الثلاثاء، 27 أغسطس 2024

بنغلادجيش .. أسئلة ما بعد التغيير الكثيرة


 

بقلم: د. عبدالله المدني*

أسئلة كثيرة تحوم في سماء بنغلاديش بعد كل ما شهدته مؤخرا من أعمال عنف وفرار زعيمتها الشيخة حسينة واجد واستلام الجيش للسلطة وتكليف البروفسور محمد يونس (84 عاما) بتشكيل حكومة انتقالية إلى حين إجراء انتخابات عامة جديدة. ولعل أهم هذه الأسئلة هو "هل بمقدور يونس أن يؤسس لنظام ديمقراطي نزيه، ويعيد للبلاد دولة القانون والنظام والمؤسسات المستقلة؟"

مما لا شك فيه أن الآمال المعقودة على الرجل كبيرة، خصوصا وأنه نزيه وموثوق به من الجميع ولم يتلوث إلى الآن بأمراض السياسة، ويساعده طاقم من الوزراء من النشطاء الحقوقيين وأساتذة الجامعات والمحامين ورموز المجتمع المدني. لكن التحديات التي يواجهها ثقيلة وتنوء بحملها الجبال الرواسي وتضيق بها الصدور، خصوصا وأن حكومته بلا أسنان وتفتقد للشرعية الدستورية.

فالبلاد في حالة انقسام سياسي شديد ومشحونة بالأيديولوجيات المتباينة، وأوضاعها الإقتصادية هشة ومثخنة بالتضخم والبطالة، وظروفها الأمنية الداخلية متفجرة، لاسيما بعد الاعتداءات المشينة ضد الأقليات الهندوسية والبوذية، وأحزابها السياسية الكبيرة (حزب بنغلاديش الوطني بفيادة السيدة خالدة ضياء أرملة الرئيس العسكري الأسبق ضياء الرحمن، وحزب جماعت إسلامي الإخواني التوجه) متأهبة للعودة إلى السلطة لممارسة نفس المماحكات القديمة من تسلط وفساد واستغلال وتمييز وانتقام، معتقدة أن الساحة قد خلت لها بغياب زعيمة حزب رابطة عوامي الذي قاد الإستقلال عن باكستان عام 1971، وشبابها الذين يشكلون نحو 40 بالمائة من عدد السكان البالغ 170 مليون نسمة ينتظرون حصتهم في كعكة السلطة باعتبارهم المحرك الذي قاد التغيير وضحى بدمائه من أجل ذلك، مشيرين إلى أن اختيار إثنين منهم ضمن تشكيلة البروفسور يونس (وهما ناهد إسلام وآصف محمود) ليس كافيا. 

أما الأسئلة الآخرى التي تتردد اليوم بكثرة في الساحة البنغلادية فهي خاصة بالانتخابات القادمة التي وعد الجيش ورئيس الحكومة المؤقتة بإجرائها ومنها: متى سوف تجري الإنتخابات القادمة؟" ومن يضمن نزاهتها؟ وهل سيسمح لحزب الرئيسة المخلوعة المشاركة فيها؟ وهل من المفيد تحديد موعدها ضمن المهلة الدستورية وهي 90 يوما أم تأخيرها لوقت أطول؟

يقول الخبراء والمطلعون على أوضاع هذه البلاد التي لم تنعم بالإستقرار الطويل قط أنه من المهم أولا وقبل كل شيء أن تقوم الحكومة المؤقتة بإصلاح دستوري، سواء عن طريق صياغة دستور جديد أو عن طريق تنقيح الدستور الحالي الذي صدر في عام 2011. لكن الإشكالية تكمن في أن قيام حكومة مؤقتة بتعديل الدستورهو امر غير دستوري بحد ذاته، خصوصا وأن دستور 2011 لا ينص في أي مادة من مواده إلى حكومة مؤقتة أو حكومة تصريف أعمال. هذا عدا أن أي دستور جديد أو حتى مجرد تنقيح يحتاج إلى مصادقة برلمانية، والبرلمان لا وجود له.

أما مهلة التسعين يوما لإجراء الانتخابات فقد باتت موضع خلاف بين فريق يؤيدها ويدعو إلى الإلتزام بها خوفا من استحلاء العسكر للبقاء طويلا في الحكم، وفريق يرى أنها غير كافية لإعداد البلاد لديمقراطية حقيقية قادرة على مقاومة الإنزلاق مرة أخرى نحو الإستبداد، لاسيما وأن البلاد تعيش فوضى سياسية واقتصادية وأمنية، الأمر الذي يتطلب وقتا أطول لإجراء الإصلاحات المطلوبة واستعادة استقلال المؤسسات الحيوية.

وبالنسبة لمشاركة حزب عوامي من عدمها في الانتخابات، يرى الخبراء الدستوريون أن فكرة إقصائه تعد كارثة، بل يعني عملا غير دستوري وغير ديمقراطي  ومجلب للمتاعب والقلاقل بحكم ما يتمتع به من شعبية لدى الكثيرين من أطياف الشعب، ناهيك عن شرعيته التاريخية. لكن هناك من يقول أن عودة الشيخة حسينة واجد لقيادة عوامي في أي انتخابات قد يعني فوزها وبالتالي اصطدامها مجددا بغريمتها اللدودة خالدة ضياء وخصومها من الإسلاميين المتشددين، أي العودة إلى المربع الأول.

وفيما تدور هذه الأسئلة وغيرها دون إجابات قاطعة، ينظر البنغلاديشيون بحذر شديد إلى التطورات الجارية في بلادهم في هذه الحقبة الحرجة، ويخشون من انتكاسة قد تحدث على غرار ما حدث من قبل. ذلك أن بنغلاديش سبق أن شهدت اضطرابات وانتفاضات شعبية ضد حكومات مستبدة اكثر من مرة، انتهت باسقاط تلك الحكومات، لكن لتحل مكانها حكومات أخرى فاشلة وعاجزة عن تلبية تطلعاتهم.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المدة: أغسطس 2024م.


عبارة الهامش:

ينظر البنغلاديشيون بحذر شديد إلى التطورات الجارية في هذه الحقبة الحرجة، ويخشون من انتكاسة قد تحدث على غرار ما حدث من قبل.



الثلاثاء، 20 أغسطس 2024

بنغلاديش ما بعد إستقالة الشيخة حسينة/ د. عبدالله المدني


مع بعض الفوارق البسيطة، سقطت خلال السنوات القليلة الماضية حكومات ثلاثة اٌقطار آسيوية، وفر قادتها إلى الخارج تحت ضغط الشارع كنتيجة لسوء إدارتها للبلاد، فبعد أفغانستان وسريلانكا رأينا نفس المشاهد تتكرر مؤخرا في بنغلاديش التي فرت زعيمتها المنتخبة الشيخة حسينة واجد إلى الهند في مروحية عسكرية أمنها لها قادة الجيش الذين تسلموا إدارة البلاد منها بعد أن أبلغوها أنه ليس بمقدورهم مواصلة قمع المتظاهرين والمحتجين.

حسنا فعل كلا الجانبين، فالشيخة حسينة باستقالتها منعت وقوع المزيد من الضحايا في أسوأ احتجاجات تشهدها بنغلاديش منذ تأسيسها سنة 1971، والجيش باستلامه السلطة سلميا وتأمين مغادرة زعيمة البلاد إلى الخارج وعدم قيامه بانقلاب عسكري سن سنة جديدة (قاد الجيش ثلاثة انقلابات ناجحة وحوالي عشرين تمردا فاشلا كان آخرها في 2012). 

والأمر الآخر الإيجابي الذي يحسب للجيش أنه قرر إسناد قيادة البلاد مؤقتا إلى حكومة مدنية برئاسة النوبلي الموثوق به محليا وعالميا البروفسور محمد يونس الذي نشفق عليه من الوقوع في وحول السياسة، خصوصا وأن التجارب تقول أن السياسة في هذه البلاد مزيج من الفساد والمؤامرات والاغتيالات والمماحكات والانقلابات والإضطرابات.

إن التجارب المؤلمة التي مرت بها حسينة، ابتداء من اغتيال والدها المؤسس الشيخ مجيب الرحمن في أغسطس 1975 مع كل أفراد عائلته (باستثناء حسينة واجد وأختها ريحانة صديق اللتين كانتا خارج البلاد آنذاك)، وصولا إلى أكثر من 19 محاولة اغتيال فاشلة تعرضت لها على مر السنين، وقيام العسكر بسجنها مع غريمتها زعيمة الحزب الوطني خالدة ضياء في عام 2007 بتهمة الفساد، ساهم كله في تشكيل نهجها السياسي في الإمساك بالسلطة بقبضة حديدية والإقتصاص من معارضيها وكسر شوكتهم بإيداعهم السجن. وذلك لتأمين استقرار طويل للبلاد، على شاكلة ديكتاتوريات جنوب شرق آسيا.

وخلال حكمها منذ عام 2009 وحتى فوزها بنسبة 80% في انتخابات يناير 2024 التي قاطعتها أحزاب المعارضة، حققت لبلادها الكثير من الإنجازات المثيرة للإعجاب مثل انتشال الملايين من براثن الفقر، وتحويل البلاد إلى ثاني أكبر اقتصاد في جنوب آسيا بعد الهند بقيمة 460 مليار دولار، واستئصال الأحزاب الإسلاموية المتطرفة من السياسة، واخراج الجيش من اللعبة السياسية على طريقة النموذج الهندي، وتوفير المأوى لأكثر مليون لاجيء من مسلمي ميانمار عام 2010، والإنتقال بالبلاد من دولة تكافح من أجل الطعام إلى مصدرة للغذاء، وتوفير التعليم المجاني لنحو 98% من الفتيات، والبدء بنقل البلاد إلى التصنيع عالي التقنية وهو ما سمح للشركات العالمية كسامسونغ الكورية باخراج سلاسل التوريد من الصين إلى بنغلاديش. هذا ناهيك عن تأسيسها لعلاقات خارجية متوازنة مع جارتي بنغلاديش الكبيرتين (الهند والصين) ومع الولايات المتحدة، بدليل نيلها على ثناء نادر من واشنطن وتمكنها من الحصول على قروض بقيمة 4.7 مليار دولار من صندوق النقد الدولي وأخرى من الهند بقيمة 7 مليارات دولار، علاوة على قرض من الصين كانت تتفاوض عليه بقيمة 5 مليار دولار.

على أن كل تلك الانجازات ضاعت بسبب حزمها وسياساتها الحديدية، لتجد نفسها اليوم معزولة في الهند التي استقبلتها مؤقتا ريثما تقرر وجهتها القادمة. ولا يعرف على وجه التحديد ما تنوي القيام به مستقبلا. لكن كل المؤشرات تفيد بأنها ستعود إلى بنغلاديش، كما فعلت من قبل، لقيادة حزبها التاريخي (رابطة عوامي) في الانتخابات القادمة التي يجب أن تجرى خلال 90 يوما طبقا للدستور. حيث أن إجراء هذه الانتخابات التي وعد بها العسكر، دون مشاركة "عوامي"، يعتبر عملا معيبا ومؤججا للقلاقل غير ديمقراطي. 

وفي حالة تقاعد حسينة عن العمل السياسي بسبب سئمها من الإذلال السياسي، يتوقع أن يقود إبنها ووريثها "سجيب واجد جوي" الحزب على عادة السلالات الآسيوية. وقد سجل عن الأخير(عمل مستشارا لوالدته لتكنولوجيا المعلومات من 2009 إلى 2024، وهو يقيم الآن في أمريكا) قوله أنه لا طموحات سياسية لديه، لكن إذا فرضت عليه قيادة "عوامي" فسوف يستجيب، مضيفا: "أنا مقتنع بأنه إذا أجريت انتخابات حرة ونزيهة في بنغلاديش وكانت ساحة اللعب متكافئة، فإن عوامي ستفوز مجددا".

وبانتظار ما ستؤول إليه أوضاع هذا البلد الذي يواجه اليوم متاعب اقتصادية جراء أعمال عنف شلت البلاد لنحو شهر، والتي بسببها خفضت الوكالات العالمية المختصة تصنيفه الإئتماني، نجد أن ثلاث دول تراقب تطورات الأوضاع فيه باهتمام؛ الهند الحريصة دوما أن تكون في دكا حكومة موالية لها، او على الأقل غير حليفة لإسلام آباد، وباكستان التي لن تغفر للبنغلاديشيين تمردهم عليها وفصل جناحها الشرقي لتأسيس دولتهم المستقلة، والصين التي يشغلها إيجاد نفوذ دائم لها في بنغلاديش في مواجهة النفوذ الهندي.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المدة: أغسطس 2024م.

الثلاثاء، 13 أغسطس 2024

فصل جديد من الاضطرابات في بنغلاديش .. لماذا؟


 

بقلم : د. عبدالله المدني*

شهدت بنغلاديش، البلد الذي حقق استقلاله عن باكستان سنة 1971 بالدم والدموع والتضحيات المكلفة، مؤخرا مواجهات دامية بين قوات الأمن وطلبة الجامعات، خلفت عشرات القتلى والجرحى في صفوف الطرفين. 

بدأت هذه الأحداث في مطلع الشهر الماضي حينما انطلقت مظاهرات طلابية في العاصمة دكا للمطالبة بإنهاء نظام مثير للجدل أقرته حكومة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، وصادق عليه البرلمان المنتخب الذي يسيطر عليه حزبها (حزب رابطة عوامي). 

أما النظام المختلف عليه فهو خاص بالحصص الوظيفية في القطاع العام والذي يخصص أكثر من نصف الوظائف لأبناء المحاربين القدامى ممن حاربوا وضحوا من أجل تأسيس بنغلاديش في عام 1971. حيث طالب المتظاهرون بالتوظيف على أساس الجدارة والكفاءة، معتبرين أن النظام الجديد يعطي الأفضلية لأبناء أنصار الشيخة حسينة، أبنة مؤسس بنغلاديش الشيخ مجيب الرحمن، والتي تحكم البلاد منذ عام 2009، وذلك من أجل تعزيز سلطتها في مواجهة خصومها السياسيين.

وعلى الرغم من أن مثل هذه الإضطرابات والمظاهرات ليست غريبة على بنغلاديش، التي شهدت خلال العقود الخمس الماضية أحداثا مماثلة وربما أكثر عنفا، فإن مراقبين كثر لايرون في ما حدث مؤخرا مجرد تظاهرات عفوية، وإنما مدبرة ومخطط لها من قبل حزبي المعارضة الرئيسيين: "حزب بنغلاديش الوطني" بقيادة السيدة خالدة ضياء، أرملة الرئيس العسكري الأسبق الجنرال ضياء الحق الذي خطف السلطة عبر انقلاب دموي في السبعينات، قبل أن يغتال عام 1981 في انقلاب آخر قاده صديقه الجنرال منصور أحمد، و"حزب الجماعة الإسلامية" التي يتجمع فيه متشددون إسلاميون، أغلبهم من أنصار وأحفاد من يطلق عليهم مصطلح "رزا كار razakar"، وهو مصطلح يرتبط بالخونة الموالين لباكستان زمن حرب التحرير والإستقلال، علما بأن الحزب ما هو إلا امتداد للجماعة الإسلامية الباكستانية التي أسسها أبو الأعلى المودودي عام 1941 في الهند البريطانية. 

من وجهة نظري الشخصية، أعتقد أن الطلبة المحتجين لجأوا إلى التظاهر والفوضى والتخريب لإسقاط القانون المثير للجدل، لأنهم نجحوا في تحقيق مرادهم سابقا وذلك في عام 2018 حينما طرحته الشيخة حسينة لأول مرة قبل أن تؤجله تحت ضغط الشارع. أما أحزاب المعارضة فقد خطفت الاحتجاجات من الطلاب وأعادت توجيهها نحو تحقيق أجنداتها السياسية المتمثلة في أحداث الفوضى والإضطراب من أجل الإطاحة بحكومة الشيخة حسينة المنتخبة.

لكن كيف تصرفت زعيمة البلاد مع هذه الأحداث التي زلزلت المشهد السياسي في البلاد وفتحت أعين الرأي العام العالمي على ما يجري فيها من "قمع وتكميم للأفواه وسلب للحريات والحقوق وتزوير للإنتخابات" بحسب تعبير حزبي المعارضة وأنصارهما؟

الحقيقة أن الحكومة تصرفت كما تتصرف أي سلطة حاكمة مسؤولة في مواجهة أعمال الفوضى والتخريب، حفاظا على الأمن والإستقرار والنظام والممتلكات العامة والخاصة. وبعبارة أخرى تصدت للمتظاهرين وقمعت احتجاجاتهم وفرضت حظرا على تجمعاتهم وحجبت الإنترنت بهدف قطع تواصلهم مع بعضهم البعض وأغلقت المدارس والجامعات مؤقتا، وأوقفت أكثر من 2500 مشتبه. إلى ذلك حاولت تهدئة الأوضاع واحتواء سخط المحتجين عبر الإعلان عن تجميد قانون الحصص الوظيفية المختلف عليه مؤقتا.

خطوة الحكومة التالية كانت التركيز على الأضرار والخسائر الإقتصادية التي أحدثتها الإحتجاجات الطلابية، ومنها تخريب نظام مترو الأنفاق الوحيد في البلاد والطرق السريعة ومراكز الشرطة وأكشاك رسوم المرور على الجسور واقتحام السجون وتحرير نزلائها، بدلا من التركيز على الخسائر في الأرواح البشرية وضحايا المواجهات ( نحو 105 قتيل و 700 إصابة في صفوف الطلبة والشرطة والصحفيين).

وبطبيعة الحال، أضافت الحكومة إلى إجراءاتها هذه، تسخير إعلامها الرسمي للنيل من المعارضة واتهامها بالوقوف خلف كل ما حدث بهدف العودة للسلطة الغائبة عنها منذ 15 عاما.

ونخالة القول إن حكومة الشيخة حسينة واجد، ربما نجحت في شيطنة المعارضة، لكنها لن تنجح في إخراسها، وستظل البلاد تعاني من القلاقل السياسية بين فترة وأخرى، جراء ما بات يعرف في الأدبيات السياسية الآسيوية بـ "حرب الأرملتين" في إشارة إلى الشيخة حسينة واجد وخصمها اللدود السيدة خالدة ضياء اللتين تناوبتا على حكم بنغلاديش منذ سنوات، واقتصت كل واحدة من الأخرى بمجرد وصولها إلى الحكم.

وأثناء كتابة هذه المادة نقلت وكالات الأنباء أن الشيخة حسينة استقالت وغادرت البلاد إلى الهند بعد أن اقتحم المتظاهرون قصرها، وأن الجيش تولى قيادة البلاد. ولبنغلاديش قصة طويلة من العسكر الذين لم ينجحوا قط في إدارة البلاد أو تحقيق أي أزدهار. وعليه لا ينتظر أن يسود الإستقرار إلا وقتيا.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أغسطس 2024م


الثلاثاء، 6 أغسطس 2024

الموقف من الصين يفجر الخلافات في رابطة آسيان


   

بقلم: د. عبدالله المدني*

ظلت رابطة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا بإسم "آسيان"، منذ تأسيسها في عام 1967 من خمس دول (سنغافورة وماليزيا واندونيسيا وتايلاند والفلبين) نموذجا للتعاون الإقليمي وكيانا صامدا في وجه العواصف والحروب والاضطرابات السياسية والاقتصادية التي كانت تشهدها آسيا آنذاك مثل النزاعات الحدودية والتوترات العرقية وحركات التمرد الشيوعية وتداعيات الحرب الفيتنامية والحروب بالوكالة في لاوس وكمبوديا.

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، واصلت سفينة آسيان الإبحار وحاولت إيجاد مفهوم مشترك بين دولها المتباينة في أنظمة الحكم والتوجهات السياسية من أجل التعاون والتكامل الإقتصادي الهادف إلى تحسين مستويات المعيشة وبناء مجتمعات نابضة بالحياة والعلم والمعرفة. وحتى بعد أن منحت المنظومة عضويتها الكاملة لدول أخرى في محيطها الإقليمي، أقل استقرارا وأضعف اقتصاديا وأكثر مشاكل مثل فيتنام ولاوس وبورما وكمبوديا (باستثناء سلطنة بروناي)، فإن تماسكها ورحلتها نحو تحقيق طموحاتها في الرخاء والإزدهار لم تتأثر كثيرا ، بدليل أنها اليوم من أنجح وأقوى التكتلات الإقليمية بعد الإتحاد الأوروبي، وصاحبة شبكة عالمية من التحالفات والشراكات الإستراتيجية.

ولأن دوام الحال من المحال، ولأن التكتلات الإقليمية عرضة للتأثر بما يجري في عالمها الأوسع من متغيرات، خصوصا إذا كنا نتحدث عن عالم مضطرب يسوده عدم اليقين، فإن آسيان بدأت تعاني مؤخرا من خلافات في الرؤى بين أعضائها المؤسسين الكبار، ولاسيما لجهة الموقف من العملاق الصيني الذي ينازع مجموعة من أعضاء آسيان حقوق السيادة على جزر صغيرة متناثرة في بحر الصين الجنوبي، وعلى المياه المشاطئة. 


هذه الخلافات كانت حاضرة بقوة في إجتماعات المائدة المستديرة السابعة والثلاثين لآسيا والمحيط الهاديء التي عقدت مؤخرا في العاصمة الماليزية، كوالالمبور. إذ أظهرت الخطب واللقاءات والنقاشات بجلاء وجود بون شاسع في المواقف من الصين، التي يعتبرها بعض أعضاء آسيان قوة إقليمية كبرى تسعى إلى التوسع والهيمنة، وبالتالي يجب الحذر منها وعدم التهاون في الرد على مخططاتها، فيما يعتبرها البعض الآخر قوة صديقة يجب التفاوض معها للوصول إلى حلول سلمية بشأن القضايا المختلف عليها.

يقود التوجه الأول الفلبين في ظل حكومة رئيسها الحالي "بونغ بونغ ماركوس" الذي هجر سياسات سلفه الرئيس "رودريغو دوتيرتي" التصالحية مع بكين، ويتبى اليوم سياسة مغايرة قوامها التصدي لمشاريع الصين التوسعية وتحركات أساطيلها في المياه المتنازع عليها، وذلك من خلال السعي للحصول على دعم القوى الاقليمية والعالمية سياسيا ودبلوماسيا، ولاسيما دعم حليفتها التاريخية الكبرى ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم من خلال شراء المزيد من الأسلحة المتطورة والقيام بمناورات بحرية وجوية مع قوات الدول الحليفة، ناهيك عن التودد إلى الإتحاد الأوروبي والذي أثمر بالفعل عن تعهدات من قبل مفوضيتها بتعزيز التعاون الأمني البحري مع الفلبين، وموافقة كل من هولندا والنرويج على تزويد مانيلا بصفقات أسلحة.

أما التوجه الثاني فتقوده ماليزيا التي تحتفظ بعلاقات سياسية واقتصادية متينة مع الصين، لا تريد أن تخسرها، وبالتالي فهي تتبنى وجهة نظر مفادها ضرورة الانفتاح على الصين والتفاوض معها حول الأمور الخلافية بدلا من التصعيد. والغريب في موقف كوالالمبور وزعيمها الحالي أنور إبراهيم أن ماليزيا هي من ضمن الدول التي تنازعها الصين حقوق السيادة على الأراضي والمياه في بحر الصين الجنوبي، بدليل حدوث مواجهة بين البلدين في العام الماضي حول قيام شركة "بتروناس" النفطية المملوكة للدولة الماليزية بتطوير مشروع لإحتجاز الكربون في حقل غاز كاساواري المتنازع عليه. هذا علما بأن مواقف أنور إبراهيم المهادنة هذه لبكين ومخططاتها ووجهت بانتقادات داخلية مريرة.


وما بين الموقفين يبرز موقف رابطة آسيان الصامت، فبدلا من أن تدعم الرابطة موقف الفلبين، باعتبارها عضوا مؤسسا، كما فعلت سنغافورة وفيتنام وتايلاند، نجدها صامتة وغير مكترثة بتطورات الأوضاع بين بكين ومانيلا والتي كان آخرها اشتباكا بحريا بين قوات خفر السواحل الفلبينية وقوات الجيش الأحمر الصيني بالقرب من منطقة "توماس شول الثانية المتنازع عليها. في تلك الواقعة لقي مواطن فلبيني حتفه على أيدي الجنود الصينيين، الأمر الذي اعتبره الرئيس الفلبيني عملا من أعمال الحرب التي يجب ألا يمر مرور الكرام.

ومما لا شك فيه أن تباين المواقف هذا داخل آسيان خلق حالة من التشاؤم حول مسيرة التكتل وتماسكه. لكن مراقبين كثرا يعولون على موقف أندونيسيا، العضو المؤسس والمؤثر، لرأب الصدع، علما بأن جاكرتا نأت بنفسها حتى الآن عن الدخول في الاستقطابات الدائرة، على الرغم من أنها معينة بالخلافات مع الصين كونها هي الأخرى أيضا ضمن الدول التي تنازعها الصين حقوق السيادة على الأراضي والمياه، ناهيك عن الثقة مفقودة تاريخيا بين جاكرتا وبكين منذ الستينات على خلفية الانقلاب الدموي الذي دعمه نظام ماوتسي تونغ للإطاحة بحكم الزعيم الإندونيسي الأسبق أحمد سوكارنو بهدف تحويل أندونيسيا إلى دولة شيوعية.

وبانتظار تغيير قد يحدث في سياسات جاكرتا الخارجية في عهد رئيسها المنتخب حديثا الجنرال المتقاعد "براباوو سوبيانتو"، فإن آسيان تبقى عاجزة ومهددة بالتصدع بسبب الصين.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أغسطس 2024م