الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

لماذا اندلع القتال بين أفغانستان وباكستان؟


 بقلم: د. عبدالله المدني*

عززت الاشتباكات الحدودية بين قوات حكومة طالبان الافغانية وقوات الجيش الباكستاني مؤخرا نظرية أن الدول والجماعات التي تنخرط في القتال لسنوات طويلة يصعب عليها انتهاج طريق السلام، بمعنى أن الحرب يصبح جزءا من حياتها وطقوسها وتقاليدها اليومية، وبالتالي تسعى إلى خلق عدو تتقاتل معه، فإن لم تجده تتقاتل في ما بينها على المواقع والغنائم، وهكذا.

ظل الأفغان يقاتلون ويتقاتلون لعقود طويلة دون الركون إلى السلام ــ باستثناء فترة قصيرة نسبيا زمن الملك الراحل محمد ظاهر شاه ــ فمن حرب التحرير ضد النفوذ البريطاني في الاربعينات، وحرب ممر خيبر مع باكستان في الستينات، إلى حرب الجهاد ضد الغزاة السوفييت في السبعينات، وحرب الفصائل الجهادية بين بعضها البعض في الثمانينات، وحروب طالبان ضد العالم بأسره في التسعينات، وصولا إلى حرب تحرير البلاد من القوات الأمريكية والغربية في الألفية الجديدة، لم تكن هناك فترة راحة، يضع فيها المقاتلون السلاح جانبا لممارسة حياتهم الطبيعية السلمية كبقية الشعوب.

لا يعني هذا الكلام أن ما حدث مؤخرا من اشتباكات بين باكستان وافغانستان نجم عنها مقتل العشرات وإصابة المئات تقع مسؤوليتها بالكامل على قوات طالبان، وإعفاء باكستان من أي مسؤولية. فالبلدان الجاران اللذان كانا يوما ما حليفين وثيقين، بينهما مشاكل حدودية وملفات أمنية لم تحسم، كما أن الولاءات القبلية والأيديولوجية على جانبي الحدود تلقي بظلالها على تلك المشاكل والملفات فتسخنها من وقت إلى آخر، خالقة بؤرة للتوتر الدائم.

ويبقى العامل الهندي حاضرا على الدوام، بسبب التنافس المزمن بين إسلام آباد ونيودلهي على النفوذ في المنطقة، وفي أفغانستان تحديدا. إذ ترى الأولى أن أفغانستان تقع ضمن مناطق نفوذها الطبيعية بحكم الجغرافيا السياسية والتاريخ والمعتقد الواحد والعلاقات القبيلية المتداخلة، وغيرها من العوامل، بينما ترى الثانية أن من حقها حماية أفغانستان من تدخلات عدوتها الباكستانية، وتأثيرات الأخيرة الأيديولوجية المناهضة لها، مدفوعة في ذلك بدوافع أقتصادية وامنية واستراتيجية.

ولعل هذا يجيب على سؤال: "لماذا اندلعت الحرب فجأة وفي هذا التوقيت بالذات بين إسلام آباد وكابول". طبقا للإدعاءات الباكستانية فإن اندلاع القتال فجأة على طول الحدود المشتركة بين قوات الجانبين، جاء بعيد تقارب طالباني ــ هندي نادر، في إشارة إلى زيارة قام بها وزير خارجية طالبان إلى نيودلهي للمرة الأولى منذ وصول طالبان إلى الحكم في كابول سنة 2021. وبعبارة أخرى تتهم إسلام آباد كابول بأنها اتفقت مع نيودلهي على أن تصبح مخلبا للأخيرة ضدها وضد مصالحها في المنطقة من خلال القيام بأعمال إرهابية عبر الحدود، وذلك مقابل إنفتاح الهند على حكومة طالبان والاعتراف بها رسميا وإغداق المساعدات عليها. وهذه الإدعاءات تنفيها كابول جملة وتفصيلا وتصفها باتهامات تطلقها إسلام آباد لتبرير الإعتداء عليها وإخضاعها لسياساتها الاقليمية بالقوة، مستغلة أوضاع أفغانستان الاقتصادية الصعبة، وعزلتها الدولية.

وقت كتابة هذه المادة أعلن في الدوحة أن الجانبين اتفقا بوساطة سعودية ــ قطرية على وقف اطلاق النار والسعي لحل كل المشاكل البينية سلميا. غير أن التجارب السابقة في مثل هذه الحالات، ولاسيما في هذه المنطقة، تشير إلى أن أي اتفاقية سلام لن تثمر إلا عن سلام هش بسبب الكم الهائل من التعقيدات الجيوسياسية والامنية والايديولوجية.

ويرى بعض المراقبين في ما حدث بداية مرحلة جديدة وخطيرة في جنوب آسيا، تحاول فيها أفغانستان الطالبانية ترسيخ شرعيتها الداخلية والدولية بالقوة، بعد أن بخل عليها المجتمع الدولي بذلك سلما، ناهيك عن محاولة اختبار عزم جارتها الباكستانية وتأكيد استقلالية قرارها الخارجي، ومحو الصورة المكونة عنها في دوائر القرار الباكستانية من أنها جار يمكن السيطرة عليه وتوجيه سياساته وفقا للمصلحة الباكستانية العليا.

وأخيرا، يجب ألا نغفل الموقف الصيني مما يحدث في هذه المنطقة. فبكين المهتمة بتحقيق طموحاتها من خلال مبادرة الحزام والطريق، ولاسيما من خلال الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، يزعجها أن يحدث توتر في منطقة استثمرت فيها بكثافة، وعليه فقد تتدخل بطريقة تعزز أمن واستقرار وقوة حليفتها الباكستانية الوثيقة من جهة، وتدفع طالبان إلى التهدئة وتخفف من تطرفها مقابل مساعدات اقتصادية معتبرة  من جهة أخرى.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2025م



الثلاثاء، 21 أكتوبر 2025

اليابان قد تشهد سقوط حكومتها الجديدة


 

بقلم: د.عبدالله المدني*

يبدو أن ساناي تاكائيتشي المنتخبة حديثا كأول إمرأة تتزعم اليابان في تاريخها، لن تهنأ طويلا بمنصبها، وستواجهها أزمة سياسية معقدة لن تستطيع حلها إلا بالدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة، وهو حل انتحاري قد يُخرج حزبها الديمقراطي الليبرالي الحاكم من السلطة، خصوصا مع تآكل شعبيته بسبب فضائح مالية.

نقول هذا على ضوء المفاجأة التي أحدثها "سايتو تيتسو" زعيم حزب كوميتو البوذي الصغير بإعلانه عدم تجديد إئتلافه مع الحزب الحاكم. وبهذا فقد الحزب الحاكم أغلبيته البرلمانية وبات عرضة للسقوط في حال تحالف قوى المعارضة ضده في أي تصويت برلماني (يحتاج إلى 25 صوتا في مجلس النواب و37 صوتا في مجلس الشيوخ لتحقيق الأغلبية). والمعروف أن لحزب كوميتو 24 مقعدا في مجلس النواب و21 مقعدا في مجلس الشيوخ، ودخل في إئتلاف مع الحزب الحاكم منذ عام 1999، وكان يؤمن دوما الدعم البرلماني اللازم لحكوماته، للحيلولة دون سقوطها، وظل كذلك حتى وقت قريب.

لكن لماذا حدث الانفصال بين الحزب الصغير وحزب اليابان التاريخي الكبير؟ هناك أكثر من عامل تسبب في ذلك، منها التغييرات الديموغرافية التي طرأت على جمهور "كوميتو"، والرغبة في إبعاد نفسه عن فضائح وهزائم الحزب الحاكم، وتذمر أنصاره من تمثيله لدور التابع والباصم على قرارات حكومات الحزب الديمقراطي الليبرالي، وتذمرهم أيضا من قبوله تقديم الكثيرمن التنازلات من أجل بقاء الإئتلاف، خصوصا إبان عهد رئيس الوزراء القوي الراحل "شينزو آبي". هذا ناهيك عما يتردد حول استياء قادة "كوميتو" من اعتماد الزعيمة اليابانية الجديدة على دعم رئيس الوزراء الأسبق ما بين 2008 و2009  "تارو آسو" الذي وصف "كوميتو" في عام 2023 بأنه ورم خبيث في الإئتلاف الحاكم. وهناك أيضا أمر آخر إستاء منه زعيم "كوميتو" وعده طعنة له ولحزبه، وهو مسارعة تاكائيتشي بعد فوزها بفترة وجيزة إلى عقد إجتماع سري مع زعيم "الحزب الديمقراطي من أجل الشعب" المعارض "يويتشيرو تاماكي"، دون مشاورته أو إطلاعه على التفاصيل والأسباب. كما وأن أقطاب "كوميتو" يعارضون توجهات تاكائيتشي المتشددة ضد الهجرة والعمالة الأجنبية.

والغريب أن قادة ورموز الحزب الحاكم، لم يأخذوا تصريحات سابقة لزعيم حزب كوميتو على محمل الجد، مفترضين أن إئتلافهم معه باق وصامد. والإشارة هنا إلى تصريح للسيد "سايتو تيتسو" حذر فيه من أن حزبه لن يقبل المشاركة في حكومة تشكلها السيدة تاكائيتشي.

والحال أن الحزب الحاكم الذي يملك حاليا 196 مقعدا في مجلس النواب، يعيش على أمل بقائه في السلطة على فرضية أن الخلافات بين أحزاب المعارضة تمنع توحدها في جبهة واحدة لإسقاطه وإخراجه من زعامة البلاد. والمعروف أن اليابان شهدت في عامي 1993 و1994 تجربة قيام إئتلاف فضفاض متعدد الأحزاب لإخراج الحزب الديمقراطي الليبرالي من الحكم والحلول مكانه، لكن سرعان ما دبت الخلافات بين أطراف الإئتلاف وسقطت حكومتهم، ليعود الحزب الديمقراطي الليبرالي إلى السلطة ويعزز صورته كحزب رائد لا بديل عنه في حكم البلاد.

غير أن ما لوحظ في المشهد السياسي الياباني الراهن هو أن بعض أحزاب المعارضة ينظرإلى ما يحدث كلحظة تاريخية يجب استغلالها لهزيمة الحزب الحاكم. إذ قام الحزب الديمقراطي من أجل الشعب بتحرك هدفه حشد الدعم لزعيمه يويتشيرو تاماكي الذي أعرب عن رغبته في قيادة البلاد. وفي هذا الوقت كان الحزب الحاكم يقوم بمحاولات لإقناع بعض نواب المعارضة بدعم زعيمة البلاد الجديدة تاكائيتشي، او ــ على الأقل ــ الامتناع عن التصويت ضدها في جلسة تثبيتها برلمانيا خلال الايام المقبلة، وذلك لضمان عدم صعود مرشح آخر.

إن السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن، بعد الاستعراض السابق، هو "لماذا لا يستطيع الحزب الحاكم إيجاد بديل عن حزب كوميتو الصغير مفجر الأزمة؟ وبعبارة أخرى هل يصعب عليه الدخول في إئتلاف مع شريك جديد؟ يفول المراقبون، ردا على السؤال إن ذلك يبدو نظريا أمر سهل، لكن في الواقع صعب التطبيق. فحتى الآن لم يبد أي حزب معارض استعداده للدخول في إئتلاف مع الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم لأسباب لا تختلف عن تلك التي أدت إلى انسحاب حزب كوميتو، حيث لا يريد أحد أن يفقد سمعته وشعبيته السياسية أو يقيد حركته من أجل بقاء الحزب الحاكم في السلطة وحل أزمته الراهنة.

ونختتم بالقول أن المشهد السياسي في اليابان متقلب، وبالتالي قد يشهد تحالفات وصفقات علنية وسرية لا تخطر على البال مثل تراجع حزب كوميتو عن إنسحابه، خصوصا وأن الأخير كيان سياسي ضئيل مثله مثل الحزب الشيوعي الياباني، وبالتالي فهو غير قادر على أن يؤمن لنفسه مقاعد برلمانية كثيرة  دون دعم وائتلاف مع الأحزاب الكبيرة في أي انتخابات عامة مقبلة.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2025م


الأربعاء، 8 أكتوبر 2025

اليابان في عهدة إمرأة لأول مرة في تاريخها


ِ 

بقلم: د. عبدالله المدني*

فاجأ رئيس الحكومة اليابانية "شيغيرو ايشيبا" العالم في السابع من سبتمبر المنصرم بتقديم استقالته من منصبه كزعيم لليابان قبل أن يكمل عامه الأول في المنصب، معززا بذلك حالة عدم الإستقرار السياسي في بلاده التي شهدت تغير 3 حكومات خلال 5 سنوات.

وعلى خلفية هذا الحدث المفاجيء عانت اليابان خلال الأسابيع الماضية من انقسامات في الشارع التواق إلى حكومة جديدة قادرة على إصلاح الاقتصاد الذي يعاني من تراجع قيمة الين، وتفاقم معدلات التضخم، ناهيك عن ضغوط التعريفات الجمركية الجديدة من قبل الحليف الأمريكي على صادرات اليابان، وقادرة في الوقت نفسه على معالجة ملفات داخلية شائكة مثل الضرائب والهجرة والعمالة الأجنبية ومعدلات الشيخوخة، وغيرها. 

كان من الطبيعي أن يلقي انقسام الشارع بظلاله على أروقة "الحزب الليبرالي الديمقراطي"، الذي حكم البلاد في معظم سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية عدا فترة قصيرة. إذ شهد الحزب إنقساما خطيرا حول كيفية تطويق تدهور شعبيته، ومعالجة إستقالة زعيمه "ايشيبا" واختيار بديل عنه لتولي قيادة اليابان في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها داخليا وخارجبا. فالبعض من قيادات الحزب رأى ضرورة إجراء انتخابات عامة جديدة، والبعض الآخر كان من مؤيدي الاستمرارية تحت قيادة شابة جديدة، والبعض الثالث وجد أن الظروف والتحديات الراهنة تستدعي إختيار شخصية قيادية من ذوي الخبرة السياسية والتاريخ الحزبي الطويل. وبموازاة ذلك شهدت أروقة الحزب إنقساما من نوع آخر تمثل في دعوة بعض أعضائه إلى أن يشارك كافة منتسبي الحزب في عملية التصويت لإختيار الزعيم الجديد وليس فقط الأعضاء القياديون والأعضاء الممثلون في البرلمان.

أدت هذه الانقسامات إلى تقدم أكثر من مرشح للمنصب الأعلى في البلاد، كان أولهم وزير الخارجية السابق "توشيميتسو موتيغي"، غير أن المنافسة انحصرت في نهاية المطاف بين شخصيتين هما: السيدة القومية المتشددة "ساناي تاكائيتشي" (64 سنة) والسياسي المعتدل الشاب شينجيرو كويزومي (44 عاما)، وبمعنى آخر كان الإختيار بين أول سيدة لتولي قيادة الحزب والحكومة، التي ظلت حكرا على الرجال طوال تاريخ اليابان السياسي، وبين أصغر سياسي لتولي المنصبين منذ نحو 140. هذا علما بان كويزومي، على الرغم من صغر سنه نسبيا، فإنه يتمتع بخبرة سياسية رفيعة وموقع حزبي بارز كونه وريث سلالة سياسية عريقة (والده هو جونيتشيرو كويزومي رئيس الوزراء من 2001 إلى 2006، وجده هو جونيا كويزومي المدير العام الأسبق لوكالة الدفاع اليابانية، وجده الأكبر هو ماتاجيرو كويزومي أحد وزراء البريد والإتصالات السابقين).

