في نفس المنطقة. وأن التلطي خلف مقولة "الأهالي" هي تلطيخ لسمعة اللبنانيين في كل مرة يريد عملاء الحرس الثوري الإيراني توجيه رسالة ما للمجتمع الدولي.

من هنا يدعو المجلس العالمي لثورة الأرز الأمم المتحدة لاتخاذ إجراءات أساسية بموضوع تنفيذ القرارات الدولية في لبنان وعلى راسها القرار 1559 الذي يعالج موضوع السلاح ويكفل انهاء الحالة الشاذة للتفلت الأمنى الذي أدى لتهاوي السلطة وتعطيل الديمقراطية ومنع انتخاب رموزها واعتبار البلد دولة فاشلة غير قادرة على تأمين أمور الناس من كافة النواحي الاقتصادية والمعيشية والأمنية. 

ويعتبرالمجلس العالمي لثورة الأرز بأن معالجة هذا الوضع الشاذ هو من واجبات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الأساسية لتأمين الاستقرار العالمي ومنع قيام محميات مسلحة خارجة عن القانون. ويقترح أن تقوم الأمم المتحدة بمبادرة لبدء تنفيذ القرار الدولي 1559 تدريجيا بأن تعمل على حماية منطقة في قلب لبنان تضم بيروت الادارية والمناطق التي لا يحتلها حزب إيران في الجبل والبقاع حتى الحدود الشمالية في عكار تكون خالية من المليشيات المسلحة وقادرة على تأمين السلم الأهلي وحفظ حقوق المواطنين وعودة الحياة الطبيعية لهم بانتظار تسليم الحزب والمخيمات الفلسطينية أسلحتهم في بقية المناطق إلى الدولة. هذا إذا لم يكن هناك امكانية لوضع لبنان بكامله تحت البند السابع وتنفيذ القرارات الدولية مرة واحدة والعمل على اعادة تفعيل المؤسسات وتدريب اللبنانيين على الادارة البعيدة عن الفساد والتبعية وفرض حياده وحمايته من أي تدخل خارجي حتى تستقر الأمور من حوله لينعم مجددا بالسيادة والاستقلال.  


الثلاثاء، 13 ديسمبر 2022

تفوق دولة نامية على بلد صناعي .. اندونيسيا واستراليا مثالا


 بقلم: د. عبدالله المدني*

بداية لا بد من التنويه إلى أن التفوق المشار إليه في عنوان المقال يختص بحقل واحد هو صناعة مكونات السيارات الكهربائية التي تبدو أنها صناعة المستقبل في ظل اهتمام دول العالم بالبيئة، وبالتالي سعيها إلى احلال السيارات الكهربائية تدريجيا مكان المركبات التقليدية الميكانيكية العاملة بالوقود وانبعاثاته الكربونية الضارة. والمعروف أن الأمر يتطلب استبدال المحرك الأصلي للمركبة بمحرك كهربائي مع المحافظة على المكونات الأخرى، وهذا بدوره يستدعي توفير بطاريات يعاد شحنها بالكهرباء وتكون خفيفة وأسعارها في متناول اليد، بديلا عن بطاريات الليثيوم الثقيلة مرتفعة الثمن التي تستخدم منذ عام 2009 في السيارات الكهربائية الصغيرة.

جملة القول أن مصانع سيارات عديدة في العالم باتت تتنافس اليوم على تلبية هذه المواصفات وتطوير ما يمكن تطويره ولا سيما لجهة المسافة التي تقطعها السيارة الكهربائية دون إعادة شحن بطاريتها مع خفض مدة الشحن إلى أقصى حد ممكن.

وحينما نبحث عن انتاج مثل هذه المركبات في آسيا نجد أن أستراليا، التي تعتبر نفسها دولة آسيوية بحكم موقعها الجغرافي، تمتلك كافة مكونات إقامة صناعة السيارات الكهربائية، فهي مثلا تملك احتياطات ضخمة من المكونات الخمسة المطلوبة في هذه الصناعة (النيكل والليثيوم والمنغنيز والكوبالت والجرافيت)، كما أنها تتمتع ببنية تحتية صناعية قوية وقوى عاملة ماهرة وخيارات الطاقة المتجددة. فلماذا يلاحظ تخلفها في هذا المجال مقارنة بجارتها الأندونيسية الأقل امكانيات والأضعف اقتصادا والتي تعد دولة نامية مكبلة بمشاكل لا حصر لها؟

الذين حاولوا الإجابة على هذا السؤال، وجدوا أن الحكومة الأسترالية السابقة بقيادة سكوت موريسون ظلت طوال فترة وجودها في السلطة معادية للمركبات الكهربائية ومسألة التحول من وقود البنزين إلى الكهرباء، بل لم تتعاط بجدية مع موضوع وضع حد أدنى من معايير كفاءة الوقود وفرض ضرائب إستيراد مرتفعة. هذا ناهيك عن عامل آخر يتمثل في ارتفاع تكاليف العمالة في استراليا. ومن ناحية أخرى راحت استراليا تبيع بعض مكونات هذه الصناعة، ولاسيما مكونات بطارياتها إلى الخارج دون قيود، في الوقت الذي أقرت فيه جاكرتا قانونا جديدا للتعدين عام 2014 يقيد تصدير معادن البلاد الخام (تحديدا احتياطياتها الضخمة من معدن النيكل في جزر سولاويزي وملوكو) بدعوى ضرورة تصنيعها داخليا بمساعدة دول صديقة لأن العائدات حينئذ ستكون أكبر بكثير مما لو تمّ تصديرها إلى الخارج.

وهكذا، حينما شهد العالم ولادة عصر السيارات الكهربائية وارتفاع مبيعاتها في أوروبا، كانت الاستثمارات الصينية والكورية الجنوبية جاهزة للقدوم إلى أندونيسيا، ما سمح للرئيس الأندونيسي "جوكو ويدودو" ومستشاريه الاقتصاديين أن يتبنوا فكرة تحويل أرخبيلهم إلى قوة طليعية في ثورة السيارات الكهربائية على المستوى الآسيوي على الأقل، وذلك باستخدام خامات وعمالة محلية وأموال وتقنيات أجنبية، بينما لم تتخذ الحكومة الأسترالية أي خطوة إلى الأمام على هذا الصعيد.

والجدير بالذكر في هذا السياق أن ويدودو جوبه بمعارضة ومخاوف من لدن بعض المنظمات والأحزاب المحلية لإرتماء البلاد في أحضان المستثمرين الصينيين في هذا المجال وغيره، لكن ما حدث أن الساعد الأيمن للرئيس وكبير وزرائه لشؤون الاستثمار الجنرال السابق "لوهوت بانجايتان" اقنع رئيسه بالمضي قدما في الخطة دون إلتفات إلى مخاوف وقلق المعارضين، قائلا في تصريح شهير له: "لقد دعونا الجميع ولم يأت أحد غير الصينيين، وهم موضع ترحيب ويمكن التعامل معهم بسهولة ومرونة". في المقابل ــ وكما جادل المفكر الأسترالي المعروف "دونالد هورن" ذات يوم ــ بأن استراليا مثقلة بزعامة سياسية مترددة وعديمة الإبداع وقليلة المبادرات من الدرجة الثانية، بل لا تؤمن بأن دور الدولة هو أن تأخذ زمام المبادرة في الأعمال، (أي على العكس من أندونيسيا). 

وكنتيجة لهذا الإختلاف بين القيادتين الأندونيسية والأسترالية لجهة سرعة المبادرة والتقاط الفرصة، قرأت في الصحافة الآسيوية مؤخرا ما يفيد بأن الأستراليين  سوف يستيقظون قريبا على ثمرة المبادرة الأندونيسية ممثلة في أول مصنع لبطاريات السيارات الكهربائية في جنوب شرق آسيا. والمصنع، هو مشروع مشترك بقيمة 1.1 مليار دولار بين مجموعة إل جي وشركة بوسكو الكوريتين الجنوبيتين، وهوايو القابضة الصينية، وكونسورتيوم "إندستري باتيراي" الأندونيسية المملوك للدولة. ومن المقرر أن يبدأ المصنع انتاج بطاريات لمصنع أقامته شركة هيونداي الكورية الجنوبية بالقرب من جاكرتا لتجميع السيارات الكهربائية بتكلفة 1.5 مليار دولار.

والحقيقة ان هذا المصنع لن يكون المصنع الوحيد من نوعه في أندونيسيا. ذلك أن شركات مركبات أخرى يابانية وألمانية اتفقت مع عمالقة صناعة البطاريات في الصين على بناء مصانع أخرى للسيارات الكهربائية داخل أندونيسيا. ولعل ما يشجعها ليس العمالة الرخيصة فحسب وانما أيضا توفر خام النيكل ومراكز لمعالجته (تعد إندونيسيا أكبر دولة منتجة للنيكل في العالم ففي العام الماضي انتجت 950 ألف طن أو 35% من الانتاج العالمي).



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: ديسمبر 2022م



الثلاثاء، 6 ديسمبر 2022

زعيم ماليزيا الجديد .. هل سينجح في قيادة بلاده؟

  


بقلم: د. عبدالله المدني*

قلنا في مقال سابق أن السياسي الماليزي المخضرم "أنور ابراهيم" (75 عاما) تمكن أخيرا من تحقيق حلم حياته في قيادة ماليزيا من بعد 30 عاما كان فيها على لائحة الإنتظار، وعشر سنوات تعرض خلالها إلى الإذلال والمهانة والاعتقال والحبس والاتهامات الكيدية بالخيانة والشذوذ على يد أقرب أصدقائه ورفاقه الحزبيين، رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد. لكن الرجل يجد نفسه اليوم في مأزق جديد. فالتحديات التي تواجهه لقيادة بلاده إلى بر الأمان كبيرة وكثيرة، وقد تطيح به قبل أن يهنأ بالزعامة، خصوصا في ظل وجود ساسة كثر يطمحون للحلول مكانه، بل يتنافسون بشراسة على كرسيه، ناهيك عن أن إئتلافه يحتكم على الأغلبية البرلمانية البسيطة، بمعنى أنه في حاجة دائمة إلى دعم من أحزاب أخرى ممثلة في البرلمان، وهذه الأحزاب قد تتخل عنه في أي لحظة إذا لم تلب مطالبها أو لم تحصل على حقائب هامة في الحكومة. نقول هذا رغم أن بعض المراقبين يرى العكس بقوله أن الاتفاق الذي أبرمه ابراهيم بين تحالفه (باكاتان هارابان PH) وتكتل باريسان ناسيول (BN) وحزب غابونغان السرواكي (GPS) يمنحه قوة الاستمرارية والاستقرار.

يمثل صعود ابراهيم ثاني انتقال سلمي للسلطة في هذه البلاد، من خلال صناديق الاقتراع منذ عام 2018، إلا أن صعوده جاء في زمن ماليزي عصيب يسوده الانقسام السياسي معطوفا على انقسامات عرقية وجهوية، ونمو اقتصادي متباطيء، وتذمر شعبي من الفساد والتضخم وسوء الخدمات. وربما كانت هذه العوامل مجتمعة هي التي دفعت الناخب الماليزي، في الانتخابات النيابية الأخيرة، إلى تفويزه بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية (83 مقعدا)، عله يحقق ما عجز أسلافه عن تحقيقه.

صحيح أن أداء البورصة الماليزية تحسن قليلا بمجرد الإعلان عن تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، وصحيح أن حلفاء ماليزيا في الغرب رحبوا بتسلمه السلطة في كوالالمبور، واعتبروه انتقالا من هيمنة الحزب الواحد منذ الإستقلال إلى شكل من أشكال التنافسية المطلوبة، لكن كل هذا لن يفيد الرجل مالم يثبت سريعا للداخل أن بوسعه وضع حد لمشاكل البلاد المتفاقمة.

مطلوب بالحاح من ابراهيم ان يعمل أولا على معالجة الانقسام المسيطر على المجتمع الماليزي بصفة عامة عبر التأكيد على هوية البلاد الإسلامية ووسطتيها ونظامها الدستوري في مواجهة حملات التشكيك في توجهات ائتلافه (PH) المتعدد الأعراق والذي يضم حزبا ممثلا للعرق الصيني، وهو حزب كثيرا ما اتهم من قبل الماليزيين من عرق الملايو بميوله الشيوعية. هذا ناهيك عن أن الماليزيين الملاويين (يشكلون نسبة 70 بالمائة من أصل عدد السكان البالغ 33 مليون نسمة) متخوفون من تصريحات سابقة لابراهيم دعا فيها إلى نبذ السياسات التي تحابي الأغلبية الملايوية على حسابات الأقليات الصينية والهندية. 

ومطلوب منه أيضا أن يضع حدا للفساد السياسي المستشري الذي لا يزال موضوعا متدلاوا منذ  فضيحة رئيس الحكومة الأسبق نجيب رزاق الذي حوكم بتهمتي السرقة واستغلال النفوذ والتزوير، في وقت يتهمه بعض الماليزيين ــ دون دليل ــ  بعقده صفقة سرية مع أحمد زاهد حميدي الرئيس الحالي للجبهة الوطنية المتحدة للملايو(UMNO)، فحواها أن يلعب الأخير دور الوسيط لصالح توليه قيادة البلاد مقابل أن يحميه من قضايا فساد متورط فيها. 

وبالتزامن، على ابراهيم أن يجد حلا سحريا لأخراج البلاد من كبوتها الاقتصادية عبر اتخذ خطوات سريعة لإحتواء التضخم وخلق فرص عمل جديدة وضمان الأمن الغذائي مع تعافي البلاد من جائحة كورونا، ومعالجة ارتفاع تكاليف المعيشة. 

لكن قبل كل هذا مطلوب منه أن يشكل حكومة قوية متماسكة ومتناغمة ومقبولة من رموز ائتلافه العريض المتبانين في طموحاتهم وتوجهاتهم، وهذه عقدة العقد، لاسيما وأن هناك شخصيات عديدة تحلم بأن تتولى مناصب متقدمة مثل منصب نائب رئيس الوزراء أو حقيبة المال، ناهيك عن حقيقة أن إبراهيم سيجد نفسه قريبا (في التاسع عشر من ديسمبر الجاري) أمام مساءلات برلمانية حول ما إذا كانت حكومته ستعتمد الميزانية الحالية أم تقدم بديلا عنها. والمعروف أن وزير المالية المنتهية ولايته "تنكو ظفر الله عبدالعزيز كان قد قدم ميزانية البلاد لعام 2023 بقيمة 80 مليار دولار أمريكي في السابع من أكتوبر الفائت أي قبل حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. 

ويعتقد الكثيرون أن جلسة المساءلة البرلمانية الأولى سوف تشهد أيضا نقاشا حول مدى شرعية تكليفه بتشكيل الحكومة. حيث أن رئيس الوزراء الأسبق "محيي الدين ياسين" يعتقد أنه هو الأولى بقيادة البلاد من ابراهيم كونه يتزعم ائتلافه اليميني المعروف باسم "بريكاتان ناسيونال PN" (72 مقعدا) ويحظى بدعم نواب آخرين كثر، ولاسيما نواب (UMNO) التي حكمت البلاد منذ استقلالها عام 1957 إلى عام 2018 دون انقطاع.

نخالة القول: إن استطاع ابراهيم أن يترجم أقواله وتصريحاته المعلنة إلى أفعال، فإنه سيبقى في السلطة. والعكس صحيح إن خالف ما قاله مؤخرا من أنه سيسعى إلى الإصلاح والحوكمة ومكافحة الفساد والمحسوبية وتخليص البلاد من العنصرية والتعصب الديني والعرقي والجهوي.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: ديسمبر 2022م