بقلم: د. عبدالله المدني*
منذ الانهيار الاقتصادي وافلاس البلاد وما اعقبه من انتفاضة شعبية شارك فيها الشعب بمختلف توجهاته السياسية والعرقية والدينية، وأدت إلى استقالة رئيس البلاد آنذاك "غوتابا راجاباكسا" وهروبه مع بطانته الفاسدة في عام 2022، والشعب السريلاكي يترقب انتخابات رئاسية لاختيار رئيس جديد يخلف الرئيس "رانيل ويكريميسنغا" الذي انتخب استثناء من قبل البرلمان وليس من قبل الشعب. وخلال السنتين الماضيتين حاول الأخير دون جدوى أن يصلح الاقتصاد ويخرج االبلاد من عنق الزجاجة. وحينما أعيته الحيلة لجأ إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كان مقررا لها شهر مايو المنصرم. وبالتزامن لجأ إلى صندوق النقد الدولي عله يساعد البلاد على الخروج من كبوتها وافلاسها.
الصندوق الدولي، وكما هي عادته، تقدم بخطة تقشف. والخطة لئن أدت إلى استقرار اقتصادي نسبي وانهت أشهرا طويلة من نقص الغذاء والوقود والأدوية وأعادت الهدوء إلى الشارع المضطرب، إلا أنها انهكت المواطن البسيط بالضرائب ووضعت على كاهله ما لا يحتمل، الأمر الذي جعله لا يثق بوعود الرئيس ويكريميسينغا حول بناء اقتصاد قوي مقترن بنظام سياسي واجتماعي متطور.
وفي 21 سبتمبر المنصرم كانت سريلانكا على موعد مع إجراء أول انتخابات رئاسية بعد أحداث عام 2022. فجرت عملية التصويت بصورة سلمية وسلسلة بمشاركة نحو 75% من الناخبين المؤهلين البالغ تعدادهم 17 مليون نسمة، فيما بلغ عدد المترشحين للمنصب الرئاسي 39 شخصا يتقدمهم الرئيس ويكريميسينغا، وزعيم المعارضة "ساجيت بريماسادا" (نجل رئيس أسبق أغتيل عام 1993 أثناء حقبة الحرب الأهلية مع الانفصاليين التاميل)، الذي تعهد في حال فوزه بمكافحة الفساد وإعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول شروط الانقاذ. علاوة على "أنورا كومارا ديساناياكا" وهو زعيم "جبهة التحرير الشعبية" الماركسية التي قادت في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته انتفاضتين فاشلتين تسببتا في مقتل أكثر من 80 ألف شخص، قبل ان يتحول إلى جزء من التيار السياسي السائد دون أن يقدم اعتذارا للشعب عن ماضيه الأسود. هذا علما بأن حزبه نال أقل من 4% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية في عام 2019.
المفاجأة المدوية، وإنْ لم تكن مستبعدة، تمثلت في حصول الماركسي ديساناياكا على المركز الأول بنسبة 42.4% من الأصوات متفوقا على بريماسادا الذي حصل على المركز الثاني بنسبة 32.76%، وعلى ويكريميسنغا الذ حل ثالثا بنسبة 17.72%. وبطبيعة الحال فإن فوز ديساناياكا بهذه النسبة العالية، هو الذي لم ينل سوى 3% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية السابقة، يمثل تغييرا في سلوك الناخب السريلانكي، ويبعث برسالة مفادها أنه فاض به الكيل ويتوق إلى التغيير ويعكس مدى استيائه من الساسة النخوبيين والتقليديين.
في أسباب وعوامل فوز المرشح الماركسي، يمكن القول أنه ناجم عن حملاته المؤيدة للطبقة العاملة الفقيرة وطموحات الفئات الشبابية، ناهيك عن وعوده بالتحلل من شروط صندوق النقد الدولي القاسية، خصوصا وأنه ترشح باسم "أئتلاف قوة الشعب الوطنية" وهو مظلة تضم جماعات المجتمع المدني والمهنيين واتحادات الطلبة ورجال الدين البوذيين.
غير أن الواقع يقول بصعوبة إدارة الرئيس المنتخب للملف الاقتصادي. فمشاكل سريلانكا الاقتصادية صعبة وناجمة اساسا من إفراطها في الأقرتراض المحلي والخارجي والانفاق على مشاريع لا تدر ايرادات معتبرة حتى بلغ حجم ديون البلاد وقت توقفها عن السداد عام 2022 رقما قياسيا هو 83 مليار دولار. وبالتالي فإن الرئيس ديساناياكا، الكاره للغرب وصناديقه المانحة، ليس أمامه سوى القبول بمواصلة العمل مع صندوق النقد الدولي على مضض مع محاولة التفاوض على مسألة إعادة هيكلة الديون، وإلا فإن الصندوق سيتوقف عن تقديم الدفعة الرابعة من الأموال البالغ مقداره 3 مليارات دولار والضرورية للحفاظ على الاستقرار، وهو ما حذر منه الرئيس السابق ويكريميسينغا والعديد من المراقبين لأن ذلك سوف يؤدي إلى العودة إلى المربع الأول واحتمال قيام انتفاضة شعبية جديدة. اما فيما يتعلق بسياسة البلاد الخارجية في العهد الجديد، فإن المتوقع أن يقود ديساناياكا بلاده بعيدا عن الغرب وباتجاه اقوى نحو الصين التي تبدو منتشية بفوزه.
هذا علما بأن الغالبية الساحقة من السريلانكيين، وخصوصا الأغلبية السنهالية، ينظرون إلى اليابان كشريك أكثر تفضيلا مقارنة بالولايات المتحدة والصين والهند، وإنْ مالت نسبة كبيرة من الأقلية التاميلية إلى الهند باعتبارها الجارة التي هبت قبل غيرها لدعم بلادهم في أزمة الوقود والطعام والدواء عام 2022، وذلك طبقا لبحث أجرته مؤخرا مؤسسة "مركز البدائل السياسية" في كولومبو.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أكتوبر 2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق