الثلاثاء، 19 سبتمبر 2023

كامب ديفيد آسيوي ــ أمريكي .. لماذا؟ وماذا حقق؟

 


 بقلم: د. عبدالله المدني*

أشرنا في مقالات سابقة إلى مدى ما تعانيه السياسة الخارجية الأمريكية الخاصة بمحاصرة العملاق الصيني واحتواء تمدده، من متاعب جراء الخلافات العميقة بين أهم حليفين لواشنطن في الشرق الأقصى. فإدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية كثيرا ما اشتكت من أن الخلافات الكورية الجنوبية ــ اليابانية تؤثر سلبا على مخططاتها سواء لجهة محاصرة الصين أو لجهة التصدي لتهديدات النظام الحديدي في كوريا الشمالية.

ومن هنا جاءت مبادرة واشنطن لعقد قمة بالمنتجع الرئاسي الأمريكي في كامب ديفيد في شهر أغسطس المنصرم بين الرئيس الأمريكي ونظيريه الياباني فوميو كيشيدا والكوري الجنوبي يون سوك يول، بعدما فشلت عدة اجتماعات عقدت على مستويات وزارية لتقريب وجهات النظر بين طوكيو وسيئول، علاوة على فشل اجتماعات قمة عقدت بين الأطراف الثلاثة على هامش قمة العشرين في هيروشيما في مايو 2023.

ويقال أن بايدن تولى بنفسه عملية التنسيق لعقد هذه القمة، مستعينا بخبرة سابقة في الإتصال بالدولتين الحليفتين حينما كان نائبا للرئيس زمن إدارة باراك أوباما، ناهيك عن أن أول من استضافهم بايدن بعد تنصيبه رئيسا كان زعماء اليابان وكوريا الجنوبية، بل أن أول عاصمتين آسيويتين زارهما بايدن كرئيس كانتا طوكيو وسيئول، في دلالة على مركزية هذين البلدين بالنسبة للمخططات الأمريكية ذات الصلة بالأمن في المحيطين الهادي والهندي وحماية تايوان وتحجيم الصين وردع كوريا الشمالية. ولعل ما سهل مهمة بايدن هو ما قام به الزعيم الكوري الجنوبي من جهد في وقت سابق لإستئناف العلاقات الدبلوماسية بين بلاده واليابان من بعد 12 سنة من الانقطاع والإهمال والخلافات.

أما ما جعل القمة أكثر أهمية وتركيزا على تعزيز البنية الأمنية الإقليمية التي تقودها واشنطن، فهو تزامنها تقريبا مع حدثين: أولهما إبحار 11 سفينة بحرية صينية وروسية عبر المياه القريبة من جزر محافظة أوكيناوا اليابانية في استعراض علني للقوة، وثانيهما زيارة وزير الدفاع الروسي "سيرغي شويغو" ومسؤول الحزب الشيوعي الصيني "لي هونغ تشونغ" إلى بيونغيانغ، في وقت تحدثت فيه مصادر استخباراتية عن تعاون ثلاثي ناشيء بين بكين وموسكو وبيونغيانغ، بل وقيام الأخيرة ببيع أسلحة لروسيا للإستخدام في الحرب الأوكرانية، وهو ما عزز اندفاع طوكيو وسيئول وواشنطن نحو تعاون ثلاثي أوثق مضاد.

جملة القول أن هذه العوامل، معطوفة على ممارسات صينية تزعم واشنطن أنها تتصف بالإكراه الاقتصادي ضد طوكيو (تأميم جزر سينانكو المتنازع عليها سنة 2010) وضد سيئول في سنة 2019 بسبب نشرها نظام ثاد الأمريكي للدفاع الجوي، وضد الحليفة الأسترالية ( استخدام التجارة كسلاح عقابا لكانبرا على سعيها لفتح تحقيق محايد حول منشأ جائحة كورونا). شجعت أطراف كامب ديفيد الثلاثة على الخروج بنتائج مهمة وملموسة، كرد على اتهامات صينية لواشنطن وحلفائها الآسيويين بمحاولة تأسيس حلف ناتو آسيوي والتصرف بعقلية زمن الحرب الباردة. وتمثلت نتائج قمة كامب ديفيد في عزم أطرافها الثلاثة على الوقوف معا وتبادل المعلومات بسرعة وتنسيق الإجراءات في حالة وجود تحديات تؤثر على مصالحها المشتركة وتطوير صاروخ جديد قادر على اعتراض الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وعقد اجتماعات ثلاثية منتظمة على مستويات مختلفة، وإجراء تدريبات عسكرية سنوية مشتركة، واستحداث نظام للإنذار المبكر لتجنب الاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية.

والجدير بالذكر أن هذه النتائج تلتقي مع وتعزز استراتيجية سيئول الدفاعية التقليدية الموجهة نحو شبه الجزيرة الكورية، واستراتيجية طوكيو الأمنية الإقتصادية مع الهند، واستراتيجية مجموعة AUKUS الرباعية المكونة من الولايات المتحدة واستراليا والهند واليابان للردع الإقليمي ضد القوى المعادية.

لكن تبقى المعضلة كامنة في الرأي العام الياباني والكوري الجنوبي، والذي لم يرحب بنتائج القمة الثلاثية انطلاقا من موقفه المضاد لأي تقارب ياباني ــ كوري جنوبي بسبب أحداث تاريخية غابرة. وفي الوقت نفسه فإن تنفيذ ما اتفق عليه يبقى مرهونا ببقاء الزعماء الثلاثة الموقعين في مناصبهم. حيث يواجه "يون سوك يول" انتخابات برلمانية مصيرية في أبريل القادم خصوصا وأنه انتخب كرئيس بفارق ضئيل للغاية، ويواجه كيشيدا إعادة انتخابه كزعيم لحزبه الحاكم في سبتمبر ويتعرض لضغوط داخلية بسبب أدائه الاقتصادي الباهت رغم نجاحاته في السياسة الخارجية، أما بايدن، الذي لم تكن القمة سوى وسيلة لضمان إرثه السياسي وبديلا لإستحالة عودة إدارته إلى اتفاقية التجارة الاقليمية الشاملة والشراكة عبر المحيط الهادي، فإنه سيخوض معركة رئاسية صعبة في نوفمبر، وبالتالي يحرص كل منهم على عدم إغضاب ناخبيه بقرارات لا تحظى بشعبية، فيمهد طريق الفوز لمنافسيه.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: سبتمبر 2023م



الخميس، 14 سبتمبر 2023

هل ما زالت اسرائيل واحدة؟


كتب الاستاذ جواد بولس:

 يعتبر البعض أن قرار قضاة المحكمة العليا الاسرائلية في الالتماسات المقدمة أمامهم ضد قانون إلغاء "حجة المعقولية" سيحسم مصير نظام الحكم في دولة اسرائيل وشكله ؛ والقرار ، بهذا المعنى هو حدث تاريخي سيؤثر في حياة اليهود ومصيرهم. وقارن بعض المعقبين والمحللين بين الاحداث الجارية داخل المجتمعات اليهودية، في اسرائيل وفي العالم، وفترة الاعلان عن اقامة دولة اسرائيل في العام 1948.

 لقد تم بث مجريات المحكمة مباشرة عبر الفضائيات والاذاعات الاسرائيلية في تعبير واضح من قبل قضاة المحكمة عن اهمية الموضوع وضرورة عرضه مباشرة امام الشعب على الملأ. من الصعب طبعا التكهن بالقرار الذي سيصدر قريبا، وعلى الأرجح فإن القضاة لن يجمعوا، بسبب اختلافات مفاهيمهم الاجتماعية وخلفياتهم السياسية ومرجعياتهم الروحية والثقافية، على نتيجة ومخرجات واحدة.  

كُتب وسيُكتب الكثير في الاعلام العبري عن مجريات المحكمة كما شاهدها الجميع يوم الثلاثاء الفائت؛ وهي كما قلنا قد شكلت حدثًا لافتًا ومشهدا اسرائيليا مميزا، لكنه، رغم ذلك بقي مشهدًا "خاصا"، بمعنى انه يخصّ المجتمع اليهودي، ولا يعنينا، نحن الفلسطينيين المواطنين في اسرائيل. فعلى الرغم من وجود قاض عربي واحد داخل هيئة المحكمة،سعادة القاضي خالد كبوب،  وعددها خمسة عشر قاضيا، الا ان روح التقاضي التي سادت في فضاء قاعة المحكمة وطبيعة هواجس الأطراف، كما عُبّر عنها، دارت كلها في فلك "الدولة اليهودية"؛ ودار الخلاف بين المعسكرين حول أية يهودية ستتحكم في الدولة، تلك التي يسعى اقطاب الحكومة الجديدة الى ترسيخها والعمل بهديها، أم تلك التقليدية التي صيغت هويتها في عروة الحكومات السابقة وفي دهاليز المحكمة العليا ذاتها. وأشار بعض النقاد والمحللين الى ان الصراع بين الرأيين يعكس في الواقع رغبة القوى اليمينية المتدينة الجديدة تغليب دور اليهودية مع التركيز على البعد الديني للدولة، على دور الصهيونية التقليدية، وبعدها القومي، وهذا ما لن تسمح به مجموعة من القضاة لكونه انقلابًا على المفاهيم المؤسسة للدولة.  


لقد وصلت احوالنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، الى حالات عبثية مرهقة؛ وسنضيف اليها في هذه الايام وضعنا ازاء ما يجرى في هذه المحكمة، فبعضنا لا تهمّه المحكمة من أصلها، وبعضنا قد يعلق آمالا على قرار المحكمة المنتظر ويراهن أو  يرغب، أن يزودنا القضاة بقارب نجاة وبدروع واقية كي تحمينا من مخططات هذه الحكومة أو غيرها من القادمات التي سينتخبها شعب، تؤمن  أكثريته الساحقة اننا مواطنون غير مرغوب فينا داخل دولتهم اليهودية.   

من العبث، برأيي، أن نعوّل على قرار هذه المحكمة، وأن ننسى أنها هي ذات المحكمة التي أصدرت قبل عامين فقط قرارها بخصوص "قانون القومية"، الذي كتبت متنه الأساسي رئيستها في حينه والحالية، القاضية استر حيوت. إنه القانون الذي توّج عملية جنوح المجتمع اليهودي نحو اليمينية المتعصبة والفاشية، وهي العملية التي ما كانت لتنجز لولا رعاية الجهاز القضائي الاسرائيلي لها وتسويغها من قبل محكمته العليا بمبررات عنصرية اسهمت في تطوير فكر "الفوقية اليهودية" وأفضت الى امكانية صرفها بأشكال عملية كما يطالب بها اليوم قادة الانقلاب على الجهاز القضائي وفي طليعتهم المحكمة العليا نفسها.  

أنا شخصيًا أشعر بالغضب الشديد على قضاة هذه المحكمة، وعلى رأسهم  الرئيسة حيوت وزميلها القاضي يتسحاك عميت، الذين رفضوا مرارا وتكرارا الاصغاء الى تحذيراتنا من أن حمايتهم المستمرة لسياسة الاضطهاد والقمع التي تمارسها حكومات اسرائيل في حق الفلسطينين داخل الاراضي المحتلة، وفي حقنا نحن المواطنين في اسرائيل. إن عدم اخضاعها لاحكام العدل ولحجة المعقولية وقيمة المساواة العرقية، ستفضي حتما الى ممارسة نفس السياسة داخل اسرائيل، اذ لا يمكن لأحد أن يوقف نيران العنصرية والقمع على عتبات بيوت العرب، فالنار ستصل حتى عتبات محكمتهم، كما يحصل في هذه الايام. من المؤسف انهم لم يسمعونا، ومن المحزن أنهم لم يسمعوا زميلهم القاضي جورج قرّا الذي كان قراره في مسألة قانون القومية عبارة عن صوت واحد يصرخ في برية عشرة قضاة تصرفوا كحماة لمبدأ الفوقية اليهودية التي كانت أمّ كل الموبقات التي مارستها حكومات اسرائيل المتعاقبة داخل الاراضي المحتلة وبحقنا داخل اسرائيل؛ واليوم تريد هذه الحكومة احتكارها وتطوير انتاجها ومفعولها. لو كنت استطيع لنصحت القضاة أن يعودوا الى مراجعة ما كتبوا قبل عامين حين اجازوا بقرارهم "قانون القومية"، ويقرأوا ما كتبوا وما كتب زميلهم القاضي جورج قرّا حين استقرأ النتيجة الحتمية التي سيوصل اليها قانون القومية، وهي القضاء على القيم الديمقراطية الاسرائيلية وتثبيت "الفوقية اليهودية" على ما سيعنيه ذلك حيال وجود المواطنين العرب في الدولة وحقوقهم. في حينه رفض القاضي جورج قرّا تبريرات زملائه العشرة وأكد محذرًا أن القانون سيؤدي عمليًا الى "اخضاع هوية الدولة الديمقراطية، التي في اساسها حقوق الانسان وحقوق الاقليات، الى هويتها اليهودية ؛ اي خلق حالة من تفضيل القومية اليهودية واكساب الهوية اليهودية للدولة صفة الفوقية على هويتها الديمقراطية، وهذا من خلال التغيير القانوني"؛ وأضاف قائلا أن "المضمون الحقيقي لقانون القومية هو مضمون تمييزي واقصائي ضد المواطنين غير اليهود، وجلّهم من المواطنين العرب. يخلق قانون القومية حالة تفضيل لقيم الدولة كدولة يهودية على قيمها كدولة ديمقراطية ". قال جورج وصدق. لقد مضى عامان على ما كتبه القاضي ابن مدينة يافا، وما توقعه هو وجميع من عارضوا القانون، تحقق ببركة السيدة حيوت وزملائها الذين يحاولون اليوم انقاذ مؤسستهم "وكرامة المواطن" على حد تعبيرها.     


نحن في مأزق كبير ولا نعرف ماذا نعمل وكيف يجب ان نتصرف؛ فوضعنا القانوني داخل اسرائيل يزداد تعقيدا، ومكانتنا كمواطنين محميين جزئيا بمظلة مواطنية، تتراجع وتفقد معظم دروعها وكوابحها الحامية. تتصرف الاغلبية بيننا وفق حكمة اجدادنا الذين روضتهم، عبر مئات السنين، سياط الحكام الاجانب وقصص "ايام السفربلك" و اهازيج "حيّد عن الجيشي يا غبيشي" وصاروا يكتفون بالعيش بعقيدة "امشي الحيط الحيط وقول يا ربي السترة"  او "نفسي وبعدها الطوفان".  أما الآخرون فقد فقدوا الثقة بمؤسسات الدولة ويتهمون اسرائيل كمسؤولة عن جميع مصائبنا ولا يهتدون ولا يهدون شعبهم الى البدائل الكفيلة لحماية مجتمعاتنا من سطوة الحكومة واذرعها، أو من تفشي الجريمة والرذيلة في مواقعنا، أو من سقوط حامياتنا الاخلاقية وحواضنها الاجتماعية والسياسية وغيرها.

لن يأتينا الفرج من المحكمة العليا الاسرائيلية؛ لكنني اتمنى ألا تسحقها القوى الظلامية والميليشيات العنصرية والكتائب الفاشية. فنحن على اعتاب حقبة خطيرة للغاية اتوقع أن نشهد فيها جملة تصعيدات على عدة جبهات؛ فالاوضاع في الاراضي المحتلة على حافة الانفجار والايام القادمة حبلى باليأس وبالديناميت .

إن ازدياد منسوب الجريمة والعنف بيننا في تصاعد حتى بتنا نواجه حالة من "حلة الحكم" والعيش بحالة من الخوف وفقدان مشاعر الامن الشخصي والمجتمعي. وتتراجع اوضاع المجالس البلدية والمحلية بوتيرة متسارعة حتى باتت مؤسسة الحكم المحلي كلها تواجه خطرا على وجودها وخللا جوهريا في امكانيات تأدية مهامها وواجباتها في حماية وخدمة مواطنيها. أما الاحزاب السياسية التقليدية فدخلت الى غرف الانعاش ولا أمل في أن تخرج منها سالمة، ومثلها تعاني معظم مؤسساتنا السياسية والمدنية القيادية؛ واخيرًا اتوقع اننا سنشهد حملة من ملاحقة القطاعات المنتجة للفكر وللتعليم والاقتصاد داخل مجتمعاتنا، فلن يكون المعلم او الموظف محصنًا من ملاحقة "الاخ الاكبر" او عيون السلطان،  واما الشركات العربية الكبيرة فلن تُترك لتعمل كمملكات عربية مستقلة، اذ يجب اخضاعها للسيد اليهودي. باختصار سوف نواجه حالة سنطالب فيها ان نقبل العيش تحت مظلة وعصا يهوديتين ترفعهما حكومة تؤمن بفوقية يهودية ربانية، او اذا رفضنا فإننا سنعاقب.  فهل في هذه الحالة سيكفي ان نقول ونردد في كل مناسبة وبعد كل مصيبة "نحمل اسرائيل المسؤولية" ؟ هل هذا كاف ؟ وهل هذا الشعار لوحده في المشهد الاسرائيلي الحالي صحيح ؟ هل اسرائيل اليوم هي فعلا واحدة ؟ الا يتوجب علينا ان نفتش عن اسرائيل الاخرى ؟  أو ربما علينا ان نوجدها مهما كانت المهمة صعبة او حتى قريبة من المستحيلة.


لن يأتينا الفرج من المحكمة العليا؛ ولا يبدو أن مصيرنا، كمواطنين واصحاب أرض يشغل، لغاية الآن، بال معظم المتظاهرين ضد حكومة نتنياهو وحلفائه، وعلى الرغم من ذلك لا يجوز لنا ألا نفرق بين المعسكرات الاسرائيلية وأطيافها الواضحة؛ فاسرائيل، التي نعتبرها وحدة عدائية واحدة،  تعيش أزمة حقيقية متعددة الأوجه، أحداها هي الازمة الدستورية، وأهمها حالة الصراع على طبيعة نظام الحكم وعلى مرجعياته ، فهل هي التوراة ام وثيقة الاستقلال مثلًا؟ والصراع على قيم الدولة الاجتماعية والاخلاقية الاساسية، هل هي الفوقية اليهودية ام ضرورة تحقيق مساواة المواطنين العرب؟ والصراع على قدسية الخدمة العسكرية في ظل استمرار الاحتلال واضطهاد شعب آخر ، هل ستواصل قطاعات يهودية متدينة واسعة، الامتناع عن تأدية تلك الخدمة، او هل ستستمر الشرائح التي تخدم في جيش الاحتلال تأدية خدمتها؟ 

انها في الواقع أكثر من اسرائيل حتى لو ظهرت ضدنا كأنها اسرائيل واحدة .. 

الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023

باكستان في مواجهة صداع البشتون


 بقلم: د. عبدالله المدني*

علاوة على مشاكلها الخارجية المزمنة مع جارتيها الهندية والأفغانية، تواجه باكستان العديد من المشاكل الداخلية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والإجتماعية والأمنية، ما يحول دون تمتعها بالإستقرار المطلوب لخوض معركة جادة للبناء والتنمية والنهوض. وفي السنوات الأخيرة، ولاسيما منذ العام 2018 برزت على السطح مشكلة "البشتون" المطالبين بالعدالة والمساواة والمعاملة الانسانية.

والمعروف أن البشتون مجموعة عرقية، لها تقاليدها وأعرافها وثقافتها الخاصة، وتقيم بصورة أساسية في المنطقة الواقعة بين سلسلة جبال هندوكوش في شمال شرق أفغانستان والقسم الشمالي لنهر إندوس في باكستان. وهم لئن شكلوا على الدوام أكبر مجموعة عرقية من سكان أفغانستان، فإن الكثيرين منهم انتقلوا في الفترة ما بين القرنين 13 و16 من أفغانستان إلى ما يعرف اليوم بباكستان، مشكلين ثاني أكبر مجموعة عرقية في الأخيرة من بعد العرقية البنجابية بعدد يصل إلى 25 مليون نسمة (حسب الموسوعة البريطانية). والمعروف أيضا أن هؤلاء حلموا في الماضي بتأسيس دولة خاصة بهم تحت إسم "بشتونستان" تضم مجموعاتهم الموزعة بين باكستان وأفغانستان، وتمتد ما بين شمال تركستان وشمال شرق كشمير وشرق البنجاب وجنوب بلوشستان وغرب إيران، لكن الحلم كان أكبر من أن يتحقق وسط تعقيدات التاريخ والجغرافيا في جنوب آسيا فمات تدريجيا.

والجدير بالذكر أن العمليات العسكرية المضادة للجيش الباكستاني من قبل المتشددين في سوات ووزيرستان والمناطق القبلية البشتونية الأخرى أدت إلى تشريد الملايين من البشتون وخسارة الآلاف من الأرواح وتدمير البنية التحتية المتواضعة أصلا، الأمر الذي ساهم في شعور البشتون بالغربة والمظلومية وانعدام الثقة في المؤسسة العسكرية والحكومة الفيدرالية، وهو ما ساهم في ظهور "حركة تحفظ بشتون" (PTM) بقيادة الناشط الحقوقي "منظور أحمد باشتين" منذ عام 2018، ولاسيما بعد أن قتلت الشرطة في كراتشي الشاب البشتوني "نقيب الله مسعود"، ولم تستجب لمطالب بفتح تحقيق رسمي في مقتله. وقتها تحولت الحركة من تنظيم اجتماعي يقوده ثمانية طلاب ويدعو إلى محاسبة قتلة الشاب القتيل إلى تنظيم سياسي يطالب بانصاف عموم البشتون.

وتتخذ الحركة اليوم من منطقة حزام البشتون في وزيرستان وما حولها شمال غرب باكستان مقرا لأنشطتها وسعيها السلمي في سبيل المطالبة بالإنصاف والعدالة والأمان والحياة الكريمة ومنع ما تصفه بـ "الإضطهاد والاعتقال خارج نطاق القانون واللامبالاة بإزالة الألغام ومخلفات الحرب من المناطق البشتونية". وهي تعتبر نفسها ناطقة باسم كافة البشتون الذين تحولت أراضيهم إلى منطقة قتال منذ زمن الحرب الباردة بين السوفييت والأمريكان ثم زمن الصراع بين الغرب والجماعات الإسلامية، وبالتالي تلقي باللائمة على حركة طالبان الأفغانية والجيش الباكستاني معا في تدمير المناطق البشتونية في باكستان، مطالبة بالتعويض عما لحق بهم.

وفي الآونة الأخيرة اتخذت أنشطة الحركة زخما جديدا بتسييرها مسيرات احتجاج جماهيرية من معقلها نحو مدن باكستان الرئيسية مثل كراتشي واسلام آباد ولاهور، وإقامة تجمعات شعبية على شكل برلمان قبلي مفتوح (جيرغا) أمام مؤسسات الدولة الرئيسية، وهو ما سلط الأضواء أكثر على مطالبها، على الرغم من التعتيم الاعلامي الرسمي الذي ردت عليه الحركة باللجوء إلى وسائل الإعلام الحديثة والمنصات الألكترونية.

ويرى مراقبو الشأن الباكستاني أن تجاهل الحكومة الفيدرالية في إسلام آباد لهذه الحركة الناشئة ومطالبها سيشكل خطأ فادحا قد يؤدي إلى دفع البشتون نحو بدائل أكثر راديكالية أونحو تبني توجهات انفصالية مكلفة. وبعبارة آخرى يرى هؤلاء أنه من الأفضل للدولة الباكستانية ومؤسستها الأمنية والعسكرية أن تتفاوض مع الحركة وتلبي كل أو بعض مطالبها، وتستخدمها كأداة حاسمة في مكافحة التطرف والإرهاب من أجل بناء الثقة وتعزيز الوحدة الوطنية والإستقرار على المدى الطويل، خصوصا وأن حركة PTM تنتهج نهجا سلميا وتنبذ العنف. أما اسكات الحركة والتضييق عليها واتهامها بتلقي الدعم من كابول وغير ذلك من الاتهامات فسوف يؤكد مزاعمها بوجود تمييز وتهميش رسمي ضد العرقية البشتونية من جهة، ويخلق من جهة فراغا قد تملأه عناصر متطرفة، بحسب هؤلاء المراقبين.

ويمكن القول أن زعيم الحركة "منظور باشتين"، الذي تحول اليوم إلى صوت للملايين من البتشون وأصبحت قبعته البشتونية التقليدية المعروفة باسم "مازاري" رمزا للتحدي، منفتح على الحوار وليس لديه نوازع انتقامية شخصية ضد السلطات التي سبق لها أن اعتقلته عام 2020 بتهمة التحريض ضد الدولة وسجنت العديد من زملائه الشباب قبل ذلك، وبالتالي يمكن التفاهم معه على جملة من الخطوات الهادفة لنزع فتيل التوتر والعنف في المناطق البشتونية وبناء الثقة والاستجابة لمطالب من يمثلهم في إطار القانون والدستور، ولاسيما لجهة تحسين ظروف معيشة عشرات الآلاف من البشتون الذين فقدوا منازلهم وأراضيهم ومصادر رزقهم وباتوا يعيشون في مخيمات كئيبة وأحوال مزرية بسبب عمليات الجيش السابقة في حزام البشتون، ضد معاقل الإرهابيين والمتشددين. 



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: سبتمبر 2023م


الخميس، 7 سبتمبر 2023

أستراليا: الاستفتاء: حملة "لا" وهستيريا التضليل

 


كتب عباس علي مراد:

"هذا استفتاء على ما يعتقده الناس عنا" الكاتبة والمؤلفة جاكي هوجينز من السكان الاصليين


في 14 أكتوبر 2023، سنذهب لنصوت في الاستفتاء التاريخي حيث سيكون لدينا سؤال من جزأين في الجزأ الاول سيُطلب منا الاعتراف بالسكان الأصليين الأستراليين في إطار الدستور، والجزأ الثاني التفويض بإنشاء صوت للسكان الأصليين لينقل قضاياهم للبرلمان والحكومة وفي حال نجاح الاستفتاء سوف يتم تثبيت الصوت في الدستورولا يبقى خاضعاً لمزاج الحكومات.

من أين جاءت فكرة الصوت، في العام 2017 إجتمع قرابة 250 من قادة السكان الأصليين في اولورو واصدروا بيان عرف ببيان اولورو من القلب وطالبوا بالاعتراف بالسكان الأصليين في الدستور واقرار صوت لهم لنقل معاناتهم ومقترحاتهم للبرلمان والحكومة ومن اجل المصالحة الوطنية الشاملة  

هناك مؤيدون لهذا الأقتراح وهناك معارضون له ويعرف فريق المؤيدين بحملة ( نعم ) وفريق المعارضين يعرف بفريق حملة (لا) ولكل فريق اراءهم التي تدعم مواقفهم وقد قامت الحكومة الاسترالية بتوزيع كتيب على كل المنازل في أستراليا يشرح وجهتي نظر الفريقين. 

شعارفريق نعم يقول : ان التصويت بنعم هو من أجل الوحدة ،والأمل لأحداث فرق إيجابي ومستقبل افضل للسكان الأصليين( الابوريجينال )وسكان جزر مضيق تورر وكل الاستراليين.

وبالنسبة لهم التصويت بنعم يعني الاعتراف بحضارة عمرها 65 الف سنة واحترامها، الاستماع للسكان الأصليين، إحراز تقدم عملي في قضايا الصحة والتعليم والتوظيف والاسكان.

ويشرح فريق "نعم" ما هو الصوت ويقول: هو لجنة مشكلة من السكان الأصليين ستقدم النصائح للبرلمان والحكومة في القضايا التي تتعلق بهم وسوف يتمثل في هذه اللجنة السكان الاصليين من كل الولايات وسيتم أختيارهم من قبل السكان الأصليين أنفسهم.

الهدف من الصوت اتخاذ قرارات أفضل، الحصول على نتائج افضل، وتقديم خدمات بدون هدر الاموال.

وحسب فريق "نعم" فإن 80% من السكان الأصليين يدعمون الاقتراح.

 نشير الى أن السكان الأصليين يشكلون 3% فقط من مجموع سكان استراليا البالغ عدده حوالي 27 مليون نسمة.

 


شعار فريق "لا" يقول : إذا كنت لا تعرف فصوت بلا،  ويعتبرون ان هذه الخطوة تشكل خطرا على النظام الحكومي المعمول بهً في البلاد، وهناك مخاطر كبيرة في ما يتعلق بالتحديات القانونية التي قد تنتج عن إقرار الصوت، ويقولون انهم يجهلون ما هو هذا الصوت ويريدون معرفة المزيد من التفاصيل، ويعتقدون انه عامل فرقة بين المواطنين، ويقولون ان العديد من السكان الاصليين ضد هذا الاقتراح، ويعتبرون ان تثبيته في الدستور عامل له تداعيات سلبية في المستقبل، وينظرون الى هذا التغيير على أنه اكبر تغيير على الديمقراطية الاسترالية في تاريخها. ورغم ذلك يزعمون اننا جميعاً نريد مساعدة السكان الأصليين المحبطين!

هناك خيار آخر تقترحه المعارضة لدعم الاعتراف بالسكان الأصلين وهو تعديل السؤال وحذف اقتراح الصوت من أسئلة الأستفتاء  وإجراء استفتاء الاعتراف بالسكان الأصليين الأستراليين بالدستور كأول شعوب هذه القارة معتبرة أي المعارضة ان هذا الامر سهل وهو صحيح.

المعارضون للصوت اصيبوا بهستيريا وقد لجاوا الى خطاب تضليلي ولأسباب سياسية بحته حتى ان زعيم المعارضة الفيدرالية قد ذهب الى حد القول الى انه على استعداد لإجراء إستفتاء جديد للإعتراف بالسكان الأصليين في حال فوز حزبه في الانتخابات القادمة وتشريع الصوت بقرار حكومي غير مثبت بالدستور وتشكيل لجان من السكان الاصليين على مستوى البلديات.

  وكأن المعارضين يقولون بتكريس الجهل  في الوقت الذي يعيبون على الحكومة عدم إعطاء التفاصيل الكافية حول الصوت، حيث يتسالون ماذا  سياتي بعد الصوت الذي يعتبرونه خطوة اولى قبل المطالبة بمعاهدة وقول الحقيقة عن معاناة السكان الاصليين على يد المستوطنين الاوائل.

وصل الامر بفريق حملة "لا" الى حد التخويف من ان هناك من يطالب بالغاء يوم أستراليا الوطني الذي يصادف 26 كانون ثاني من كل عام والذي يعتبره السكان الاصليين يوم الغزو بالإضافة الى المطالبة بتغيير العلم وغيرها من المؤسسات والرموز وإعادة كتابة تاريخ أستراليا الى جانب المطالبة بتعويضات مالية. 

كذلك انتقد فريق "لا" المطرب جون فانهم الذي قدم أغنيته انت الصوت لفريق "نعم" ليستخدمونها في الترويج للتوصيت بنعم ولم تنجو الشركات الكبرى من نقد  فريق "لا" بعدما اعلن معظمها تأييد الصوت علماً ان الشركات وفريق المعارضة ينامون في نفس السرير عندما يتعلق الامر بحقوق العمال!

مالكوم تيرنبول رئيس الوزراء الأسبق (أحرار) قال ان حكومته عارضت الإقتراح عام 2017 لكنه سوف يصوت بنعم لصالح الاقتراح، وأضاف ان التصويت بنعم من اجل تقديم الاحترام للسكان الأصليين حيث يمكننا معاً ان نطوي صفحة من التاريخ نحو العدالة وتابع علينا أن لا نسمح للمثالي والكمال بان يكون عدواً للخير.


محرر الشؤون السياسية في صحيفة سدني مورننغ هيرالد بيتر هارتشر كتب مقالة في 2/9/2023 بعنوان: هل الصوت للبرلمان خطر؟ دعونا نحصي المؤسسات الأخرى المشابه تمامًا 

وعدد أكثر من عشرة هيئات إستشارية تقدم استشارتها للحكومة في كافة المجالات من الصحة الى التعليم والدفاع والضمان الإجتماعي والمالية والبنك المركزي… إنهم موجودون في كل مكان، ويقدمون المشورة بشأن كل شيء تقريبًا.

 وختم مقالته بالقول: إذا كان أجدادنا يستطيعون أن يقولوا نعم في عام 1967، وإذا كان آباؤنا يستطيعون أن يقولوا نعم لحقوق الأرض، فإن هذا الجيل قادر على أن يقول نعم للجنة استشارية.

من الآن حتى 14 تشرين اول سوف نسمع المزيد والمزيد من حملات التضليل والهستريا السلبية من قبل حملة "لا" ولن يكون آخرها التهديد بالقتل والذي تحدثت عنه  إحدى زعماء السكان الأصليين البروفسورة مارسيا لانغتون التي زعمت في كلمة لها في نادي الصحافة الوطني في كانبرا (5/9/2023) أن التهديدات بالقتل والإساءات تستهدف المدافعين الرئيسيين عن التصويت بنعم في استفتاء 14 أكتوب.

في دعوة عاطفية للناخبين لإنقاذ الأرواح من خلال التصويت من أجل التغيير قالت لانغتون إنه "ليس هناك ما يدعو للخوف" من "صوت السكان الأصليين" وحذرت الناخبين من"خداع" نشطاء حملة "لا" الذين زعموا أن النتيجة ستقسم البلاد على أساس العرق.

أخيراً نشير الى ان إستطلاعات الرأي الاخيرة جاءت بنسبة %54 لفريق "لا" و46 لفريق نعم.

 لكن رغم هذا الفارق فإن الاستطلاع الذي يعتد به هو يوم الاستفتاء والذي يحتاج الى أكثرية الاصوات على مستوى أستراليا واكثرية اربع ولايات من أصل الولايات الست حتى يعتبر ناجحاً

في الختام أعتقد ان الشعب الأسترالي سوف يضع خلف ظهره الماضي وينظر بعين الامل الى مستقبل أفضل وأكثر ازدهاراً لنا ولأجيال المستقبل…

 ولذلك سوف أصوت بنعم 



عباس علي مراد

سدني