بقلم: د. عبدالله المدني*
مرة أخرى تقدم عائلة شيناواترا المعروفة بطموحاتها السلطوية غير المحدودة على دفع تايلاند نحو الفوضى وعدم الإستقرار. فوصول السيدة الشابة "بيتونغتارن شينا واترا" (37 عاما)، المعروفة بإسم "أونغ إينغ" إلى رئاسة الحكومة، لا يعنى سوى أن البلاد سوف تعيش حالة من التقلب والإضطراب وعدم اليقين، خصوصا وأنها قادمة الى المشهد السياسي دون أدنى خبرة.
صحيح أن أونغ إينغ شخصية كاريزمية ومعروفة في عالم العقارات والفنادق وتلقت تعليمها في بريطانيا، إلا أنها لا تملك أي تجربة سياسية، سوى انها شاركت وهي حامل في انتخابات عام 2023 كخطيب داعم لحزب والدها المعروف باسم حزب"بيوا تاي" (حزب شعبوي مناهض للملكية ويرتدي أنصارها القمصان الحمراء وأغلبهم من الريفيين الفقراء). وهذا، بطبيعة الحال، لا يجدي نفعا في حالة بلد كتايلاند يحتاج إلى زعيم قوي ينعش الاقتصاد المتعثر ويؤمن الإستقرار الطويل ويمنع وقوع الانقلابات العسكرية.
ومن الواضح لدى عموم التايلانديين أن والدها ووالدتها كانا يعدانها بتأن للعمل السياسي ويخططان لدفعها إلى المعترك في انتخابات عام 2027، كوجه شبابي يمثل الأمل والتغيير، لكن يبدو أن العائلة قررت أن تسرع الجدول الزمني وتقحمها في العمل السياسي دون جهوزية تامة. والسبب هو القرار المفاجيء للمحكمة الدستورية التايلاندية في 14 أغسطس المنصرم باقصاء رئيس الوزراء "سريتا تافيسين" من منصبه على خلفية قيامه بتعيين وزيرا مدان بالرشوة في حكومته. وقالت المحكمة في مبررات حكمها باقصاء رئيس الوزراء بعد أقل من عام في منصبه أن الرجل انتهك المعايير الأخلاقية في تعييناته.
والحقيقة، من وجهة نظرنا، أن المحاكم التايلاندية تصدر قراراتها تحت ضغوط، عادة ما يكون مصدرها المؤسسة العسكرية أو المؤسسة الملكية. فمثلا هي التي رضخت لأوامر العسكر فأصدرت حكما ضد زعيم حزب "التحرك إلى الأمام" التقدمي السياسي الشاب "بيتا ليمجارونرات" بدعوى أنه كان مساهما في شركة اعلامية (أمر محظور بموجب قانون الانتخابات) وذلك للحيلولة دون تقلده منصب رئيس الحكومة خلفا للجنرال"برايوت تشان أوتشا"، رغم تحقيقه للمركز الأول في انتخابات مايو 2023، وهو الأمر الذي أدى تلقائيا إلى ذهاب المنصب إلى صاحب المركز الثاني وهو "سريتا تافيسين"، الذي شكل حكومة من إئتلاف 11 حزبا. وها هي نفس المحكمة تعود اليوم لتسقط الأخير بحكم قضائي. وقتها تنبأنا بأن تولي تافيسين للمنصب الأسمى في البلاد لن يدوم طويلا.
ويتذكر القراء الكرام أننا كتبنا في هذه الصحيفة في أغسطس 2023 عن اجتماعات سرية عقدت في جزيرة لانكاو الماليزية بين ممثلين عن الجيش والقصر الملكي التايلاندي والمليادير "تاكسين شيناواترا" بهدف حلحلة الوضع السياسي المتأزم في تايلاند.
وقتها قلنا: "يبدو أن صفقة قد تم التوصل إليها بين الفرقاء ملخصها أن يعود تاكسين شيناواترا إلى بلاده بعد 15 عاما قضاها في منفاه منذ الإطاحة به في انقلاب عسكري سنة 2006، ليقضي عقوبة السنوات العشر التي أصدرتها محكمة عليا بحقه في ثلاث قضايا فساد منفصلة مع تخفيفها أو إلغائها بعفو ملكي بحجة اعتلال صحته (ألغيت بعفو ملكي)، على أن يتزامن ذلك مع تسليم السلطة في البلاد إلى مرشحه سريتا تافيسين باعتباره الحائز على المركز الثاني في انتخابات مايو، وعلى أن يتعهد تاكسين بالولاء للنظام الملكي والتخلي عن شطحاته السابقة ضد الملكية".
وبالفعل عاد تاكسين إلى بانكوك في 22 أغسطس 2023 في طائرته الخاصة وهو يزين معطفه بدبوس يحمل صورة الملك "ماها فاجيرالونغكورن"، بل وسارع فور وصوله بالسجود أمام صورة لعاهل البلاد، قبل أن يقتاده ضباط الجيش إلى المحكمة. وتعليقا على الحدث كتبنا: "أن تاكسين، الذي أفسد الحياة السياسية التايلاندية بخطابه الشعبوي ورشوته لمؤيديه من الطبقات الفقيرة منذ توليه السلطة سنة 2001 وطوال سنوات وجوده في المنفى عبر تحريك أنصاره من الخارج لإحداث الفتن والاضطرابات، لم يعقد صفقة مع خصومه إلا لكي يعود وينظم نفسه من جديد من أجل الانتقام وخلق قواعد جديدة للعبة السياسية، وأنه ليس جادا في إدعاءاته بالولاء للملكية، خصوصا مع وجود مناهضين كثر للملكية في دائرته المقربة من أولئك الذين لن يقبلوا أن يتحولوا فجأة إلى حماة للعرش أو حتى أصدقاء لجنرالات أطاحوا به في 2006 ثم أطاحوا بشقيقته ينغلوك في 2014".
وبالعودة إلى ما حدث في بانكوك يوم 14 أغسطس الفائت، نجد أن تاكسين شيناواترا، بمجرد أن علم بسقوط حليفه وشريكه "سيريتا تافيسين"، تدخل لضمان حلول ابنته مكانه، من أجل تفادي انهيار التحالف الحاكم الذي يضم خليطا غريبا من الأعداء والأصدقاء. وهو بهذا العمل انتهك احد شروط العفو الملكي بعدم توجيهه البرلمان والحكومة من خلف الكواليس.
ومن هنا يرى المراقبون أن صفقة جزيرة لانكاو قد ماتت، وبالتالي فإن المؤسسة الملكية ومن ورائها المؤسسة العسكرية والأحزاب المحافظة ستسعى إلى تعطيل مشاريع أونغ إينغ، لاسيما تلك المتعلقة بتبييض صفحة والدها وعمتها المنفية كليا ونهائيا)، خصوصا وأن القصر لديه ما يستخدمه ضدها وهو تعليقات أدلت بها خلال حملات انتخابية العام الماضي حول إصلاحات قانون العيب في الذات الملكية (قانون يحمي الملك والملكة والوصي وولي العهد من النقد ويعاقب المتجاوز بالسجن لمدة 15 عاما).
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: نهاية أغسطس 2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق