بقلم: د. عبدالله المدني*
كان الأسبوع قبل الماضي، من أصعب الأوقات في تاريخ تايوان، حيث حبس التايوانيون ومعهم بكين وواشنطن أنفاسهم انتظارا لما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية في تايوان التي تعتبرها بكين إقليما متمردا يجب استعادته، بينما تدعم واشنطن مبدأ عدم المساس بوضعها الحالي وترفض أي عملية صينية عسكرية لإستردادها بالقوة. وكان سبب الترقب وحبس الانفاس هو أن النتائج ستحدد مستقبل العلاقات بين بكين وتايبيه من جهة ومستقبل العلاقات بين بكين وواشنطن فيما خص تايوان من جهة أخرى، دعك مما سيترتب عليها من آثار استراتيجية عميقة على الجغرافيا السياسية لمنطقة المحيطين الهندي والهاديء.
اجريت الانتخابات في 13 ينايرالجاري، بمشاركة 19.5 مليون ناخب يحق لهم التصويت من بين عدد السكان البالغ تعداده 23.8 مليون نسمة تقريبا، وذلك لاختيار رئيس جديد للبلاد خلفا للرئيسة المنتهية ولايتها "تساي إنغ وين" والمنتمية للحزب الديمقراطي التقدمي (DDP)، وانتخاب مجلس تشريعي جديد، فيما كان العنوان الأبرز للحملات الانتخابية هو المفاضلة بين التحرك نحو الإستقلال بكل ما يترتب عليه من الدخول في حرب مع الصين الشيوعية أو الإبقاء على الوضع الراهن بهدف الانتقال مستقبلا نحو الوحدة مع البر الصيني.
تنافس على المنصب مرشحو الأحزاب الرئيسية الثلاث وهي: حزب DDP الحاكم المعادي لبكين والمتبني لفكرة إعلان الإستقلال رسميا عن البر الصيني، وحزب الكومينتانغ (KMT) الداعي للتفاهم مع بكين مع الحفاظ على الوضع الراهن، وحزب الشعب (TPP) الذي يتاخذ موقفا وسطا ويركز برنامجه على قضايا محلية مثل تمكين المراة وتكاليف المعيشة.
جاءت النتيجة كما كانت متوقعه، بل مطابقة لمعظم استطلاعات الرأي التي جرت العام الماضي وقالت ان الكفة تميل نحو مرشح الحزب الحاكم "لاي تشينغ تي" الذي فاز برئاسة البلاد بالفعل وصار اليوم رئيسا جديدا لمواصلة ما بدأته سلفه منذ عام 2016. غير أن المفاجأة كانت في انتخاب مجلس تشريعي يسيطر عليه نواب منتمون لحزب المعارضة الرئيسي (KMT)، وهو ما سيعقد مهمة الرئيس الجديد ويجعله مقيدا لجهة اتخاذ قرارات انفصالية.
ومن هنا قيل أن المنتصر الحقيقي في هذه الانتخابات هو "الديمقراطية" التي تتمتع بها تايوان منذ تخليها عن ديكتاتورية مؤسسها الماريشال "تشاينغ كاي شيك" وإبنه وخليفته "تشيانغ تشينغ" في أوائل التسعينات، هذه الديمقراطية التي أمنت لها مركزا متقدما في قائمة منظمة فريدوم هاوس للحريات (93 من أصل 100) وهو ثاني أعلى مركز في آسيا بعد اليابان، كما أمنت لها السلام والإستقرار اللذين لولاهما لما تمكنت من مواصلة تحقيق خطوات جبارة في مجالات النمو الاقتصادي والتكنولوجي كافة والتربع على عرش "أشباه الموصلات" عالميا.
يرى المراقبون في ما حدث أنه أفضل نتيجة ممكنة لشعب يفتخر بانجازاته وله أسلوب حياة خاص مختلف عن حياة أقرانه في البر الصيني ولا يريد أن يكون خاضعا لنظام شمولي، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد الدخول في مواجهة حربية مع بكين بشأن الإستقلال فيتحول بلده الجميل المتقدم إلى أوكرانيا أخرى. كما أن هؤلاء المراقبين يعزون أسباب فشل الحزب الحاكم (DDP) في السيطرة على البرلمان لصالح غريمه (KMT) إلى سياساته الداخلية غير المرغوب فيها شعبيا حول تخفيض المعاشات التقاعدية وتقليص العطلات الرسمية مثلا، علاوة على ذهاب قادته بعيدا في استفزاز بكين، ما دفع الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات صارمة أدت إلى عزل تايوان دبلوماسيا (لا تتمتع تايبيه اليوم إلا بعلاقات دبلوماسية مع 13 دولة صغيرة هامشية) وترهيبها عسكريا (من خلال مناورات يومية عبر المضيق) ومعاقبتها إقتصاديا (بمحاصرتها وانتزاع الأسواق العالمية منها).
وعلى حين أعربت واشنطن عن سعادتها بهذه النتيجة (على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن)، معزية إياها إلى تمسك التايوانيين بنظامهم السياسي التعددي "الذي اكتسبوه بشق الأنفس ويصلح مثالا لمنطقة المحيطين الهندي والهاديء"، وعشقهم لنمط حياتهم القائم على الحرية والشفافية والإقتصاد الحر، نجد أن بكين فسرت النتيجة من وجهة نظرها على أنها هزيمة مرة لدعاة الإنفصال ورافضي مبدأ "الصين الواحدة"، وأنها تعكس إرادة غالبية التايوانيين ورغبتهم في "مواصلة المشاركة في فوائد التنمية السلمية في العلاقات عبر المضيق".
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يناير 2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق