الجمعة، 23 فبراير 2024

انتخابات المجالس المحلية في اسرائيل بين حربين : غزة وصناديق الاقتراع




كتب جواد بولس:

من المقرر ان تجري انتخابات السلطات البلدية والمحلية في اسرائيل في السابع والعشرين من شهر شباط فبراير الجاري؛ بعد أن تم تأجيلها، بسبب ظروف الحرب على غزة، من تاريخ 31/10/2023 الى الثلاثين من يناير/ كانون الثاني الماضي؛ وتأجيلها، لنفس الاسباب، مرة ثانية وتثبيتها نهائيا يوم الثلاثاء القادم. 

يناهز عدد المواطنين العرب في اسرائيل المليوني شخص؛ وهذا الرقم يشمل مواطني البلدات العربية في الجولان المحتل وكذلك مواطني القدس الشرقية الفلسطينيين، علمًا بأن الأغلبية الساحقة من هاتين الفئتين لا تشارك في الانتخابات البلدية، بالرغم من أن القانون الاسرائيلي يسمح لهم بذلك.  

يعلق بعض المحللين الاسرائيليين أهمية كبيرة على نتائج الانتخابات المحلية المقبلة، وبعضهم يأمل ان تحمل مؤشرًا هامًا حول تحفظ المواطنين في المجتمع اليهودي من حكومة نتنياهو والأحزاب الشريكة بها، خاصة في واقع يتمسك فيه نتنياهو وائتلافه بالحكم ويرفض الالتزام بتعيين موعد محدد لانتخابات الكنيست، في حين تطالب جهات عديدة بضرورة اجرائها بعد ما تعرضت له اسرائيل في السابع من اكتوبر وتداعيات الحرب على غزة وتدهور الاوضاع الأمنية والاقتصادية داخل اسرائيل وزعزعة مكانتها الدولية، كما يدعي هؤلاء. 

يبدو أن رهان معارضي حكومة نتنياهو وشركائه على نتائج الانتخابات سيكون خاسرًا؛ فوفق معظم استطلاعات الرأي تبدي الأكثرية الساحقة من المواطنين الاسرائيليين اليهود تعاطفًا مع العمليات العسكرية وأملا بأن ينجح الجيش "بإلحاق الهزيمة الساحقة بحماس"، ولا يهمهم أن تسبب هذه الهزيمة التي يصرون على تحقيقها حرفيا، قتل المزيد من آلاف المواطنين المدنيين، وبضمنهم الاطفال والنساء، وتحويل المناطق التي اعاد الجيش الاسرائيلي احتلالها الى "أرض يباب" والى أكوام من الركام. 

قد يكون السبب الرئيسي لتشاؤمي مما ستفضي اليه نتائج الانتخابات البلدية بشكل عام، وليس في البلدات اليهودية فحسب ، هو نجاح اقطاب حكومة نتنياهو في السنوات الماضية باشاعة قيم سلوكية جديدة داخل المجتمع الاسرائيلي عامة، وترسيخها، عبر السنين، داخل المجتمعات العربية،  كثقافات مهيمنة في تحديد وشائج العلاقات بين المواطن البسيط العادي أو "الطموح" وبين مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسات "الحكم المحلي". فشيوع ظواهر الفساد السلطوي، سواء داخل اروقة السلطة المركزية او السلطة المحلية، وهدم معظم آليات الرقابة والمحاسبة، ووضوح العلاقة بين اصحاب القوة والمال وبين رجالات السلطة، كلها عوامل أدت الى نشوء حالة من النكوص الاجتماعي الخطير والى نشوء انماط من الشخصيات السلبية، مثل شخصية العربيد والبلطجي أو المهزوم أو الانتهازي أو المساوم او المهادن ؛ وأدت كذلك، الى تخلص أكثرية الأفراد من شعورهم بالمسؤولية تجاه مجتمعهم وبلدهم وبحثهم عن فرص لخلاصهم ولسلامة أبناء عائلاتهم، والى لهاث بعضهم، في نفس الوقت، وراء منفعتهم ومكاسبهم حتى لو كان عليهم "ان يبوسوا الكلب من تمه ليأخذوا حاجتهم منه" أو ان "يمشوا الحيط الحيط ويقولوا يا ربي السترة". 

