بقلم: د. عبدالله المدني*
تعد اليابان هي من أكبر حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، ومن أهم الدول التي تتقاسم مع الأخيرة التوجهات الليبرالية والرأسمالية، وهي من جهة أخرى تملك تاريخا طويلا من النزاعات حول الأراضي والمياه مع كل من الصين الشيوعية وروسيا الإتحادية تعود إلى قرون مضت. غير أن اليابان تواجه اليوم معضلة كبيرة في تحديد أولوياتها وأسلوب دبلوماسيتها التقليدية المبنية على السلام والتعاون مع العالم الحر، نتيجة لما يمر به العالم من أزمات وتطورات وتغيرات جيوسياسية.
ومما لا شك فيه أن عوامل مثل:
ــ اختلال ميزان القوى في محيطها الجغرافي بصعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية طامحة للعب دور مهيمن في المحيطين الهندي والباسفيكي.
ــ بروز كوريا الشمالية كقوة نووية وباليستية مشاغبة.
ــ احتقان علاقاتها مع جارتها الكورية الجنوبية على خلفية قضايا تاريخية معقدة، على رأسها قضية التشغيل الإجباري للمواطنين الكوريين في المصانع اليابانية إبان الحرب العالمية الثانية، وقضية "نساء المتعة" الكوريات إبان نفس الفترة.
ــ ظهور بوادر حرب باردة بين حلفيتها الأمريكية والصين الشيوعية محورها الإقتصاد والتجارة والتكنولوجيا ومضيق تايوان.
ــ التحالف الناشيء بين الصين وروسيا الاتحادية على خلفية الأزمة الأوكرانية.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى قرع أجراس الإنذار في الدوائر السياسية والحزبية اليابانية بخصوص ما ينتظر هذا البلد الآسيوي من مشاكل لم تكن في الحسبان أو لم تكن متوقعة بهذه الصورة الجلية.
لقد استيقظت طوكيو على وضع خطير، خصوصا مع تزايد التنافس الجيوسياسي، وانتشار الأوبئة المهددة للبشرية، والانقسامات المريرة في مجلس الأمن الدولي، والتغيرات المناخية، وتفاقم الأنشطة الإرهابية وعمليات القرصنة البحرية، لتجد نفسها مضطرة إلى تغيير أدواتها الدبلوماسية بهدف المحافظة على نظام إقليمي ينشد التنمية والسلام والمبادلات التجارية الحرة والأمن والإستقرار والاحتكام إلى القانون الدولي ومباديء عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحق الأمم في التنوع الثقافي والفكري.
والمعروف أن اليابان اختطت لنفسها، منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية، سياسة خارجية محورها النأي بنفسها عن الحروب والمغامرات العسكرية وسياسات التوسع، معطوفة على سياسات داخلية تنشد التنمية والإزدهار في ظل نظام ديمقراطي قائم على التعددية السياسية والإقتصاد الرأسمالي، فكانت أن حققت صعودا وبروزا في العالم وفي محيطها الإقليمي بحيث باتت نموذجا للآخرين ومرشحة لممارسة دور دولي من خلال مجلس الأمن متى ما تم الإتفاق على إحداث تغيير في هياكل الأمم المتحدة. وهي لئن تراجعت إقتصاديا إلى المركز الثالث بعد الولايات المتحدة والصين في العقود الأخيرة، إلا أنها حافظت على وهجها الإقتصادي والتكنولوجي والصناعي، ناهيك عن محافظتها على موقعها كأحد الأقطار الأكثر مساهمة بالقروض والمعونات والهبات لصالح الأقطار النامية.
وإذا ما تتبعنا خطوط السياسات الخارجية لليابان في السنتين الأخيرتين نجد أن بعضها تكرار لما إلتزمت وعملت من أجله طويلا، والبعض الآخر استدعته التطورات والمتغيرات الجديدة في عالم اليوم. إذ نجد في طياتها مثلا:
ــ الدفاع عن نظام عالمي حر وتعزيزه بالتأكيد على الانصياع لمباديء القانون الدول، ترسيخ مباديء التجارة الحرة والإقتصاد الرأسمالي، تعزيز دور الأمم المتحدة في حل الأزمات العالمية والإقليمية بطرق وأدوات سلمية،
ــ رفض كل أشكال العنف والتدخل في شؤون الدول الأخرى وتغيير الأوضاع القائمة بالقوة أو التهديد باستخدامها، حق الدول النامية في انتهاج السياسات المؤدية إلى رفاه ونماء شعوبها دون تدخل خارجي.
ومن تلك المنطلقات والمباديء راحت الحكومة اليابانية تؤكد في العام المنصرم (2023) على:
ــ إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا على اعتبار أنه عمل من أعمال الإعتداء على مباديء القانون الدولي والنظام العالمي (خصوصا وأن آثاره امتدت إلى منطقة المحيطين الهندي والهاديء والشرق الأوسط وأفريقيا في صورة ارتفاعات في أسعار الوقود والغذاء وتزايد الأكلاف والأعباء على الدول الفقيرة النامية).
ــ رفض سياسات التوسع والهيمنة التي تنتهجها دول كبرى، لاسيما مساعي وخطط الصين للهيمنة على ممرات مائية دولية وجزر صغيرة متنازع عليها في المحيطين الهاديء والهندي (خصوصا وأن تلك الممرات المائية تشكل قناة حيوية لتجارة اليابان مع الشرق الأوسط وأفريقيا وطرق مواصلات وإمدادات معهما).
ــ مساندة أي خطوات ومشروعات دولية أو إقليمية ذات صلة بالأمن والإستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط، والانخراط فيها من منطلق ما تشكله المنطقة من أهمية قصوى لليابان لجهة التجارة والواردات النفطية (تستورد اليابان نحو 90 بالمائة من احتياجاتها النفطية من دول شرق أوسطية)، خصوصا وأن اليابان تأثرت كثيرا بما شهدته المنطقة من حروب وصراعات وأزمات في العقود الماضية.
ــ بناء ونسج علاقات شراكة اقتصادية واستراتيجية أمتن مع الهند باعتبارها تمثل نموذجا ديمقراطيا مشابها في الكثير من الخطوط مع النموذج السياسي الياباني، ناهيك عن ثقلها في موازين القوى الاستراتيجية، وكونها اقتصادا صاعدا وشريكة موثوق بها في مسائل الأمن والسلام وضمان إستقرار المحيطين الهندي والهاديء ومحاربة القرصنة البحرية والإرهاب.
ــ مواصلة ما بدأته منذ عام 1993 من اهتمام ودعم تنموي للقارة الأفريقية، التي يتوقع لها أن تحتضن ربع سكان العالم بحلول عام 2050، حيث أن طوكيو كانت السباقة إلى عقد "مؤتمر طوكيو للتنمية الأفريقية" (تيكادTICAD). والجدير بالذكر أنه في الدورة الثامنة لهذا المؤتمر في أغسطس 2023 أطلقت اليابان رسالة قوية مفادها أنها سوف تعمل على إطلاق مبادرات لصالح أفريقيا وشعوبها بأساليب يابانية جوهرية، وستواصل المساهمة في تحقيق أفريقيا المرنة، وفي تعميق العلاقات اليابانية الأفريقية.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أبريل 2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق