الثلاثاء، 25 يوليو 2023

تايلاند تحبس أنفاسها مع إعاقة العسكر للديمقراطية


 بقلم: د. عبدالله المدني*

قلنا في مقال سابق أن الإنتخابات التايلاندية الأخيرة في مايو المنصرم، والتي أسفرت عن مفاجأة مدوية بفوز حزب "إلى الأمام" الليبرالي الصغير بقيادة رجل الأعمال الشاب وخريج جامعة هارفارد العريقة "بيتا ليمجارونرات"، لا يعني أن الأخير سوف يتسلم السلطة لتنفيذ الإصلاحات الجذرية التي وعد بها. وقلنا أيضا أن العسكر التايلاندي سوف يستخدم كل الأسلحة والآليات التشريعية المتاحة له لإعاقته لأنه يمثل خطرا عليه. كما توقعنا فشل الحزب الفائز وزعيمه في جمع الأصوات الكافية في البرلمان لتخطي العقبات الدستورية التي شرعها الجيش.

وقد صدقت توقعاتنا هذا الشهر حينما جرى التصويت الأول في البرلمان لإختيار رئيس الحكومة الجديد الذي سيخلف زعيم البلاد العسكري الجنرال"برايوت تشان أوتشا" الممسك بزمام السلطة منذ قيادته إنقلابا عسكريا سنة 2014. إذ لم يتمكن "بيتا ليمجارونرات"، من جمع الـ 375 صوتا الكافية لتسميته زعيما جديدا للبلاد، بل أول زعيم تقدمي في تاريخ تايلاند.

ففي جلسة التصويت البرلمانية، بحضور أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، امتنع أعضاء مجلس الشيوخ المعينين من قبل الجيش (249 عضوا) وامتنع أعضاء مجلس النواب المتحالفين مع الجنرال "برايوت تشان أوشا" إما عن التصويت أو عن منح أصواتهم لـ "بيتا ليمجارونرات"، الأمر الذي لم ينل معه الأخير ما كان بحاجة إليه وهو 375 صوتا على الأقل من أصل 749 صوتا. وكانت نتيجة التصويت كما يلي: 324 صوتا لصالح بيتا مقابل 182 صوتا ضده وامتناع 199 نائبا عن التصويت.

وللخروج من هذا المأزق، تقرر أن يجتمع البرلمان بمجلسيه مرة أخرى في 19 من يوليو، وبدا واضحا أن بيتا  لن يستسلم وسيحاول عرض إسمه مجددا في محاولة منه لإحراج العسكر وإظهارهم أمام الشعب كعقبة ضد الإرادة الشعبية التي منحته أكثرية الأصوات في انتخابات مايو (حصل على 151 مقعدا من أصل 500). كما توقع المراقبون أن يقوم "سريتا تافيسين" قطب العقارات وزعيم حزب "بيوا تاي" الموالي لرئيس الحكومة الأسبق المتواجد في المنفى "تاكسين شيناواترا" بترشيح إسمه كزعيم قادم للبلاد بحكم حلوله في المرتبة الثانية في انتخابات مايو (حصل على 141 مقعدا من أصل 500).

الحقيقة أن أعضاء المجلسين من المؤيدون للعسكر وجدوا أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر. وبعبارة أخرى كان عليهم المفاضلة بين شخصية تقدمية تمتلك برامج إصلاحية طموحة تتعلق باعادة هيكلة النظام السياسي جذريا، وشخصية متحالفة مع زعيم سابق لطالما تسبب في أزمات سياسية ومعروف عنه كراهيته للجيش والنظام الملكي معا. 

و كان المتوقع أن يشير الجنرال برايوت على أعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء مجلس النواب الموالين للجيش بالتصويت لصالح "سريتا تافيسين" وحجب أصواتهم مجددا عن"بيتا ليمجارونرات"، لسبب بسيط هو أن الثاني عازم عند توليه السلطة على تقليص الامتيازات والصلاحيات الملكية، وهذ بطبيعة الحال لا يناسب الزعيم الحالي وقائد الجيش الجنرال برايوت المرشح لتولي منصب "رئيس مجلس العرش" بعد خروجه من السلطة وتقاعده من الجيش، حيث لن يكون لمنصبة نفوذ أو تأثير إذا ما تمّ تقليص امتيازات الملك. 

غير أن الجنرال برايوت وزملائه العسكر استبقوا الأمر بالشروع في عملية قضائية بدأت بعد جلسة التصويت الأولى مباشرة للتخلص من بيتا، حيث رفعوا إلى المحكمة الدستورية قضية ضده حول مساهمة مزعومة له في شركة اعلامية، وهو أمر محظور بموجب قانون الانتخابات. هذا علما بأن الرجل يواجه قضية منفصلة أخرى مرفوعة ضده امام المحكمة الدستورية تتهمه بمحاولة الإطاحة بالنظام الملكي من خلال دعوته إلى إلغاء قانون العيب في الذات الملكية (قانون يحمي الملك والملكة والوصي وولي العهد من النقد ويعاقب المتجاوز بالسجن لمدة 15 عاما). والمعروف أن التهمة الأولى إذا ما أقرتها المحكمة ضد المدعى عليه (بيتا ليمجارونرات) فإنها ستؤدي إلى سجنه ومنعه من ممارسة السياسة لمدة 10 سنوات، أما التهمة الثانية فكفيلة بحل حزبه وتجريد نواب الحزب الفائزين من مقاعدهم.

وهكذا، حينما انعقد مجلسي الشيوخ والنواب في جلسة مشتركة يوم 19 يوليو الجاري، وجد بيتا أمامه حكما قضائيا من المحكمة الدستورية، الأمر الذي أجبره على مغادرة الجلسة وسط هتافات تأييد من نوابه المنتخبين، وهو يرفع قبضته قائلا: "أود أن أقول وداعا حتى نلتقي مرة أخرى". فيما كان معارضوه الموالون للعسكر منتشين ويطالبون بوقف عملية التصويت الثانية.

خارج قاعة الإجتماع كانت الجماهير التايلاندية من مؤيدي بيتا وغيرهم يحبسون أنفاسهم، خشية أن تنتهي العملية الديمقراطية إلى توترات واضطرابات سياسية تعصف باقتصاد وأحوال البلاد كما حدث أكثر من مرة خلال السنوات القليلة الماضية. وبدا أكثرهم متشائما بعد أن تلاشت آمالهم في التغيير من خلال العملية الديمقراطية السلمية، خصوصا بعد تصريح بيتا لوسائل الإعلام بأنه سيتوقف عن العمل البرلماني كعضو منتخب إلى حين صدور حكم قضائي حول مستقبله السياسي، مضيفا: "أعتقد أن تايلاند تغيرت ولن تكون كما كانت قبل 14 مايو" في إشارة إلى تاريخ فوزه في الانتخابات الأخيرة.

وفي اعتقادنا أن المؤسسة العسكرية التايلاندية وجنرالاتها الأقوياء سيواصلون عرقلتهم لعودة الديمقراطية والحكم المدني إلى هذه البلاد كما فعلوا مرارا وتكرارا عبر الانقلابات العسكرية أو عبر طرق ووسائل مختلفة أخرى منذ أن أخذت تايلاند بالنظام الملكي الدستوري بدلا من النظام الملكي المطلق لأول مرة في عام 1932 في عهد الملك "براجاد هيبوك شولالون كورن" المعروف باسم راما السابع والذي دام حكمه من نوفمبر 1893 إلى مايو 1941م.



د.عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يوليو 2023م


الاثنين، 24 يوليو 2023

المجلس العالمي لثورة الأرز: لا للوصاية الايرانية ونحيي أحرار لبنان للصمود وللتعبير

واشنطن في   25 تموز 2023

في تطور لافت قام الوزير السابق وئام وهاب وهو أحد المتاجرين والمفاخرين بامتلاكه وحدة مما يسمى "بسرايا المقاومة" بالتعدي على الصحافي سيمون أبي فاضل في برنامج صار الوقت على شاشة الأم تي في الخميس الماضي ما أدى إلى اشتباك بالأيدي أمام الكاميرات أثار ردودا من قبل الراي العام. هذه الحادثة وشبيهاتها يذكروننا بمرحلة حكم الوصاية السورية الذي انتقل اليوم للرديف الإيراني ولا عجب أن تكم الأفواه ويمنع التعبير الحر عن الرأي ويهان الصحافيون أمام مرأى العالم أجمع.

إن المجلس العالمي لثورة الأرز إذ يستنكر كل أعمال القمع لا يعجب من تطور الحالة إلى العنف الجسدي فمن أمر بقتل لقمان سليم بدم بارد وقبله قائمة طويلة من شهداء الرأي والسياسيين الأحرار والقادة العسكريين لن يردع بالكلام المهذب ولا بالتمني بأن يتحلى باللياقة وحسن التصرف فهو من ثقافة تتربي على الحقد ومد اليد واعتبار الكل في خدمة مشاريع من يتخذون لأنفسهم تسمية "جماعة الممانعة" هؤلاء.


وإلى الصحافي سيمون أبي فاضل وكل الأحرار في لبنان رسالة تشجيع على الصمود وعدم الخوف لأن الأوطان لا تبنى بالتمنيات والحق يدافع عنه بكل الشجاعة المطلوبة ولا بد لبيارق الأحرار أن ترفرف عاليا بالرغم من القهر وكلما زاد الضغط قرب الفرج.

إن المجلس العالمي لثورة الأرز يحيي أحرار لبنان ويتضامن مع حرية الراي فيه بالرغم من سيطرة جماعة الحرس الثوري على البلد ومقدراته ويتعهد بمتابعة مساندة القضية اللبنانية حتى يتحرر لبنان من الحساد والأشرار والذين يمنون النفس باستمرار الاحتلال.   


الخميس، 20 يوليو 2023

ماذا يجري خلف الجدار الحديدي في شمال كوريا؟


 بقلم: د. عبدالله المدني*

تظل كوريا الشمالية على الدوام مادة دسمة للقيل والقال والتكهنات والافتراضات بسبب انغلاقها على نفسها الذي هو سمة من سمات نظامها الديكتاتوري الشيوعي، ناهيك عن عزلتها جراء العقوبات الدولية المفروضة عليها بسبب برامجها النووية والباليستية المهددة لجاراتها. 

ولا حاجة لنا للتذكير كيف أن وسائل الاعلام الاجنبية تنافست، خلال فترة انتشار جائحة كورونا في العالم، لمعرفة مدى تعرضها للوباء والآثار التي تركته على أحوال سكانها المعيشية والصحية. ولعل ما أغرى الاعلام الغربي والآسيوي أكثر هو الشعارات التي أطلقتها بيونغيانغ بفخر آنذاك من أن كوريا الشمالية هي البلد الوحيد في العالم العصي على فيروس الوباء بسبب "السياسات الحكيمة للقائد العظيم وزعيم الأمة كيم جونغ أون"، وكان المقصود، بطبيعة الحال، هي سياسته في غلق الأبواب باحكام أمام كل من يطرقها.

والحقيقة لئن كانت أخبار الداخل الكوري الشمالي غير متاحة في الأحوال العادية، فإنها في زمن انتشار الوباء تحولت إلى مادة نادرة جدا بسبب قيام السلطات باغلاق الحدود باحكام حتى مع جارتها وحليفتها الوحيدة، الصين، التي ظلت دائما منفذها الوحيد للإطلالة على الخارج ولإستيراد بعض السلع والبضائع ومنفذ مواطنيها اليتيم للهرب والتهريب.

اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات على انقشاع أخطر وباء في العصر الحديث، ومع عودة الحياة إلى طبيعتها في مختلف دول العالم واستعادة الناس حرياتهم في التنقل والسفر والتبضع والترفيه، تظل هذه البلاد هي الإستثناء الوحيد.

والجدير بالذكر هنا أن زعيم البلاد الأوحد و"شمسها المشرقة" و"ملهم أجيالها"، قرر في يناير 2020 عزل كوريا الشمالية بشكل مطلق عن العالم الخارجي وبصورة أكثر تشددا من أي وقت مضى في تاريخها البائس كرد على جائحة كورونا، وهو قرار لا يزال ساريا إلى اليوم باستثناء بعض التجارة مع الصين. وقتها، تراجع "كيم جون أون" عن تصريحه السابق وحذر من احتمال أن تشهد البلاد "مسيرة شاقة" ثانية، بل وطالب مواطنيه بضرورة الإستعداد لذلك، في إشارة إلى المجاعة التي قتلت ما لا يقل عن 600 ألف شخص أو أكثر في عقد التسعينات، وهي حقبة سوداء تركت ظلالا قاتمة على حياة السكان بإستثناء أولئك الذين كانوا يعيشون في مناطق الحدود الشمالية الملاصقة للصين، ممن لجأوا إلى تهريب المواد الغذائية والتموينية والأدوية والضروريات من الصين، وتداولها بطرق غير مشروعة من خلال السوق السوداء.

ومما يذكر أيضا، في السياق نفسه، أنه بحلول شهر يونيو 2021م تسربت أنباء من الداخل الكوري الشمالي تفيد بوجود نقص حاد في الغذاء والمواد التموينية كنتيجة لخلق الحدود مع الصين، ولكن بدلا من أن تخفف السلطات إجراءاتها جزئيا لإنقاذ مواطنيها من الهلاك، راح الزعيم يحث شعبه على الصمود والبقاء أقوياء لمواجهة تبعات الجائحة، علما بأن التبادل التجاري بين بيونغيانغ وبكين لم يستأنف حتى اليوم بالشكل الذي كان عليه سابقا. ولعل هذا ما دعا الأمم المتحدة إلى نشر تقرير في مارس 2023، طالبت فيه سلطات كوريا الشمالية بانهاء ما وصفته بـ "العزلة الذاتية التي لا مثيل لها"، رأفة بمواطنيها. حيث قالت البروفسورة البيروفية "إليزابيث سالمون"، وهي مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الانسان في "جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية": أنها تشعر بقلق بالغ إزاء تأثير ثلاث سنوات من اغلاق الحدود على الشعب الكوري الشمالي، ولاسيما "النساء العاملات في الأسواق غير الرسمية والأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع وكبار السن والمشردين والأطفال". كما سلطت الضوء في تقريرها، بشكل خاص، على محنة الزوجات اللواتي يتعرضن لعنف متزايد بسبب عدم قدرتهن على توفير الطعام لأسرهن.

وعلى الرغم من أن ما جاء في التقرير الأممي متوقع وغير مستبعد، إلا أن البعض من غلاة اليساريين وأيتام الشيوعية ممن يزعجهم سماع مثل هذه التقارير التي تدين نظام بيونغيانغ "الصامد أمام الغرب وقوى الشر الامبريالية" بحسب وصفهم، لا يصدقون ويكابرون ويطالبون بدليل مادي.

والحقيقة أن الأدلة على أوضاع كوريا الشمالية البائسة، لم تكن يوما متوفرة، وهي اليوم أكثر ندرة كما قلنا. فقد كان مصدر أخبار هذه البلاد من الداخل هو الدبلوماسيون وعمال الإغاثة الأجانب والمنشقون الهاربون إلى الشطر الجنوبي، لكن مع إحكام اغلاق الحدود منذ عام 2020 باتت حتى هذه المصادر معدومة، خصوصا مع انخفاض حالات الانشقاق والهرب خوفا من الإعدام الفوري بالرصاص من قبل حرس الحدود التابع لجيش الشعب الأحمر.

وهكذا صار الاعتماد فقط على ما تنقله مصادر المخابرات الكورية الجنوبية، علاوة على ما ينشره أقارب الكوريين الشماليين المتواجدين في الشطر الجنوبي. ومثال ذلك ما أعلنه جهاز المخابرات الوطني في كوريا الجنوبية في مايو 2023 من أن عشرة أشخاص من مواطني الشمال غامروا بالهرب عن طريق البحر ونجحوا في الوصول إلى الشطر الجنوبي وأنهم أفادوا في التحقيقات أن نظام بيونغيانغ يفرض ضوابط أكثر صرامة من أي وقت مضى وأن المواطنيين العاديين، يعانون المجاعة وبالكاد يحصلون عن جزء بسيط من احتياجاتهم الأساسية، فيما يعيش أفراد العائلة الحاكمة والمقربون منه في بحبوحة.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يوليو 2023م


الأربعاء، 12 يوليو 2023

باكستان وصندوق النقد .. 70عاما من العلاقات المضطربة

  


بقلم: د. عبدالله المدني*

منذ أن بدأ أول اتصال بين الحكومة الباكستانية وصندوق النقد الدولي (IMF) قبل  سبعين عاما، لجأت إسلام آباد إلى الصندوق 22 مرة طالبة العون والمساعدة والإنقاذ. ولم يكن ذلك سوى انعكاس لأمراضها الإقتصادية المزمنة وما تعانيه من تحديات وانتكاسات بسبب جملة من العوامل الداخلية المتجذرة مثل غياب الاستقرار السياسي واختلال الوعاء الضريبي وأسلوب التحصيل، ناهيك عن ضغوط مالية فرضتها الكوارث الطبيعية أو تداعيات حروب البلاد مع الهند.

والمعروف أن ياكستان انضمت إلى الصندوق في يوليو 1950، وكان القرض الأول الذي حصلت عليه في عام 1958 بمبلغ 25 مليون دولار، ثم راحت مبالغ الاقتراض تتصاعد لأسباب مختلفة حتى وصلت في سنة 2008 في عهد حكومة يوسف رضا جيلاني إلى 7.6 مليار دولار، علما بأن آخر قرض تلقته من الصندوق كان في عام 2019 بمبلغ مليار دولار، وكان مشروطا بضرورة إلغاء دعم الطاقة ورفع تعرفتها وزيادة الضرائب وخصصة الكيانات الخاصة وتغيير السياسات المالية للموازنة.

ويتضح لنا من مراجعة تاريخ العلاقة بين الجانبين أنه في كل المرات التي لجأت فيها إسلام آباد إلى الصندوق كملاذ أخير، كان الصندوق يستجيب فيقدم قروضا مالية مشروطة كالعادة بتنفيذ حزمة من الإجراءات والتدابير الهادفة إلى معالجة نقاط الضعف الهيكلية وتحسين الانضباط المالي وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. لكن يتضح لنا أيضا أن حكومات باكستان نادرا ما امتثلت لتلك الاشتراطات لأسباب داخلية متعلقة بالخوف من فقدان الشعبية، ما جعل صندوق النقد الدولي متشككا بشأن منح قروض جديدة أو الموافقة على إعادة جدولة قروض سابقة، وتسبب في تآكل ثقة الصندوق في الدولة الباكستانية.

ولهذا السبب راحت الحكومات الباكستانية المتعاقبة تبحث عن بديل لقروض ومساعدات الصندق الدولي، فوجدت ضالتها في قروض ومساعدات المؤسسات المالية الإقليمية مثل صناديق التنمية الخليجية وبنك التنمية الآسيوي (ADB)  وبنك التنمية الإسلامي (IDB)  وبنك التنمية الصيني (CDB) ناهيك عن قروض ومساعدات ودية من بعض الدول الصديقة. ففي عام 2018 مثلا لجأت حكومة رئيس الوزراء المقال عمران خان إلى السعودية والإمارات والصين للحصول على قروض لتجنب شروط صندوق النقد، وخلال الأشهر الستة الأخيرة من العام الجاري، نجحت إسلام آباد في تأمين قروض من الصناديق المذكورة بلغت حصيلتها أكثر من 4 مليارات دولار أمريكي، إضافة إلى أكثر من 9 مليارات دولار حصلت عليها في شكل اعانات من دول ومنظمات مختلفة من أجل مساعدتها في أعمال الإغاثة من الفيضانات.

ومما لاشك فيه أن توفر تلك الأموال الضخمة، جعلها تتنفس الصعداء وتشعر بشيء من الراحة. غير أن ذلك ليس سوى حل وقتي مؤقت، ولا يمكن اعتباره حلا مستداما لمعالجة التحديات الاقتصادية عميقة الجذور، خصوصا إذا ما عرفنا حجم الأعباء الكبيرة الملقاة على اقتصاد البلاد والناجمة عن تصاعد اجمالي الدين الحكومي (يبلغ حاليا أكثر من 150 مليار دولار أمريكي)، والتردد في خفض الانفاق، والدعم المقدم للكهرباء (يعتبر قطاع الكهرباء في باكستان مصدرا رئيسيا للضغوط المالية على الدولة، حيث تراكم الدين العام في القطاع جراء الإعانات والفواتير غير المسددة البالغ قيمتها في نهاية عام 2022  إلى نحو 15 تريليون دولار أمريكي)، وفشل الدولة في معالجة عجوزات الميزانية الناجمة عن الانفاق الحكومي المفرط، والتزامات الدولة تجاه سداد الديون المستحقة عليها للقطاع الخاص (تدين باكستان للقطاع الخاص بمبالغ تصل إلى حوالي 8 مليارات دولار تكون في الغالب من سندات اليوروبوندز (Eurobonds) وسندات الصكوك العالمية). 

يتردد كثيرا في وسائل الإعلام الباكستانية أن البلاد ليست بحاجة إلى مساعدات الغرب ومؤسساته، أو أنها لم تعد تتسول منها كما كانت في عقود ماضية، وأنها تعول الآن بصفة رئيسية في وقوفها اقتصاديا على قدميها على حليفتها الإستراتيجية الكبرى ممثلة في العملاق الصيني، غير أن في هذا الكلام الكثير من المبالغة والمكابرة والتمنيات. 

صحيح أن الصين تعتبر اليوم داعمة قوية لباكستان لأسباب استراتيجية معروفة، بدليل أن مؤسسات الصين المالية هي صاحبة نسبة كبيرة من القروض التجارية المستحقة على باكستان، لكن الصحيح أيضا هو أن تلك المؤسسات ليست جمعيات خيرية وإنما كيانات تتوخى في أنشطتها الإقراضية تحقيق الأرباح، فتضع شروطا صارمة وأسعار فائدة مرتفعة وفترات سداد قصيرة. ولعل أوضح مثال على صحة ما نقول هو أن المؤسسات الصينية الدائنة مثل بنك التنمية الصيني مددت مؤخرا قرضها البالغ 2.2 مليار دولار لباكستان 3 سنوات إضافية، لكنها أضافت على سعر الفائدة المعروض 1.5 نقطة مئوية.

وأخيرا، لسنا بحاجة للتذكير بأن أوضاعا اقتصادية ومالية كهذه معطوفة على بيئة محلية ينخرها عدم الإستقرار السياسي والتهرب الضريبي، علاوة على فقدان ثقة صندوق النقد الدولي، يثبط نشاط المستثمرين ويعيق تدفق الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية ويؤثر سلبا على فرص التعاون الدولي مع باكستان، الأمر الذي قد يفضي إلى استفحال الأوضاع في هذا البلد الصديق ووقوعه في أزمة مالية خطيرة غير مسبوقة.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يوليو 2023م



الثلاثاء، 4 يوليو 2023

حلف الناتو يتوسع غربا ويتعاون شرقا


 

بقلم: د. عبدالله المدني*

في الأسابيع الأخيرة طغى الحديث عن حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتشعب لعدة أسباب أولها المقابلة المطولة التي أجرتها مجلة "الإيكونومست" البريطانية مع المفكر والسياسي الأمريكي المخضرم الدكتور هنري كيسينغر بمناسبة احتفاله بعيد ميلاده المائة، والتي تحدث فيها الأخير ــ ضمن أمور أخرى ــ عن موقفه من عضوية أوكرانيا في الحلف، وهي العضوية التي رأت فيها موسكو، بمجرد طرحها كمقترح، تهديدا لأمنها ومخططا غربيا أمريكيا أطلسيا لمحاصرتها واخضاعها، ما تسبب في اطلاق شرارة الحرب الدائرة حاليا بين أوكرانيا والإتحاد الروسي منذ 24 فبراير 2022م.

بدا كيسينغر في حديثه مؤيدا قويا لمنح أوكرانيا العضوية الكاملة في الناتو. أما حجته فكانت ما مفاده أن وجود هذا البلد، بتعقيداته الجغرافية والتاريخية وبما يمتكله من أسلحة وخبرة عسكرية، داخل منظومة الحلف سوف يجعلها خاضعة لقواعد وسياسات الناتو، وبالتالي يحول دون تهورها أو تصرفها بمفردها فلا تكون خطرا على نفسها وعلى أوروبا. وهو ما دفع محاوره إلى التعليق قائلا: "إن حجتك لوجود أوكرانيا في الناتو هي حجة لتقليل مخاطرها على أوروبا وليس حجة للدفاع عنها وعن أمنها". ويبدو أن قبول أوكرانيا في الناتو معلق الآن إلى حين إنتهاء حربها ومشاكلها مع روسيا، خصوصا وأن ألمانيا، العضو القوي في الحلف، لئن كانت موافقة من حيث المبدأ على عضوية أوكرانيا، إلا أن مستشارها "اولاف شولتز" لا يحبذ انضمامها وهي في حالة حرب، ويقاوم ضغوط زملائه من أعضاء البرلمان (البوندستاغ) في هذا الصدد. 

من ناحية أخرى صار الناتو مؤخرا عنوانا لمانيشات الصحف الغربية لسبب آخر هو قبول فنلندا كعضو جديد في الحلف في مايو 2023، على خلفية شعور هذه الدولة الإسكندنافية المحايدة بالعزلة والتهديد، بعد ما حدث بين أوكرانيا وروسيا. وقد تزامن هذا مع رفض الحلف منح عضويته لبلد اسكندنافي آخر مجاور لفلنلندا هو السويد. 

والجدير بالذكر، في هذا السياق، أن فنلندا تقدمت بطلبها إلى الحلف في مارس 2022، فرحب الناتو بها في أبريل معلنا أن انضمامها مفيد لها ولأمن بلدان شمال أوروبا وللحلف ككل، خصوصا وأنها تشترك في أطول حدود لدولة غربية مع روسيا (1338 كلم). وفي حفل انضمامها رسميا قال الرئيس الفنلندي "سولي نينيستو" إن عضوية بلاده لن تكتمل بدون السويد، فرد أمين عام الحلف "ينس ستولتنبرغ" قائلا: "أتطلع إلى الترحيب بالسويد في أقرب وقت ممكن"، وهو ما لم يحدث حتى هذه الساعة، كي يكتمل عقد تواجد جميع الدول الإسكندنافية في الناتو (انضمت النرويج والدانمارك وآيسلندا في عام التأسيس 1949)، لأن عضوين من أعضاء الحلف وهما تركيا والمجر يعارضان انضمامها لسببين مختلفين، علما بأن قرارات الناتو(بما فيها ضم الأعضاء الجدد) لا تتخذ إلا بالإجماع طبقا لميثاق الحلف.

فتركيا التي انضمت إلى الحلف مع غريمتها اليونانية عام 1952، تعارض قبول السويد لأن الأخيرة صارت ــ حسب زعمها ــ مرتعا لأعضاء وأنشطة حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي يهدد أمن تركيا ووحدتها واستقرارها، حيث اشتكى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكثر من مناسبة من تساهل ستوكهولم مع أنشطة الحزب وعدم تصديها لمظاهرات أعضائه وأنصاره ضد أنقرة، كما أن خارجيته استدعت مرارا وتكرارا السفير السويدي في أنقرة للشكوى والاحتجاج. أما سبب معارضة المجر، التي انضمت إلى الناتو في 1997، فتكمن في امتعاض رئيسها "فيكتور أوربان" من ستوكهولم لأن الأخيرة ــ طبقا له ــ لها موقف سيء وغير منصف من ديمقراطية بلاده البرلمانية وقوانينها، مشيرا في هذا الصدد إلى دعم السويد القوي لتقرير برلماني للإتحاد الأوروبي في 2022 وصف النظام المجري بالنظام الاستبدادي الهجين، ومؤكدا أن تحالفه الحاكم والمهيمن على البرلمان (135 مقعدا من أصل 199) لن يتراجع عن موقفه المعارض.

وإذا ما انتقلنا من الغرب إلى الشرق، نجد أن أخبار الناتو تصدرت بعض الصحف الآسيوية أيضا، لكن لسبب مختلف. فصحيفة يابانية واسعة الإنتشار مثل "نيكي" كتبت تقريرا حول اعتزام الناتو فتح مكاتب اتصال لها في اليابان في العام المقبل لتكون مقارا  للتعاون والتواصل والتخابر والتنسيق بينه وبين اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ونيوزيلندا. ليس هذا فحسب، وانما أشار التقرير أيضا إلى قرب اعتزام الناتو عقد اتفاقيات ثنائية مع كل دولة من الدول الأربع المذكورة للتعاون في مجالات الأمن والأمن السيبراني والفضاء وغيرها في نطاق منطقة المحيط الهاديء. إلى ذلك ظهرت تكهنات في اليابان حول احتمال انضمام طوكيو رسميا إلى الناتو، وأن رئيس الحكومة اليابانية "فوميو كيشيدا" سيحضر قمة الحلف السنوية المقرر عقدها في العاصمة الليتوانية، فيلنيوس، في 11 و12 يوليو القادم لهذا الغرض، وهو ما نفاه  كيشيدا الشهر الماضي.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يونيو 2023م