لقد حصلت عملية التفكك في اسرائيل على مراحل، وكانت تداعياتها داخل البلدات العربية واضحة ونتائجها الكارثية ملموسة، لا سيما في حالة المجالس المحلية وانتخاباتها. وقد تزامنت العملية مع خلخلة البنى السياسية الفاعلة داخل مجتمعاتنا واندثار معظمها بشكل تام أو تحوّل ما تبقى منها الى مجرد هياكل لا تستطيع الذود بنجاعة عن مصالح المواطنين، وفي بعض الحالات الى عامل مساعد يقف الى جانب القوى الهدامة والفاسدة ويكون حليفًا لها، أو تحولها الى عثرات في وجه أي تغيير سياسي ايجابي مرغوب أو مرتجى.  

تعاني سلطاتنا المحلية العربية من أوضاع اقتصادية صعبة ومزرية، تقف وراءها بالاساس سياسات حكومات اسرائيل العنصرية المتعاقبة وتمييزها الممنهج ضد مواطنيها العرب، سواء في شح الميزانيات العامة، او في استبعاد مجتمعاتنا من مخططات التطوير والبناء واهمال قضية امن المجتمع وسلامة أفراده. وقد كانت تلك السياسات العنصرية محاور صدام مستديم مع مؤسسات الدولة، أو ميادين للمواجهات البرلمانية والقضائية حينًا أو الشعبية عندما وقفت فيها الجماهير وراء قياداتها السياسية والاجتماعية وطالبت بحقوقها العامة والفردية، واهمها الحق بالعيش بكرامة وبأمن وبحرية وبمساواة. لقد ظل هذا الحال الى ان وقع الانهيار السياسي وبدأ السقوط السريع نحو الهاوية.  


وتعاني سلطاتنا المحلية أيضًا من أوضاع ادارية مختلة، لا يصعب على أي فرد وأية جهة تشخيص معالمها او تحديد مسببيها ولا من المنتفعين من استمرارها. فلن يختلف اثنان على أن المستفيدين مما وصلت اليه احوال مجالسنا المحلية هم من لا يخافون على مستقبل أولادنا ولا يريدون لنا التقدم ولا العيش بكرامة من دون خوف وباستقرار في وطننا. هؤلاء هم من رسموا سياسات التمييز والقمع والعنصرية ونفذوها بحق اهلنا وحقنا؛ وهم من سعوا الى زرع بذور الفساد والافساد داخل مجتمعنا، وهم من قوضوا اسس قلاعنا وهدموها . لكنهم ما كانوا لينجحوا ويحققوا ما حصدوه لولا مساعدة أعوانهم المحليين وزمر المتآمرين معهم والمستفيدين من اشاعة حالات الفوضى والخلل والشك وترسيخها داخل ادارات المجالس ومن ثم نقلها كسلوكيات سائدة على اشكال من العنف والانتهازية والنفعية والفردانية الى داخل مجتمعاتنا.

لقد حصل هذا بعد  انحسار دور الاحزاب والحركات السياسية وغيابها الكامل عن تأدية دور المرشد المركزي والبوصلة في الانتخابات البلدية أو ، على الاقل، دور المؤثر على سيروراتها كما كان لعقود. وحصل ذلك بسبب ضعف منظمات وجمعيات المجتمع المدني، ذات العلاقة في المحافظة على وعي المجتمع ولحمته وسلامته وحقوقه، وانغماس عناصرها في تأدية وظائف مؤسساتهم بروتينية تكنوقراطية هادئة وغير مؤذية او غير متحدية لعناصر الشر المنتشرة داخل مجتمعاتنا. وحصل كذلك بعد ان كثرت ظواهر التدين السياسي المهادن الذرائعي، او الصدامي المتزمت، او الطائفي المفرق، وقلّ دور الدين وقيمه السامية.  

يعاني مجتمعنا من عدة آفات، بيد ان اخطرها هي، من دون شك، ظاهرة تفشي العنف واعمال القتل على انواعه، والتي باتت تهدد استقرار المواطنين وتدفعهم لأعادة حسابات البقاء والرحيل حتى اصبحت قضية "مسقط الرأس" مسألة ملتبسة المعنى والمقصد، فأي مسقط تعنيه وأي رأس تحميه؟

لقد توحدت معظم الأصوات العربية المحلية وحمّلت اجهزة الدولة جميعها وخاصة الشرطة، كامل المسؤولية عن ولادة ظواهر العنف والقتل، وبعضهم اتهم الشرطة بالتواطؤ مع الظاهرة وبغض نظرها عن المتورطين فيها، والا لما وصلت اعداد ضحايا العنف لما وصلت اليه اليوم .

 لا يمكن، وفق قواعد المنطق وامتحان النتائج، الاختلاف مع هذه المشاعر ومساءلة هذا الافتراض؛ لكنني ارى الآن كما رأيت قبل سنوات ان الاكتفاء بهذه الاتهامات وتأكيدها بعد كل جريمة قتل، لم ولا يكفي ولن ينقذ مجتمعنا من استمرار سقوطه في بحور الدم ونحو الهاوية. فقد لاحظ الكثيرون منذ ما يقارب العشرين عامًا اهمية ومكانة المجالس المحلية، وكونها بمثابة "الدجاج البياض، او مناجم الذهب" ونوهوا بدورها المحتمل في تأجيج ظواهر العنف وتسعير شهيات الطامعين بخيرها وبمقدّراتها؛ وحذر هولاء من الاكتفاء باللجوء الى اتهام الشرطة وحسب، اذ انه مهما كان الاتهام صائبًا يجب ألا يعفينا من تحمل مسؤولياتنا في مواجهة ما يصيبنا من آفات، خاصة آفة العنف المستشري بيننا، فكثير من الحق يقع على مؤسسات مجتمعنا ونخبه وقياداته.  

سوف تجري الانتخابات بعد ثلاثة أيام وسنرى كيف ازداد سوء احوال بلداتنا سوءًا، وكيف تمادى العنف طول عنقين وأكثر؛  فكيف لنا ان ننتظر غير هذا الممكن في زمن تجري فيه حربان، واحدة دامية في غزة واخرى نازفة في مجالس بلداتنا وشوارعها، وما قلناه عنها  قبل دهر ما زال اليوم صحيحًا، لأن أي " رئيس ينتخب على ظهر صفقات انتخابية مشبوهة ويمارس بعدئذ رئاسته ستبقى هذه الصفقات نيرًا على رقبته وستمنعه من ان يقف حرا في وجه هذه الممارسات ومن يمارسونها. ورئيس يمارس او يستعين بحاشية من البلطجية قبل وخلال انتخابه لا يحق له ان يشكو البلطجية اذا عاثوا خرابا ورعبا في شوارع بلدته واعتدوا على حرمات اهل البلد. ورئيس يمارس سياسة المحسوبيات والتفرقة "العنصرية " وفق من معه ومن ضده من أبناء بلدته، لا يستطيع ان يدّعي جدية في مقارعة سياسة الشرطة العنصرية. ورئيس يعبث وادارته في موارد مجلسهم ويوزعها وفق مصالحه ومصلحة كتل ائتلافه، لا يستطيع ان يتحدى بأهلية بيكار ومساطر لجان التنظيم الاسرائيلية، اللوائية والقطرية، ولا قرارات وزارت الدولة العنصرية. ورئيس أو نائب يقومان بتقسيم راتبيهما كي يشتريا ذممًا لن يستطيعا ان يشكوا او يستهجنا صمت وتواطؤ الشرطة، واذا تجرأ قد يأتيه من يقول له  :"لقد دفناه سويًا" .  

سوف يشارك ما يقرب من المائة وثلاثين بلدة عربية ومدينة مختلطة في الانتخابات المقبلة. لن نجني عسلا من هذه الانتخابات؛ فالزمن زمن الحربين والشرطة هي الشرطة، بل انها أسوأ. والمجالس ما زالت تعامل كمناجم للفضة وللرصاص، والكراسي ما زالت من جاه ومن خشب، والمواطنون عربًا من قبائل وأحلاف وايلافات يؤمن رجالها بالغيب وبالجيب وبالسيف وبالمقبرة . هكذا كان؛ والآتي سوف يكون أعظم وأخطر !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق