الثلاثاء، 30 مايو 2023

إندونيسيا على موعد مع انتخابات ساخنة في 2024

 


بقلم: د. عبدالله المدني*

المعروف أن أندونيسيا على موعد مع انتخابات رئاسية جديدة العام المقبل، هي السادسة منذ سقوط النظام الدكتاتوري للرئيس الأسبق سوهارتو في عام 1998. ومع اقتراب موعدها تحتدم المنافسة بين المرشحين والمتطلعين للحلول مكان الرئيس الحالي جوكو ويدودو الذي لن يحق له الترشح لفترة ثالثة عملا بأحكام الدستور. ومع احتدام التنافس يزداد اهتمام المراقبين بالحدث كونه لا يتعلق فقط بتغيير القيادة وإنما أيضا يتعلق بمصير شخصيات أحاطت بالقيادة واستفادت منها طيلة السنوات الماضية.

أحد أهم الطامحين للفوز برئاسة أندونيسيا هو حاكم جاكرتا المتقاعد حديثا "أنس باسويدان" (53 عاما)، المنحدر من أصول عربية حضرمية، والذي يثير ترشحه واحتمال فوزه مخاوف كثيرة لدى الطبقة السياسية التقليدية ورجال الأعمال النافذين، خصوصا وأنه يقود تحالفا من ثلاثة أحزاب قوية أحدها "حزب العدالة والازدهار" الإسلامي المتشدد، بل أن هذه الأحزاب منحته حرية اختيار من يريد ليكون مرشحا لمنصب نائب رئيس الجمهورية على بطاقته الانتخابية. أما مصدر الخوف منه فهو ما يتردد عن توجهاته الإسلامية المتشددة التي يكافح من أجل تفنيدها كي يظهر في صورة المترشح المعتدل والمقبول من جميع أطياف الشعب الإندونيسي المتنوع عرقيا وثقافيا ودينيا، علما بأن صفة التشدد إلتصقت باسمه منذ أن قام في عام 2017 بالترشح لمنصب حاكم جاكرتا، حيث خاض وقتها معركة حامية (شبهها بمعركة بدر) لإسقاط حاكم العاصمة المسيحي من ذوي الأصول الصينية "باسوكي بورناما"، وجيش ضده كافة الجماعات والمنظمات الإسلامية بدعوى أنه أهان القرآن الكريم في إشارة إلى تصريح سابق لبورناما اتهم فيه منافسيه باستخدام آيات من القرآن لخداع الناخبين.

من المتوقع أن يختار باسويدان "أغوس هاريمورتي" البالغ من العمر 44 عاما  (نجل الرئيس الإندونيسي السابق سوسيلو بامبانغ يودو يونو) لمرافقته في الانتخابات كمرشح لمنصب نائب الرئيس، الأمر الذي يمثل ضغوطا إضافية على زعيمة الحزب الحاكم (الحزب الديمقراطي من أجل النضال PDI – P)، السيدة ميغاواتي سوكارنو بوتري من أجل تحديد مرشحها في السباق الرئاسي القادم، من بين الشخصيتين المحتملتين وهما إبنتها "بوان مهاراني" التي تتولى حاليا منصب رئيس البرلمان، وحاكم جاوه الوسطى "غانجار بورنوو" الذي يتصدر معظم استطلاعات الرأي، والذي يستمد شعبيته من الشعبية الطاغية لصديقه الرئيس الحالي جوكو ويدودو، على الرغم من كل ما التصق بعهد الأخير طيلة السنوات الماضية من فساد إداري وانحياز لطبقة رجال الأعمال وايغال في البيروقراطية.

وتتمثل مشكلة بورنوو، في كونه يحيط نفسه بدائرة من الغموض، رافضا الافصاح عن خططه وسياساته وتوجهاته. وقد تكون هذه عملية مقصودة لإحباط مساعي منافسيه في المس به إعلاميا، لكنها في الوقت نفسه مجازفة. فحتى الآن لم يصدر منه سوى موقف واحد أطلقه من خلال بودكاست، وحذر فيه الشعب ممن سماهم بالجهاديين "الذين يستغلون وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أيديولوجيتهم ومفاهيمهم الخطيرة"، وأهاب فيه بالأندونيسيين المتعلمين والعقلاء أن ينزلوا إلى الشارع للحفاظ على السلامة العقلية للبلاد، قائلا: "وسائل التواصل الاجتماعي يسيطر عليها أشخاص غير عقلاء. لكن هناك الكثير من العقلاء فيها أيضا، وعلى هؤلاء ألا يسكتوا وإلا فإن المعلومات المضللة هي التي ستسيطر".

يقول المراقبون أن بورنوو كان يشير إلى أنس باسويدان وأنصاره في رسالته التحذيرية، وذلك من واقع معرفته به وبأسلوبه الحربائي الهاديء لتغيير مفاهيم المجتمع الاندونيسي الوسطية طيلة السنوات الخمس التي تزعم فيها العاصمة. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن باسويدان، في أعقاب نيل مراده لجهة الإطاحة بالمسيحي بورناما وفرض ما يشبه العرف بعدم جواز تولي غير المسلم منصب حاكم العاصمة، عمد إلى تغيير جلده فراح يتودد إلى المسيحيين عبر منحهم تراخيص لبناء المزيد من الكنائس. وفي محاولة أخرى منه للظهور بمظهر المسؤول العصري المتسامح، قام بزيارات إلى استراليا ودول اوروبية.

ولعل ما يزيد ارتباك الحزب الحاكم ومخاوفه من فقدان السلطة هو أن أحد داعميه وحلفائه الأقوياء الممثلين في الحكومة الحالية بثلاثة وزراء، وهو الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة قطب الإعلام "سوريا بالوه" اختار أن ينفصل عن الحزب الحاكم وينضم إلى تحالف الأحزاب الداعمة لباسويدان، الأمر الذي أغضب الرئيس ويدوو، لكن دون أن يقصي الوزراء الثلاثة من حكومته حتى الآن. ومن جهة أخرى، هناك تهديد جدي للحزب الحاكم يمثله "برابوو سوبيانتو" زعيم حزب "حركة إندونيسيا العظيمة" (جيريندرا)، وهو جنرال وصهر سابق لديكتاتور البلاد الراحل سوهارتو وكان قد ترشح مرتين في انتخابات 2014 وانتخابات 2019 الرئاسية ضد الرئيس ويدودو دون أن ينجح، وبعد خسارته في الانتخابات الرئاسية الماضية اختاره ويدودو كوزير للدفاع في حكومته. ومصدر هذا التهديد يكمن في حقيقة أن الرجل يعمل منذ بداية العام الجاري على تلميع نفسه كرئيس قادم للبلاد من خلال توظيف ثروته واتصالاته المتشعبة وخبرته الانتخابية السابقة في كسب أصوات البسطاء، ناهيك عن عقده تحالفا مع حزب اليقظة الوطنية الذي يعتبر امتدادا لحزب نهضة العلماء وغطاء سياسيا للعديد من الجمعيات الإسلامية التقليدية.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: مايو 2023م


الثلاثاء، 23 مايو 2023

يريدون لليابان أن تكون مجتمعا متفسخا بلا أخلاق


 بقلم: د. عبدالله المدني

مما لا جدال فيه أن أحد أسباب نهوض اليابان ونجاحها في شق طريقها نحو المستقبل بتميز، وتصدرها للدول المتقدمة صناعيا وعلميا واجتماعيا، من بعد هزيمتها المرة في الحرب العالمية الثانية وتجرعها مآسي أول قنبلتين نوويتين في التاريخ، هو تمسك الفرد والمجتمع الياباني بمنظومة نموذجية من القيم والآداب والأخلاق والإلتزام  تشكل في مجموعها عصب الثروة الحقيقية للبلاد وسر نهضتها وقوتها. 

وبعبارة أدق صاغ اليابانيون معادلة تقوم على أن الأخلاق، وما يرتبط به من الشهامة والشجاعة والشرف ونكران الذات والإيثار والحفاظ على الهوية الوطنية والتقاليد المتوارثة، شرط من شروط النجاح في الحداثة والحضارة والتقدم والإبداع، وأنه لا تقدم ولا نهضة دون مباديء وقيم أخلاقية مرتبطة بالعمل والتعليم والأسرة والمعيشة والذوق العام.

ومن هنا كانت اليابان إحدى أوائل دول العالم التي فرضت تدريس مادة الأخلاق في مدارسها كمادة إلزامية، وطبقتها على التلميذ الياباني في حياته اليومية، متضمنة تفاصيل كثيرة تتدرج من الأمانة والصدق والعفاف والتعاون إلى طريقة المشي ومستوى الصوت ودرجة الإنحاء عند التحية واختيار مفردات التخاطب السليمة، ومراعات الذوق العام في اللبس والأكل والتصرف وخلافه.

لكن ما الذي يدعونا اليوم لفتح هذا الملف الذي كتب فيه الكثير وأشبع بحثا من قبل المتخصصين في الظاهرة اليابانية؟

يتعلق الأمر بالإجتماع المقبل لقمة مجموعة السبع المعروفة بـ G 7، التي تضم أكبر إقتصاديات العالم (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) والتي استضافتها مدينة هيروشيما اليابانية في الفترة من 19 إلى 21 مايو. ففي قمة هذا العام، كان التركيز على مواجهة ما يسمى بـ "الإكراه الاقتصادي". وهذا العنوان، لئن كان خاصا بموضوع العدالة والتوازن في الاتفاقيات والعقود الإقتصادية ورفض ضغط القوي على الضعيف وتهديده بقبول شرط ما، إلا أن الخشية تكمن في احتمال التوسع في مفهوم الإكراه ليشتمل على الإكراه المعنوي والتمييز، وبما يحقق مآرب غربية متمثلة في إجبار العضو غير الغربي الوحيد في المجموعة (اليابان) على الإنسلاخ عن هويته الثفافية وتقاليده، والإقتداء بشريكاته في مجموعة السبع لجهة سن وتفعيل قوانين خاصة ملزمة تصب في صالح الشواذ والمثليين.

والمعروف أن الحكومة اليابانية تعرضت خلال السنوات القليلة الماضية لضغوط متزايدة من قبل نظيراتها في الغرب بهذا الخصوص، فأقدمت على صياغة سياسات محلية غير ملزمة في مجال الحماية القانونية للمثليات والمثليين والشواذ، لكن المجتمع الياباني لم يتقبل الأمر ولم يرحب به، بدليل أن الوضع على المستوى الوطني العام لم يتغير. ولهذا فإن الأعضاء الغربيين في مجموعة السبع يتهمون اليابان بالتقاعس والتخلف عنهم.

ومن أغرب ما قرأت مؤخرا مقال كتبه "لي بدجيت"، وهو أستاذ لمادة الإقتصاد بجامعة ما ساشوسيتس أمهيرست الأمريكية وباحث متخصص في شؤون المثليين، وزعم فيه أنه من الضروري لصحة أي اقتصاد، ولاسيما الاقتصاد الياباني، أن يستوعب المثليين ويوفر لهم حقوقهم الكاملة في الحصول على تعليم جيد ومهارات مناسبة ووظائف محترمة ورواتب جيدة، لأن خلاف ذلك يعني إصابة الإقتصاد والمجتمع بعيوب. ليس هذا فقط، بل راح يضيف قائلا إن إقصاء وتهميش هؤلاء "يعني إنخفاضا في رأس المال البشري، وهذا بدوره يؤدي إلى انخفاض الانتاج والقدرة الاقتصادية"، ومشيرا في السياق نفسه إلى أن هذا هو "أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل البلدان الأكثر شمولا لأفراد مجتمع المثليين لديها نسبة أعلى من الناتج المحلي الإجمالي للفرد".

ويدعي كاتب المقال أن الدراسات في اليابان (دون أن يشير إلى أي مصدر) أثبتت أن المثليين هناك أكثر عرضة للإصابة بالإكتئاب من غيرهم وأكثر تفكيرا في الإنتحار بستة أضعاف من الآخرين، ويدعي أيضا أن الأبحاث (ومرة أخرى دون الإشارة إلى أي مصدر) دلت على أن علاج هذه الحالات الصحية وحدها يكلف الاقتصاد الياباني سنويا مبلغا يتراوح ما بين 100 مليون ــ 418 مليار ين (750 مليون ــ 3 مليارات دولار أمريكي)، وأن ما يكلف الإقتصاد الياباني سنويا جراء الاستبعاد من مكان العمل والتعليم غير معروف لفشل الباحثين في تحديده بدقة.

وبعد أن أنهى الكاتب مزاعمه ومرافعته المحمومة عن حقوق من سماهم بـ "المضطهدين في المجتمع الياباني"، راح ينتقد الحزب الحاكم في اليابان (الحزب الليبرالي الديمقراطي) لتقصيره قائلا أن الحزب، على الرغم من إقتراحه قانون "تعزيز الفهم"، إلا أنه فشل في تمريره كقانون ملزم كي يكون "أداة فعالة لوقف التمييز"، ومشيرا إلى أن القانون الياباني يجبر المتحولين جنسيا، ممن يرغبون في إثبات ذلك في وثائقهم، على الإستئناف أمام محكمة الأسرة، "حيث يجب عليهم تلبية معايير صارمة وغير معقولة تمنع أناس كثيرين من عيش حياتهم كما يرغبون وتحد من مشاركتهم في الإقتصاد".

أما الحقيقة التي حاول الكاتب إغفالها لغرض ما، فهي عدم وجود أي شكل من أشكال العداء تجاه المثلية الجنسية في ثقافة اليابان ودياناتها الكبرى، إلا أن المجتمع بصفة عامة لا يتقبل الفكرة. ولأن القوانين عادة ما تعكس ظروف المجتمعات البشرية واحتياجاتها، فإن القوانين في اليابان لا تعترف مثلا بزواج المثليين، ولا توفر الحماية القانونية لمنازل إقامتهم، لكنهم لا يتعرضون للإضطهاد كما حاول الكاتب الإيحاء.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: مايو 2023م



المجلس العالمي لثورة الارز: مناورات حزب الله العسكرية أسقطت بيان الجامعة العربية في جدة

  


واشنطن في   23 آيار 2023

أتحفنا حزب السلاح بمناورة عسكرية بكامل العديد والعتاد قام بها في منطقة مليتا جنوب لبنان حيث ظهرت راجمات الصواريخ والدبابات وناقلات الجند وأنواع من المدافع وحتى الطائرات بدون طيار والمضادات لها. وقامت قوات الرضوان بعروض أمام المصورين والصحافيين الذين استدعوا لحضور العرض قبل أيام من اقامته. 

وكان مجلس جامعة الدول العربية، الذي أعاد الاعتبار لسوريا ورئيسها الأسد بالرغم من عدم قيامها بأي خطوة ايجابية في موضوع عودة النازحين ووقف الاستيطان في طول البلاد وعرضها، قد أقر في بيانه الأخير ضرورة منع قيام مليشيات خارجة عن سلطة الدولة في أي من الدول العربية، في اشارة منه للمجموعات التابعة لايران. ولكن على ما يبدو فإن الأسد ومن يقف خلفه عرف كيف يتجاوز الغضب العربي تماما كما فعل بعد مقتل الرئيس الحريري يوم التف على الاجماع العربي والدولي في التحقيق بمقتل الرئيس الحريري بأن منع تشكيل الحكومة في لبنان حتى قبول الرئيس سعد الحريري التوجه إلى دمشق والاعلان عن عدم اتهامه لسوريا بالموضوع وعندها لم يعد بمقدور العاهل السعودي رفض ما قبلته عائلة الفقيد فسار بما سمي حل السين - سين.

اليوم يتبع نفس الموضوع وبالرغم من المواقف العربية الصلبة مقابل اسباحة المليشيات الإيرانية للدول العربية في أربعة دول ها هي بوادر الحلول المطروحة تحت شعار اخراج سوريا من الحضن الايراني تبدو وكأنها لا طاقة لها على الاستمرار بالتصدي لموضوع المليشيات بعدما قبلت بعودة الأسد الغير مشروطة. ومن هنا نقول بأنه كان على الدول العربية إذا ما كانت جادة بموضوع المليشيات خاصة في لبنان أن تتبنى قرار مجلس الأمن الدولي 1559 وتطالب بتنفيذه في الشق المتعلق بموضوع السلاح خارج أجهزة الدولة وإلا فلا طائل من الكلام المعسول الذي يتردد في قاعات الاجتماعات والذي لن يكون له صدى على أرض الواقع. 


السبت، 13 مايو 2023

أستراليا: الميزانية وجهة نظر مختلفة

 


تقرير: عباس علي مراد ـ

الميزانية بيان اقتصادي سنوي لزيادة الضرائب أو خفضها والتحكم بالسياسة المالية والانفاق الحكومي، ومعظم الأحيان يتضمن خطط لسنوات عدة مقبلة، ويحمل توقعات اقتصادية مالية ونقدية لها أبعاد سياسية وأجتماعية وتنموية.

 لكن هذا البيان السنوي قد يكون خبر قديم في خضم المعارك السياسية اليومية والتغيرات  المتسارعة في الحياة العصرية وبغض النظر عن الحزب الحاكم تستخدم الحكومة والمعارضة كل ما لديها من الأمكانيات الدعائية  والإعلامية للترويج وتسريب المعلومات التي تريد إيصالها دون غيرها للمواطنين لكسب معركة الرأي العام. 

الرابحون والخاسرون المقاربة التقليدية لأي ميزانية في السنوات الخوالي، حيث كانت الحكومات تستطيع التحكم بمسار السياسة المالية لفترات قد تطول او تقصر وكانت السوق تتجاوب مع التوقعات وتبني سياساتها على هذه التوقعات.

لكن مع التطورات المتسارعة  والسرعة الهائلة للزمن والدورة الإخبارية على مدار الساعة وترابط اقتصاديات العالم وفقدان القرار الوطني بنسب معينة ومتفاوتة جعلت من الميزانية تصبح بسرعة خبر قديم (كما تقدم) وقد تجاوزته الأحداث وتبدأ الحكومة باللهاث وراء الحدث أما للحد من التداعيات السياسية او لتعزيز رأسمالها السياسي اذا ما سارت الرياح كم تشتهي سفنها.

وفي عرض مبسط للميزانية التي قدمتها الحكومة الفيدرالية ألأسبوع الماضي ومن دون الدخول في تفاصيل أرقام النفقات ومن ربح ومن خسر نرى أن الازمات الدولية خصوصاً الحرب الأوكرانية  كان لها تأثيرات سلبية واخرى إيجابية، ومن التأثيرات السلبية إرتفاع نسبة التضخم والتي أتت على القدرة الشرائية للمواطنين واضطرت البنك المركزي لرفع نسبة الفائدة إحدى عشر مرة خلال الأثنا عشر شهراً الماضية لتصل الى 3.85%.

 أم التأثيرات ألإيجابية لتلك الحرب (وكما يقال مصائب قوم عند قوم فوائدُ) فكان ارتفاع أسعار الصادرات الأسترالية من المواد الأولية من الغاز والفحم والحديد و المنتجات الزراعية فارتفع الدخل الوطني الاسترالي مما جعل الميزانية تحمل فائض قيمته 4.2 مليار دولار لأول مرة منذ 15 عاماً، وقد ساهمت الضرائب على الدخل الفردي في تحقيق هذا الفائض حيث نسبة البطالة دون 4 بالمئة، هذا وسوف تنفق الحكومة حوالي 14.6 مليار دولار في السنوات الأربع القادمة على قطاعات الصحة والإسكان والعائلات والطاقة والعاطلين من العمل والباحثين عن عمل وغيرها.

لكن الميزانية لم تأتِ على ذكر اي شيء حول كيفية تأمين الواردات لتمويل الإنفاق العسكري الضخم، وبرنامج نظام إعانة ذوي الاحتياجات الخاصة، وقطاع رعاية المسنين التي تسحوذ على النسبة الأكبر من النفقات الحكومية الى جانب الفوائد التي تدفعها الحكومة على الدين العام الاسترالي الذي يقارب 900مليار دولار، وهذا ما سيكون له تأثير على مالية الدولة والميزانية العامة وهذا الأمر ليس صدفة، رغم ان الحكومة قالت في الميزانية سوف توفر عشرات المليارات من ميزانية وبرنامج نظام إعانة ذوي الاحتياجات الخاصة من خلال  ترشيد الإنفاق والحد من الهدر والفساد في هذا القطاع.

رئيس الوزراء وصف الميزانية بأنها ميزانية حزب العمال بامتياز وطبعاً لا يمكن أن يقول غير ذلك،  وبشكل عام فلسان حال حزب العمال يقول نحن نقوم بالكثير من الأشياء ، لكن لا يمكننا ان نقدم كل شيء دفعة واحدة.

 لكن الخبراء الاقتصاديين يتخوفون من ارتفاع التضخم مما قد يدفع البنك المركزي لرفع نسبة الفائدة مجدداً، واذا ما حصل هذا الامر يؤكد ان الحكومة رغم نشوتها بالتقديمات الاجتماعية والصحية وغيرها التي ترضي البعض وتغضب البعض الآخر الذي لم يحصل على جزء من تلك التقديمات او تعرض لضرائب جديدة غير قادرة أي الحكومة على التحكم بمسار الأمور، عندها ستكون الحكومة في وضع لا تحسد عليه رغم تأكيدها في السراء والضراء على أستقلالية البنك المركزي لكن تلك الأستقلالية قد تسبب للحكومة وجع رأس سياسي كبير لان المواطن العادي يحمل السياسيين مسؤولية تراجع قدرته الشرائية، وعدم قدرته للوفاء بدفعات الديون العقارية وغيرها لأن البنك المركزي لا يواجه الناخبين والرأي العام والمعلوم أن حاكم البنك المركزي كان قد توقع أن أسعار الفائدة لن ترتفع قبل العام 2024 لكنه عاد  ورفع سعر الفائدة الى 3.85%  كما تقدم بسبب سياسة البنك المركزي للجم ارتفاع التضخم.

المعارضة الفيدرالية والتي ما زالت في غيبوبة سياسية نتيجة خسارتها انتخابات السنة الماضية ومع استمرار تراجع شعبيتها في استطلاعات الرأي وخسارتها انتخابات أستون الفرعية لأول مرة منذ 100 عام تخسر المعارضة انتخابات فرعية لصالح الحكومة،  ترى المعارضة ان ميزانية حكومة العمال اضاعت فرصة لتعزيز الوضع الاقتصادي في البلاد.

 زعيم المعارضة بيتر داتون في رده الرسمي على الميزانية أيد بعض بنود الميزانية وتحفظ على البعض الآخر منها الزيادة المتواضعة للباحثين عن عمل (40 دولار كل أسبوعين) وتحفظ داتون بشدة على زيادة عدد المهاجرين في ظل غياب البنى التحتية ورأى أن الميزانية سوف تساهم في زيادة التضخم معترفا ان عوامل خارجية لعبة دوراً في ذلك لكن العوامل الداخلية كان لها تأثيراً أكبر وهاجم سياسية الحكومة المتعلقة بتأمين الطاقة المستدامة وراى ان الميزانية تؤذي العائلات الاسترالية.

ينوي زعيم المعارضة جعل المهاجرين الورقة السياسية الرابحة مجدداً  ليكونوا كرة في ملعبه السياسي هذه الورقة التي يجيد داتون استخدامها بامتياز، وفي حملة غير بريئة حذر داتون من زيادة أعداد الماهجرين مما قد يثير عاصفة شعبوية تحول المهاجرين إلى كبش فداء.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يعتقد داتون ان هذا التخويف سوف يقدم له حبل النجاة السياسي في ظل إستمرار تراجع شعبيته في إستطلاعات الرأي؟

هنا لا بد من الإشارة وحسب صحيفة سدني مورننغ هيرلد  الى أن حكومة الأحرار برئاسة سكوت موريسن التي شغل فيها داتون وزارة  الهجرة وحماية الحدود ووزارة والدفاع كانت تنوي إحضار نفس العدد من المهاجرين قبل وباء الكورنا منذ عام 2019 واستيعابهم في العام 2022.

إذاً، تبقى الميزانية عملية توقعات عما سيحدث في الاقتصاد خلال تلك الفترة الزمنية ، وسيناريوهات حول ما يفترض حدوثه  ولها تأثيرها من الناحية الإقتصادية على الناتج المحلي الإجمالي والتضخم والبطالة. 

لكن محرر الشؤون الاقتصادية في سيدني مورنينغ هيرالد روس غيتنز يرى أن الاعلام يلعب دوراً محورياً في الترويج للميزانية في اليومين الأولين  ويعطي انطباعاً ملائماً للحكومة، مما يجعل الميزانية تبدأ بداية جيدة مع الناخبين قبل الأطلاع على شياطين التفاصيل القذرة المخبأة بعناية ولكنها حقيقية. 

أخيراً، مهما كانت التوقعات لكن قد تقع أحداث تطيح بكل التوقعات وتقلب الأمور رأساً على عقب خصوصاً أن هناك من يقرع طبول الحرب في جنوب شرق آسيا ، وخير مثال على ذلك ما حصل قبل ثلاثة أعوام عندما تفشى وباء الكورنا، ومنذ عام عندما اندلعت الحرب الأوكرانية، وقبل فترة أنهيار بعض البنوك الأميركية والأوروبية وقبلها الأزمة المالية العالمية عام 2008.  

 سدني


الثلاثاء، 9 مايو 2023

السفير الصيني الذي أثار أوروبا ضد بلاده


 

بقلم: د. عبدالله المدني*

في الوقت الذي تحاول فيه الصين جاهدة وبنفس طويل قصم ظهر التحالف الأمريكي ــ الأوروبي ــ الأطلسي،  بابعاد دول الإتحاد الأوروبي وأعضاء الناتو عن الولايات المتحدة وسياساتها المناوئة للصين، وفي أعقاب النتائج المشجعة على هذا الصعيد لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبكين مؤخرا والتي تخللتها تصريحاته الداعية لاوروبا بانتهاج سياسة مستقلة عن الأمريكيين والعمل معا في مجال الدفاع للحد من الاعتماد على واشنطن، وهو ما فسر على أنه اختراق صيني ناجح. في هذا الوقت حدث ما وضع الصين فجأة في فوة المدافع الأوروبية.

والإشارة هنا إلى تصريح غير مسؤول أطلقه السفير الصيني لدى فرنسا وموناكو "لو شاي" في مقابلة مع التلفزيون الفرنسي. فماذا قال السفير ذو السنوات التسع والخمسين والذي يشغل منصبه منذ يوليو 2019، وكان قبلها سفيرا في كندا وفي كل من سيراليون وغينيا، وقبل ذلك نائبا لعمدة مدينة ووهان التي انطلقت منها جائحة كورونا؟

السفير شاي، الذي اكتسب شهرة بسبب تكرر أخطائه وتصريحاته المستفزة والمتجاوزة للأعراف الدبلوماسية، والذي يصفه المراقبون بالذئب المحارب المعبر عن توجهات صقور السياسة الصينية، لم يتردد قيد أنملة في التشكيك علنا في سيادة واستقلال أوكرانيا، ودول البلطيق الثلاث (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) الأعضاء في الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي منذ عام 2004، في معرض رده على سؤال عما إذا كان يعتبر شبه جزيرة القرم، التي ضمنتها روسيا عام 2014، جزءا من أوكرانيا بموجب القانون الدولي. إذ رد قائلا إن: "كل دول الإتحاد السوفياتي السابق بما فيها دول البلطيق لا تتمتع بوضع فعال في القانون الدولي، حيث لا توجد اتفاقية دولية من شأنها أن تعزز وضعها كدول ذات سيادة". ولم يكتف بذلك فأضاف: "هناك تاريخ يقول أن شبه جزيرة القرم هو في الأصل جزء من روسيا، وأن خروتشوف (الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف) هو من عرضها على أوكرانيا زمن الإتحاد السوفياتي". وبهذا نسف السفير حتى اعتراف بلاده بهذه الدول ككيانات مستقلة ذات سيادة معترف بها دوليا.

وبطبيعة الحال، تبارت الدول الأوروبية ومسؤلو الإتحاد الأوروبي في بروكسل في التنديد بتصريحات السفير والمطالبة بموقف واضح من القيادة الصينية إزاءها، بل اتخذ مراقبون واعلاميون أوروبيون كثر من مواقف السفير دليلا على غموض سياسات بكين وعدم حيادها في الشأن الأوكراني وتحريضا لموسكو على اتخاذ مواقف متصلبة ضد الكيانات المستقلة التي انسلخت عن الإتحاد السوفياتي السابق. فعلى سبيل المثال قالت المشرعة الفرنسية عن حزب النهضة الذي ينتمي إليه ماكرون "آن جينيت" أن تصريحات السفير مناقضة تماما لموقف بكين الرسمي بشأن وحدة الأراضي واستقلال الدول الذي أكد عليه الرئيس شي جينبينغ لنظيره ماكرون قبل فترة وجيزة، وأن تناقض المواقف والتصريحات يثير تساؤلات حول حياد الصين تجاه أوكرانيا، فيما صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير" قائلة: أن موقف بكين من الأزمة الأوكرانية وسياسات روسيا تجاه أوكرانيا هو الذي سيحدد مستقبل العلاقات الصينية الأوروبية. وقال وزير خارجية ليتوانيا أن تصريحات السفير الصيني توضح سبب ضعف ثقة أوروبا في الصين كوسيط ولاعب سلام،"فهاهو سفيرها يجادل بأن القرم روسية وأن حدود بلادنا ليس لها أساس قانوني". 

وأما صحيفة "بليتيكو" الأمريكية فاكتفت بالقول: "حينما يكون لديك سفير مثل شاي، فلا تحتاج إلى أعداء"، في إشارة إلى أن هفوة أو تجاوز من دبلوماسي قد يكلف حكومته وضعا حرجا هي في غنى عنه. وهذا ما حدث بالفعل، إذ لم يسبق أن وجدت بكين نفسها محلا لانتقادات أوروبية واسعة وهجوم على أحد دبلوماسييها كما حدث بعد تصريحات شاي المتلفزة.

لم تجد بكين مفرا، بعد هذه الواقعة، من النأي بنفسها عن سفيرها الذي لم يجد هو الآخر مخرجا من ورطته سوى الإدعاء بأن ما قاله كان مجرد رأي شخصي. حيث سارعت بكين، في محاولة لإحتواء الغضب الأوروبي، إلى إصدار بيان على لسان المتحدث الرسمي لخارجيتها "ماو نينغ" في 24 أبريل الفائت أكدت فيه أن: "كل جمهورية سوفياتية سابقة تتمتع بوضع دولة ذات سيادة بعد تفكك الإتحاد السوفياتي". لكن في الوقت نفسه كتبت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية المملوكة للدولة ما يشبه الانتقاد المبطن للأوروبيين بقولها: إن المسؤولين الأوروبيين عادة ما يقومون بتحويل الأمور الصغيرة إلى أشياء كبيرة.

ويعتقد أن قيام الرئيس الصيني في الأسبوع الماضي بإجراء أول اتصال هاتفي  بنظيره الأوكراني " فلوديمير زيلينسكي" منذ ما قبل اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، كان ضمن محاولات القيادة الصينية نزع فتيل الأزمة وتفادي الأسوأ وتهدئة مخاوف كييف من تشكيك الصين باستقلالها وسيادتها، خصوصا وأن المكالمة استغرقت أكثر من ساعة، وإنْ قيل أن الأتصال كان حول بحث مستجدات مقترح السلام الصيني (يراوح مكانه دون نتائج فعلية منذ أشهر)، وإعادة تأكيد بكين لموقفها المعلن بشأن احترام سلامة وسيادة الدول ورفض التلويج باستخدام السلاح النووي.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: مايو 2023م

الجمعة، 5 مايو 2023

دلالات واهداف زيارة ابراهيم رئيسي لسوريا


بقلم :- راسم عبيدات

رغم كل العواصف السياسية والأمنية التي هبت على المنطقة، وتدمير دول واختفاء ورحيل قيادات،بقي التحالف السوري- الإيراني ثابتاً ولم يتغير ...والعلاقات السورية- الإيرانية ،نمت وتطورت في سياق تاريخي من بعد انتصار الثورة الخمينية عام 1979، ولم تهتز تلك العلاقة في ظل الحرب العراقية- الإيرانية  1980 -1988،والتي دفعت بها أمريكا ودول الخليج العراق للحرب مع ايران،من أجل اضعاف قدرات البلدين العسكرية واهدار طاقاتهما وثرواتهما،وتفكيك جغرافيتهما على اسس مذهبية وعرقية ،فالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد،كان له رؤيا حول اسباب ومسببات واهداف تلك الحرب، مختلفة عن رؤية الكثير من دول النظام الرسمي العربي، التي وقفت الى جانب بغداد في تلك الحرب،حرب قادت في النهاية الى غزو أمريكي للعراق وإحتلاله عام 2003 م، بعد توريطه في غزو الكويت....العلاقات السورية - الإيرانية ،تجاوزت العلاقات التقليدية بين أي دولتين صديقتين، علاقات سياسية واقتصادية وثقافية وإجتماعية،يعبر عنها بإتفاقيات في تلك المجالات، لكي ترتقي الى علاقات المصير الواحد في سياق استراتيجي،بحيث تقف الدولتان الى جانب بعضهما في حال التعرض لهجوم او عدوان خارجي...سوريا وقفت الى جانب طهران في حرب ال 8 سنوات،وايران وقفت الى جانب سوريا في العشرية السوداء التي ضربت سوريا في عام 2011،وفي أكبر حرب عدوانية كونية استهدفتها من قبل أمريكا ودول الغرب الإستعماري ودولة الكيان،ومروحة واسعة من الحلفاء عرب واتراك وأدوات تنفيذية إرهابية وداعشية،محلية وأخرى من نفس المنتج، جرى جلبها من كل اًصقاع الدنيا...من أجل تدمير سوريا وهويتها الوطنية وإنتمائها العروبي القومي وتفكيكها جغرافياً،واضعاف جيشها والسلطة المركزية ،وبما يسمح بتمدد المشروع الأمريكي للهيمنة على كامل منطقة الشرق الأوسط،وبما يفرز دولة الكيان،كدولة قائد للمشروع في المنطقة،ترتبط معها الكيانات العربية الناشئة، بعد فك وتركيب الجغرافيا العربية بأحلاف أمنية....ايران وقفت الى جانب سوريا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ولوجستياً ودبلوماسياً،بل أبعد من ذلك تشاركت وتشابكت  قواتها مع القوات السورية أمنياً وميدانياً وعسكرياً،بما مكن سوريا قيادة وجيشاً وشعباً  من هزيمة هذا المشروع  المتعدد القوى والأطراف والأهداف. 


زيارة رئيسي لدمشق والتي جاءت،بعد ثلاثة عشر عاماً ،لأخر رئيس ايراني زار دمشق، أتت في ظل تغيرات وتطورات كبرى في المنطقة والإقليم والعالم، تصب في مصلحة محور ا ل م ق ا و م ة والتحالف الروسي الصيني الإيراني ،فالرهان على تمدد حلف "ابراهام" التطبيعي،لكي تنضم اليه السعودية ذات الثقل الإقتصادي والسياسي عربيا وإسلامياً تبدد،حيث ذهبت السعودية بمشاركة صينية للمصالحة مع ايران،وكذلك السعودية التي كانت رأس حربة في دعم ومساندة المشروع المعادي على سوريا،وجدنا انها إستدارت لكي تصبح عراب المصالحة مع سوريا سعودياً  وعربياً،لقاءات سعودية سورية على مستوى وزراء الخارجية،وقمم تشاورية في جدة بحضور مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن،واخرى خماسية في عمان بمشاركة وزراء خارجية السعودية ومصر والأردن والعراق وسوريا،والهدف فتح الطريق امام عودة سوريا للجامعة العربية،وإنجاح القمة العربية في الرياض ال 19 من الشهر الحالي،وكذلك المصالحة السعودية – الإيرانية،سيكون لها تأثيرها في  لحلحة العديد من الملفات المهمة للمنطقة ،بما تمتلكه طهران من تأثير على الملفات اليمنية واللبنانية والسورية،وكذلك فإيران شريك مع روسيا في السعي لتحقيق مصالحة سورية – تركية،تقوم على أساس  الإنسحاب التركي من الأراضي السورية ورفع الغطاء عن الجماعات الإرهابية والداعشية في أدلب،وأيضاً اتت هذه الزيارة في ظل تراجع وانحسار الوجود والدور الأمريكي في المنطقة،وسعي طهران لتحقيق مصالحات بينية بين دولها، تستند الى توظيف طاقاتها وإمكانياتها لخدمة شعوبها.


الزيارة حملت أكثر من دلالة ومعنى واكثر من ملف،فالوفد الذي رافق الرئيس الإيراني في الزيارة ،لم يكن سياسياً فقط،بل اقتصادياً أيضاً،بما في ذلك خبراء في العديد من المجالات،بحيث نتج عن تلك الزيارة توقيع 15 مذكرة تعاون في مجالات الكهرباء والنفط والمعلوماتية والإتصالات والسكك الحديدية والزراعة وغيرها من الإتفاقيات في المجالات الأخرى،ناهيك عن أن الزيارة نتح عنها توقيع مذكرة تعاون استراتيجية لمدة طويلة تمتد لعشرين عام او اكثر شبيهة بالتعاون الإستراتيجي بين طهران وكل من بكين وموسكو،وبحث كذلك إمكانية تشكيل مصرف سوري- ايراني مشترك ،وميناء تديره طهران متعلق بالنفط.


لا بد بأن زيارة رئيسي لسوريا،كانت محور قلق وإرباك وتوجس لدى دوائر صناع القرار في دولة الكيان من قادة سياسيين وعسكريين وامنيين،لما سيكون لها من نتائج وتداعيات امنية وسياسية وعسكرية على دولة الكيان،ولذلك جرى استقبال هذه الزيارة بتصعيد العدوان على سوريا،من خلال قصف جوي لمطار حلب،والنظر لهذه الزيارة،والتي تضمنت أيضاً اتفاقيات للتسليح وترسيخ الشراكة الأمنية،على انها اتت لكي ترسخ وحدة محور ا ل م ق ا و م ة ،والذي رأينا كيف جرى تفعيل ساحاته والرد بوحدة النار،في معركة العشر ساعات التي حدثت في 5/4/2023،عبر إطلاق الصواريخ من اكثر من جبهة على دولة الكيان، الجنوب اللبناني والأراضي السورية وقطاع غزة ،كرد على العدوان والإقتحامات المستمرة للأقصى من قبل الجماعات المتطرفة الصهيونية،بغرض فرض وقائع تكرس تقسيمه الزماني والمكاني وتوجد قدسية وحياة يهودية فيه عبر الإحلال الديني.


الرد من قبل دولة الكيان على هذا القصف الموحد،كان محدوداً،ونتنياهو الذي كان دوماً يتبجح ويقول، بأن الرد على ذلك سيكون قوياً وغير مسبوق،بحث عن ذرائع تبقي الرد في إطار محدود ومؤطر ومقيد،لكي لا يتورط في حرب على أكثر من ساحة،ولذلك نتنياهو الباحث عن استعادة الردع،وجد نفسه مردوعاً وملجوماً وفاقداً للمزيد من قوة الردع.


رئيسي الذي قال للرئيس الأسد بأن سوريا رغم كل الصعاب والعواصف انتصرت،وبأنه جاء للشام لكي يحتفلوا بنصر سوريا والمحور،شدد على ان سوريا بإمكانها ان تحول العقوبات الى فرص تحدي،كما حولت ايران الحصار الظالم الى فرص وتحدي،ولا بد من القول ان اللقاءات التي عقدها رئيسي في القصر الجمهوري مع العديد من قادة فصائل ا ل م ق ا و م ة الفلسطينية ،تأكيد على ان القضية الفلسطينية،هي قضية محورية ومركزية لطهران،وهي التي وقفت الى جانب فلسطين وقضيتها وشعبها وم ق ا و م ت ها،من حيث دعم ا ل م ق ا و م ة الفلسطينية عسكرياً وتسليحياً وتطوير قدراتها وإمكانياتها ،ناهيك عن الدعم المالي والإقتصادي واللوجستي والسياسي،وطبعاً دعم ا ل م ق ا و م ة الفلسطينية،كان عبر شراكة مع سوريا.


اللقاء مع قادة فصائل  ا ل م ق ا و م ة الفلسطينية وترسيخ الشراكة الأمنية مع دمشق ،وتزويدها بالسلاح النوعي،واللقاءات التي جمعت قبل ذلك وزير الخارجية الإيراني أمير اللهيان في بيروت مع زعيم ح زب ا ل ل ه  سماحة السيد ن ص ر  ا ل ل ه،والعديد من قادة فصائل ا ل م قا و م ة الفلسطينية،تؤكد بأن المرحلة القادمة ،لن تشهد فقط انتقال محور القدس من الجانب المفهومي النظري لمقولة وحدة الساحات الى الجانب العملي والتطبيقي، بل أن الرد على الغارات والإعتداءات الإسرائيلية على دمشق،ستاخذ منحي جديد ،في إطار لجم وردع العدو عن عدوانه.


زيارة رئيسي لسوريا  وما سيترتب عليها من دلالات ومعاني سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية  ومشاركة ايرانية في ورشة الإعمار وتطوير البنى التحتية في سوريا،ما سيترتب عليها لاحقاً ليس كما قبل الزيارة،وكما قالت وسائل اعلام الكيان،زيارة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي لسوريا تأتي في توقيت مهم على المستوى الإقليمي.. ورسالته أننا انتصرنا وتحالفنا الاستراتيجي لا يمكن كسره.

الأربعاء، 3 مايو 2023

إيريان الغربية تسبب صداعا لأندونيسيا


 بقلم: د. عبدالله المدني*

إذا نظرت إلى الخارطة السياسية للعالم، ووجهت بصرك صوب منطقة أوقيانوسيا وجنوب شرق آسيا، ستجد دولة أرخبيلية ذات مساحة معتبرة (حوالي 800 ألف كلم مربع) تدعى "بابوا غينيا الجديدة". هذه الدولة المستقلة التي يبلغ عدد سكانها اليوم أكثر من 6.5 مليون نسمة وتحد أندونيسيا من جهة الشرق بحدود طويلة مستقيمة كما لو أنها رسمت بالقلم والمسطرة، وتفصلها عن أستراليا، التي احتلتها عام 1905 ثم منحتها الاستقلال الكامل سنة 1975، مياه بحر المرجان.

والمعروف أن القسم الغربي من هذه البلاد والذي يعرف باسم "إيريان الغربية" كان محل نزاع بين أندونيسيا وهولندا طوال عقد الخمسينات، حيث طالبت بها جاكرتا كجزء من أراضيها وخاضت معارك دبلوماسية وحربية من أجل ضمها للسيادة الأندونسية إلى أن أصدرت الأمم المتحدة قرارا مثيرا للجدل في مايو 1963 بتبعيتها لأندونيسيا من بعد استفتاء حول تقرير المصير. ومذاك نشطت حركات مسلحة محلية تطالب بالانفصال والاستقلال، ربما بسبب التهميش والإهمال (تعد من بين أفقر أقاليم إندونيسيا الأربعة والثلاثين)

لكن لماذا نتحدث عن هذا اليوم؟ السبب هو أن جاكرتا لئن عانت طويلا من هذه المشكلة، إلا أن قلقها الأمني تضاعف في الأشهر الأخيرة كنتيجة طبيعية لتزايد عمليات الانفصاليين ضد قواتها، هي التي  اعتقدت أنها طوت صفحة الانفصال والتمرد بعد منحها الاستقلال لتيمور الشرقية سنة 2002 والحكم الذاتي لأقليم أتشيه السومطري سنة 2005. يحدث هذا في الوقت التي تسيطر فيها المخاوف أيضا على جارتها "بابوا غينيا الجديدة " التي تخشى أن تمتد عمليات ما يسمى بـ "الجيش الوطني لتحرير بابوا الغربية TPNB " إليها فتشأ توغلات عسكرية وعمليات نزوح للاجئين إلى أراضيها قد تجر إلى صدام مع جاكرتا، خصوصا بعدما انتشرت صور لمقاتلين انفصاليين يتدربون داخل حدودها وهم يرتدون شعار الإستقلال ويتدربون بمدافع رشاشة في الغابات والمناطق الحدودية الوعرة بين الدولتين.

والحقيقة أن المنطقة باتت مرشحة للإنفجار وحدوث أزمة تتخطى صفة الإقليمية إلى الدولية، لاسيما وأن منطقة المحيط الهادي تشهد صراعا جيوسياسيا بين قوى كبرى طامحة للتدخل في أي نزاع من أجل تعزيز مصالحها ونفوذها، وهو ما يذكرنا بصراعات الحرب الباردة بين الأمريكان والسوفييت في المنطقة نفسها.

ففي عام 2018 مثلا تسببت هجمات الانفصاليين في مقتل 50 شخصا كان جلهم من الاندونيسيين العاملين في مشروع طريق سريع لربط الإقليم ببقية التراب الأندونيسي، الأمر الذي دفع جاكرتا إلى ارسال مئات من جنودها للتصدي، ليرد الأنفصاليون بقتل العشرات منهم بالأسلحة الأوتوماتيكية بوحشية. ومذاك راح جاكرتا تصفهم بالمجموعات الإجرامية بدلا من وصفهم بالمتمردين الإرهابيين.

لكن ذلك الحدث لا يقارن بما جرى مؤخرا. فقبل نحو 3 أشهر اختطف المتمردون طيارا نيوزيلنديا يدعى "ميرتنز" من مهبط للطائرات، وأحرقوا طائرته (من ضمن اسطول شركة Susi Air الجوية الصغيرة المملوكة لوزير مصائد الأسماك الأندونيسي السابق بودجيا ستوتي) واحتفظوا به كرهينة، وأتبعوا ذلك بقتل 13 جنديا من قوات النخبة في الجيش الأندونيسي (كوستراد) كانت الحكومة قد أرسلتهم لإنقاذ الطيار المحتجز في المرتفات الوسطى، وذلك خلال اشتباكات دارت بين الطرفين، ثم نجحوا في أسر 9 جنود عندما نفذت ذخيرتهم وفقدوا الاتصال مع قيادتهم. وقيل أن المتمردين استهدفوا الطيار النيوزيلندي تحديدا لإرسال رسالة تحذير بضرورة وقف توظيف طيارين أجانب ممن يسعون لبناء مهاراتهم وساعات طيرانهم في مناطق بابوا الغربية ذات التضاريس المعقدة والمثالية للتدريب. 

ولعل ما يدعو إلى القلق في أوساط الحكومة والجيش في جاكرتا هو أن المتمردين كانوا في البداية يحاربون بالأقواس والسهام والمناجل، والآن يستخدمون بحرفية أسلحة آلية نجحوا في الاستيلاء عليها خلال هجماتهم على مواقع للشرطة والجيش. كما يسود القلق في جاكرتا لسبب آخر مصدره تهديد المتمردين لحياة مجموعة من المبشرين الأجانب المتواجدين في المنطقة (من أصل 300 في السنوات الماضي قبل تقييد الحكومة للأنشطة التبشيرية)، خصوصا وأن إيريان الغربية تشهد منذ فترة طويلة نزاعات مستمرة بين الكاثوليك والبروتستانت إلى درجة أن متمردين مسلحين دخلوا مؤخرا سوقا بمدينة "إنتان جايا" وطالبوا الناس بضرورة التحول إلى الكاثوليكية. والمعروف، طبقا لبعض التقديرات، أن سكان إيريان الغربية البالغ تعدادهم نحو 3 ملايين نسمة، يشكل الأصليون منهم نحو 50 بالمائة، نصفهم يدين بالبيروستانتية، في حين يشكل المسلمون 41% والكاثوليك نحو 8%.

على أن ما يطمئن جاكرتا هو أن تصميمها على إنهاء أنشطة التمرد والإنفصال في هذا الاقليم الغني بالنفط والذهب والنحاس، وعزمها على عدم تكرار سيناريو تيمور الشرقية مدعوم من كافة دول الجوار بما فيها أستراليا. وبعبارة أخرى لا تواجه أندونيسيا أي تشكيك في سيادتها على الإقليم، مقابل فشل المتمردين في نيل أي دعم خارجي حتى الآن لمطالبهم بتقرير المصير.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أبريل 2023م