بقلم: د. عبدالله المدني*
مثل أستراليا، تعتبر نيوزيلندا نفسها جزءا من محيطها الجغرافي الآسيوي بحكم الموقع، وبالتالي فهي معنية بالمتغيرات والتطورات الجيوسياسية في المنطقة، خصوصا وأنها مع جارتها الأسترالية ضمن التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن أنها شريك لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
ومن هنا يعيب البعض على حكومتها الإئتلافية الحالية برئاسة العمالي كريس هيبكينز تراخيها ولا إكتراثها لجهة الانفاق العسكري على التسليح والتدريب درءا لمخاطر متوقعة في عالم مضطرب ومنقسم يسوده عدم اليقين، أي على خلاف ما قامت به كل من السويد وألمانيا مؤخرا على سبيل المثال بسبب الحرب الأوكرانية. كما أن البعض الآخر يعيب عليها عدم امتلاكها لإستراتيجية خاصة بالأمن القومي للبلاد، كما كان الحال زمن الحكومة السابقة التي كانت أول حكومة نيوزيلندية ترسم استراتيجية للأمن القومي.
والحقيقة أن مثل هذه الانتقادات تضاعفت على ضوء اندلاع الحرب بين روسيا الإتحادية وأوكرانيا من جهة، والتوتر القائم في بحر الصين الجنوبي بسبب سياسات بكين التوسعية من جهة أخرى، ثم تفاقمت أكثر مع ما جرى ويجري في الشرق الأوسط، وتحديدا العمليات العسكرية الأخيرة في البحر الأحمر وباب المندب.
صحيح أن نيوزيلندا بعيدة جغرافيا عن أماكن هذه الأزمات والتطورات، لكن الصحيح أيضا أنها ليست بعيدة عن تداعيات الأحداث وتأثيراتها التي تشمل العالم كله، خصوصا وأن نيوزيلندا ليست دولة محايدة كسويسرا. فمثلا فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، قامت ويلنغتون، من موقعها كشريك للناتو، بتقديم السلاح والتدريب والمساعدات لأوكرانيا دون المشاركة في القتال، كما أنها انضمت إلى الإجراءات المتخذة ضد موسكو في محكمة العدل الدولية، ما وضعتها في قائمة المناوئين لروسيا، فماذا سيكون حالها لو امتدت نيران الأزمة الأوكرانية إلى مناطق أبعد من أوروبا؟.
أما في ما خص سياسات بكين في بحر الصين الجنوبي وإزاء الجزر المتنازع عليها مع مجموعة من دول جنوب شرق آسيا، فإن ويلنغتون أعربت مرارا عن قلقها بخصوص تلك السياسات الصينية، رافضة بشكل خاص ما تقوم به بكين من أعمال لمنع السفن الفلبينية من الوصول إلى جزر متنازع عليها، على الرغم من صدور قرار من محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي لصالح مانيلا في عام 2016، بل وصل الأمر إلى مواجهة في العام الماضي بين البحرية الصينية وفرقاطة نيوزيلندية خلال ما عرف بـ "مناورة حرية الملاحة". وبهذا فإن نيوزيلندا مصنفة أيضا في قائمة خصوم الصين الشيوعية، خصوصا وأنها تؤكد على عدم وجود اساس قانوني لمطالبات الصين بحقوق تاريخية لها في جزر واقعة في بحر الصين الجنوبي.
ومع اندلاع المواجهات العسكرية في مياه البحر الأحمر بين الولايات المتحدة والحوثيين، تحول تركيز ويلنغتون نحو مسالة حماية الممرات المائية العالمية، بدليل تعهدها مع تسع دول أخرى بالدفاع عن الأرواح وحماية التدفق الحر للتجارة وضمان سلامة أحد أكثر الممرات المائية أهمية في العالم، على الرغم من عدم مشاركة بحريتها حتى الآن في العمليات العسكرية الجارية.
ولعل كل هذه الحيثيات هي التي دفعت البروفسور ألكسندر غيليسبي، أستاذ القانون بجامعة وايكاتو النيوزيلندية لدعوة الحكومة النيوزيلندية إلى مواجهة التحديات الحالية والمستقبلية على المستوى العملي واللوجستي من خلال زيادة الاستثمار في جيشها ورفع نسبة الإنفاق الدفاعي إلى ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي، أسوة بما تفعله الحكومات الغربية الحليفة، مع التنسيق الدفاعي مع جاراتها الأسترالية الأقرب، مشيرا إلى أن نيوزيلندا لا تحتاج إلى تغيير سياستها القائمة على رفض امتلاك السلاح النووي، ولا تحتاج إلى أسلحة بيولوجية أو قدرات سيبرانية او أسلحة الذكاء الصناعي، بقدر ما تحتاج إلى تحسين قدراتها الدفاعية. ويرى البروفسور غيليسبي أن أفضل عمل تقوم به نيوزيلندا هو ألا تعول كثيرا على تحالفها مع الأمريكيين (خصوصا في ظل عدم ارتباطها حتى الآن باتفاقيات للتجارة مع واشنطن على غرار الاتفاقيات التي يتمتع بها الشركاء الآخرون، ما يعرضها لمخاطر كثيرة في حال نشوب الحرب)، وأن تقوم، بدلا من ذلك، بعقد اتفاقيات دفاعية مع دول ذات قيم مماثلة لقيمها ونهجها وتفكيرها مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وكندا والهند. أما الإكتفاء بمراقبة الأوضاع المتفجرة من حولها، وعدم توقع الأسوأ، وإهمال الاستعدادات العسكرية، وعدم رسم سياسات واضحة للأمن القومي، فهو موقف طوباوي غير محتمل في نظر غيليبسي.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: مارس 2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق