الثلاثاء، 8 أغسطس 2023

ما ينبغي على اليابان أن تفعله كقوة متوسطة مسالمة


بقلم د. عبدالله المدني*

إطلعت مؤخرا على دراسة استراتيجية مطولة هامة حول وضع اليابان في حال نشوب صراع مسلح بين واشنطن وبكين في منطقة آسيا والمحيط الباسيفيكي، والسياسات التي يجب على طوكيو انتهاجها في هذه البيئة المقبلة على مخاطر كبيرة. 

تنبع أهمية الدراسة من كونها لامست مختلف الجوانب ذات العلاقة اولا، ثم من مشاركة نخبة من كبار الأكاديميين والمفكرين والدبلوماسيين اليابانيين المرموقين في إعدادها من أولئك المنخرطين في أعمال "مجموعة أبحاث المستقبل في آسيا"، ناهيك عن أن مرئيات الدراسة ومقترحاتها تصلح للتطبيق في حال دول أخرى متوسطة الوزن من تلك التي ترتبط بعلاقات استراتيجية وطيدة مع واشنطن من جهة ولديها من جهة أخرى مصالح وروابط اقتصادية متعددة الأشكال مع بكين.

تنطلق الدراسة من القول أن اليابان تفتقر في خطابها العام إلى استراتيجية متوازنة واضحة لجهة التعامل مع اشتداد التنافس الجيوسياسي الراهن بين واشنطن وبكين، وأن مستقبل اليابان وكل آسيا بات اليوم على مفترق طرق. هذا على الرغم من أن الحكومة اليابانية تبنت في ديسمبر الفائت استراتيجية جديدة للأمن القومي، لكنها في نظر أصحاب الدراسة ترتكز على سياسات القوة والقدرات العسكرية والجغرافيا السياسية والأمن الاقتصادي أكثر من ارتكازها على الدبلوماسية والحوار والتعاون، ناهيك عن أنها تعطي الأهمية القصوى للتحالف الأمريكي ــ الياباني التاريخي لسد أي فجوة أو مخاطر قد تنشأ من نزاع مسلح بين واشنطن وبكين.

وبعبارة أخرى، فإنه على الرغم من أن الدراسة تصف التحالف الأمريكي ــ الياباني بأنه هام وضروري ولا غنى عنه، إلا أنها تقترح أن يتواكب ذلك مع خطاب ياباني جديد يرتكز على نبذ العصبيات القومية التاريخية ويستدعي روح التعاون والتنسيق مع جميع الأطراف الدولية الفاعلة ــ ولاسيما القوى المتوسطة منها ــ لأن ذلك "وسيلة بناءة لمواجهة التحديات والانقسامات الإقليمية والدولية الجديدة".

من ناحية أخرى هناك ميل واضح لدى واضعي الدراسة نحو دفع اليابان إلى التخلي عن النظر لنفسها كقوة منافسة للقوى العظمى، والتركيز بدلا من ذلك على الترويج لنفسها كقوة متوسطة الوزن والتأثير مع ممارسة دورها التقليدي كبلد آسيوي قائد وموثوق به في محيطها الاقليمي، وكقطر داعم لغيرها من دول آسيا النامية في مجالات الاقتصاد والتنمية المستدامة والاستثمار والتجارة الدولية والحوكمة المالية والديمقراطية والتقدم التكنولوجي، لأن ذلك سوف يوطد مكانتها في أعين شريكاتها من الدول التي تتقاسم معها قيم الديمقراطية ومباديء حقوق الإنسان والتعاون والسلام ونبذ القوة في حل النزاعات مثل الهند واستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وبعض دول رابطة آسيان. أما خلاف ذلك فمعناه ترك آسيا فريسة للمزيد من التخلف والانقسام والتشرذم.

ومما لفت نظرنا في الدراسة أنها تحث صانع القرار الياباني على تبني سياسة مستقلة عن سياسات واشنطن، خصوصا فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وبعبارة آخرى ترى الدراسة أن على طوكيو ألا تنجرف إلى ما تفعله الولايات المتحدة لجهة فرض قيمها على الأمم الأخرى، مشيرة إلى أن على اليابان أن تدرك تنوع الأنظمة السياسية في آسيا وفقا للمسارات التاريخية والثقافية والتقاليد الاجتماعية لكل بلد، وبالتالي التنبه إلى حساسية إملاء شروط وقيم لا تتفق مع تلك المسارات والتقاليد، وتجنب نهج ايديولوجي مفرط في السياسة الخارجية.

كما لفت نظرنا مطالبة الدراسة للحكومة اليابانية بان تكون حذرة حول تعريف المنطقة الآسيوية من حيث انها فقط "المحيطين الهاديء والهندي"، وهو تعريف تكرر استخدامه في السنوات الأخيرة في السياسة الدولية ولا سيما من جانب واشنطن. فالمطلوب ــ بحسب واضعي الدراسة ــ أن تكون طوكيو قوة دافعة نحو تعزيز التفاهم والتعاون والسلام في آسيا بأسرها، شرقها وغربها، بمعنى ألا تهمل الدول غير الحليفة والشريكة للولايات المتحدة في المنطقة الآسيوية.

وهناك ضربت الدراسة مثلا بكوريا الشمالية، مطالبة طوكيو بأن درء أخطار نظام بيونغيانغ الإستبدادي المتطرف يتطلب منها السعي إلى انتهاج نهج واقعي وتدريجي تجاه الهدف الأسمى المتمثل في نزع سلاح بيونغيانغ النووي عبر الحوار المستمر. كما وأن درء أخطار نشوب صراع مسلح في مضيق تايوان يتطلب من طوكيو أن تلتزم مبدأ الحفاظ على الوضع الراهن إلى أن تنضج الحلول السلمية لقضية الوحدة بين بكين وتايبيه وأن تظهر بقوة ووضوح رفضها القاطع لأي استخدام أحادي الجانب للقوة العسكرية من جانب بكين لحل مسألة تايوان، مع التأكيد الدائم على عدم نيتها دعم فكرة استقلال الصين الوطنية.

في الدراسة الكثير من الينبغيات والتمنيات، ومنها أيضا ضرورة أن تكون طوكيو مبدعة في طرح ومناقشة أفكار مختلفة مع بكين حول قضية جزر سينكاكو المتنازع عليها بين الدولتين والتي لطالما وترت علاقاتهما البينية، مع إحياء وتنفيذ البيان الصحفي الياباني ــ الصيني المشترك الصادر في يونيو 2008 بشأن التنمية المشتركة في بحر الصين الشرقي لجعله بحرا من السلام والتعاون والصداقة.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أغسطس 2023م


الثلاثاء، 1 أغسطس 2023

النموذج البنغلاديشي في التعامل مع مبادرة الحزام والطريق



 

بقلم: د. عبدالله المدني*

تعد بنغلاديش من ضمن البلدان الآسيوية الأسرع نموا، لكنها كغيرها من الأقطار النامية تواجه العديد من التحديات. فإذا ما وضعنا جانبا تحديات الطبيعة ممثلة في الفيضانات السنوية الناجمة عن الرياح الموسمية الحلزونية والتي عادة ما تلحق أضرارا كبيرة بالمنشآت وتهلك المحاصيل وتحصد الأرواح، تعاني بنغلاديش من شدة الكثافة السكانية وتداعياتها من فقر وازدحام وضغوط على البنية الخدمية.

ولهذه الأسباب والعوامل مجتمعة، وجدت حكومة رئيسة الوزراء الشيخة "حسينة واجد ان الشرط الأساسي لتوسيع حجم الاقتصاد وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية مستدامة هو تطوير البنية التحتية المادية لتعزيز الاتصال بين مختلف مقاطعات البلاد، وإلا فإن من الصعب على بنغلاديش توسيع أنشطتها الإقتصادية خارج العاصمة والمناطق الساحلية (مثلا لا يمكن تصنيع المناطق الشمالية والشمالية الغربية دون اتصال سلس وبنية تحتية لوجستية حديثة، وفي ظل افتقار البلاد إليهما).

ومن هنا بدأ التفكير في الاستعانة بالخارج وطلب المساعدات الأجنبية، فالتقت سياسات حكومة دكا التنموية وحاجتها للتمويل بطموحات الصين الاستراتيجية والجغرافية والسياسية والاقتصادية التي يمثلها أفضل تمثيل مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI). وبعبارة أخرى راهت دكا على الصين باعتبارها قطبا آسيويا هاما وقوة اقتصادية عالمية، فسارعت للإنضمام إلى مبادرة الحزام والطريق كالعديد من الدول النامية الأخرى، بل ودخلت أيضا في شراكة واتفاقيات استراتيجية ثنائية مع الجانب الصيني كي تحصل على التمويل الانمائي والقروض الميسرة بأشكال مختلفة أخرى خارج إطار المبادرة بما في ذلك تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في البلدين. 

كان من نتائج هذا التعاون البنغلاديشي ــ الصيني أن برزت الصين، في السنوات الأخيرة منذ عام 2016، كأكبر شريك تجاري لبنغلاديش وأحد أكبر مقدمي مساعدات التنمية لها. ونجد تجليات ذلك في ثلاثة مشاريع انمائية كبرى انتهت الصين من تنفيذها في بنغلاديش، وستة مشاريع ممائلة قيد التنفيذ أو ينتظر البدء في تنفيذها، وذلك بموجب مبادرة الحزام والطريق. وتشمل المشاريع الثلاثة المذكورة: مشروع جسر وسكة حديد بادما المتعدد الأغراض عبر نهر بادما بالقرب من العاصمة دكا (مشروع تم تنفيذه باستخدام التكنولوجيا والهندسة الصينية ويختصر طرق النقل بشكل كبير ويربط شمال البلاد وشمال غربها مباشرة بالعاصمة، بل ويخفف الضغط على الممرات المائية الداخلية المستخدمة للنقل التجاري)، ومشروع نفق بانغاباندو تحت نهر كارنافولي (مشروع غير مسبوق لجهة الحفر تحت المياه لأول مرة في بنغلاديش من أجل إقامة نفق يسهل عمليات نقل البضائع والأفراد ويمهد لإنشاء قطارات الأنفاق مستقبلا)، ومشروع معالجة مياه الصرف الصحي في داشركندي (مشروع هام لمعالجة مياه الامطار القذرة والنفايات المنزلية المتجمعة عبر محطات تنقية قبل وصولها إلى المسطحات المائية والمنازل).

لقد أقدمت دكا على ما سبق، وهي تعلم محاذير الاعتماد المكثف على قوة عظمى لها حساباتها وأجنداتها السياسية وطموحاتها الاقليمية، ومنها شبح الوقوع في ما يسمى بـ "فخ القروض او الديون" الصيني الذي عانت منه سريلانكا وما نجم عن ذلك من انهيارها وافلاسها وخسارة سيادتها على ميناء هامبانتونتا. كما أنها وضعت في اعتبارها ما سينشأ عن شراكتها مع بكين من شكوك وهواجس في الهند، جارتها الكبرى التي تحيط بها جغرافيا من الشرق والغرب والشمال، ومن امتعاض في واشنطن التي لا يمكن لدكا الإفراط في صداقتها بسبب وزنها الدولي وعلاقات الاستيراد والتصدير القوية معها. فكيف تصرفت؟

الحقيقة أن كلا من نيودلهي وواشنطن باتا تنظران إلى بنغلاديش على أنها دولة تميل إلى الصين، رغم محاولات دكا الظهور بمظهر الدولة المحايدة الساعية إلى توازن لجهة علاقاتها الثنائية مع القوى الاقليمية والعالمية الكبيرة المتنافسة. ومن جهة أخرى أظهرت حكومة الشيخة حسينة واجد حكمة وحنكة في كيفية تعاونها مع الصينيين، فهي مثلا، في سعيها لتجنب الوقوع في "فخ الديون" رفضت أو ألغت العديد من المشاريع المقترحة من قبل بكين من تلك التي لا تبدو مجدية اقتصاديا أو أن كلفتها أكثر من فوائدها، مركزة فقط على المشاريع الحاسمة التي تعالج نقص البنية التحتية، ولا تمنح مزايا استراتيجية وجيوسياسية للعملاق الصيني. وبكلام آخر أكثر وضوحا أظهرت حكومة دكا براعة تصلح لتكون نموذجا ومثالا في دراسة كل مشروع انمائي مقترح من الممول الصيني على حدة لجهة كلفته ومنافعه أو نفقاته وايراداته، ثم المفاضلة بينها لإختيار الأقل عبئا والأكثر فائدة للاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة والتصنيع والتجارة وأهداف الارتقاء بأحوال المواطنين المعيشية وتحسين بيئة الإستثمار.

ولعل اختيارها وموافقتها على المشاريع الثلاثة التي تحدثنا عنها آنفا، خير دليل على صحة ما نقول، فهي مشاريع لا تقدر بثمن وتساوي كلفتها وأعبائها التمويلية وتزيد الناتج المحلي الاجمالي وتقلل نسبة الفقر وتجدد الاقتصاد وتعالج الطلب المتزايد على الطاقة، وتزيد حركة الاتصال والنقل عبر الحدود فضلا عن أنها تعرف البلاد على التقنيات والتكنولوجيا المتطورة في أعمال الإنشاءات.

وفي التقييم الأخير، يمكن القول أن بنغلاديش فعلت ما يجب أن تفعله كل الدول المنخرطة مع العملاق الصيني، وكان من نتائج ذلك أن استغادت استفادة صافية من مبادرة الحزام والطريق دون أن تحمل نفسها أعباء كبيرة أو ترهن أصولها السيادية.



د.عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يوليو 2023م