على الرغم من أن معظم استطلاعات الرأي رجحت فوز كويزومي، إلا أن الفوز كان من نصيب السيدة تاكائيتشي، التي تدخل التاريخ اليوم كأول إمرأة تقود اليابان في تاريخها، وتتحمل إدارة رابع أكبر اقتصاد في العالم، بخلفية محافظة، ورؤى اقتصادية نابعة من نهج رئيس الوزراء الراحل "شينزو أبي" القائم على التحفيز المالي والسياسة النقدية المرنة. وهناك شبه اجماع على أن مهمتها لن تكون سهلة كون المسؤوليات الملقاة على عاتقها تتطلب سياسة خارجية مرنه من أجل الحفاظ على موقع طوكيو في التحالفات الغربية وبصورة يعزز حضورها الدولي ودورها الاقليمي في آسيا، ويمنحها في الوقت نفسه القدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية الراهنة، خصوصا وإننا نتحدث عن بيئة عالمية تتفاقم فيها التوترات من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وبيئة اقليمية تشهد منافسات ومناورات وخطط للهيمنة من قبل الصين وكوريا الشمالية.

وفي راينا ورأي العديد من المراقبين أن زعيمة اليابان الجديدة عازمة على أن تثبت لليابانيين أن المرأة اليابانية قادرة على قيادة البلاد بصورة أفضل من الرجال، وبالتالي فإنها سوف تعمل بقوة من أجل ترجمة وعودها إلى أفعال. وتشتمل وعودها على: استعادة هيبة اليابان، وإطلاق آلية جديدة للخصومات الضريبية النقدية لدعم الفئات الأقل دخلا، ومقاومة قرارات البنك المركزي برفع أسعار الفائدة (لأنها تخنق النمو وتعرقل التصدير، بحسب رؤيتها)، وتخفيض الضريبة المؤقتة على الوقود، والتشدد مع الصين وكوريا الشمالية، وتعزيز القدرات العسكرية للبلاد ضمن تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، وتمتين التعاون الإقليمي مع سيئول ومانيلا ونيودلهي لموازنة النفوذ الصيني في المحيطين الهندي والهادي، والحفاظ على الهوية والخصوصية اليابانية عبر تبني مواقف متشددة من الهجرة والعمالة الاجنبية اللتين كانتا علاجا للشيخوخة المتسارعة للسكان.

وفي رأينا أيضا أن تاكائيتشي، ستدخل نفسها وبلادها في توترات ومواجهات لا طائل من ورائها مع واشنطن إنْ قررت التفاوض مجددا مع إدارة الرئيس ترامب حول بنود اتفاقية التعرفة الجمركية التي أبرمها سلفها إيشيبا.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2025م


 


السبت، 4 أكتوبر 2025

سوريا وحزب الله في ندوة "الفلسفيّة الأردنيّة"

   



ـ إعداد وتقديم شوقي مسلماني. 

عقدت الجمعيّة الفلسفية الأردنيّة ندوة تحت عنوان "وجهان للمقاومة: جورج عبدالله وزياد الرحباني"، عرضتها قناة الفينيق الأردنيّة وحاضر فيها البرفسّور سعود قبيلات. وفي قسم الأسئلة والأجوبة، الغني أيضاً، سئل إذا كانت مواقف زياد الرحباني اليساري صحيحة في تأييده لحزب الله وسوريا، وكان جوابه كالآتي:

 "موقف زياد بخصوص حزب الله هو مثل موقفنا وموقف الكثير من الموجودين في هذه القاعة، ذلك لا يعني الإتّفاق إيديولوجيّاً. نحن مع أي مقاومه ضدّ إسرائيل، ضدّ هذا العدو. وقفنا مع حماس مثالاً، مع كتائب عزّ الدين القسّام. وقفنا من دون تردّد مع عزّ الدين القسّام ضدّ العدو الإسرائيلي رغم اختلافنا بالمنطلقات الإيديولوجيّة. وهذا ما ينطبق على زياد الرحباني. زياد بالوقت اللي كان داعم قوي للمقاومة كان عنده نقد للمقاومة، حكى ذلك في التلفزيونات. كانت له ملاحظات. وهو انتقَد حزب الله وكان له عتب. وبالنسبة لسوريا أيضاً كان موقفه إيّاه موقفنا. نحنا كنّا شايفين المخاطر من وراء هذا الصراع الداير في سوريا واللي كنّا نحكيه وقاعد الآن يصير في سوريا، كنّا نقول: يا جماعة، ما يحصل في سوريا خطر على القضية الفلسطينية وخطر على الأردن وخطر على لبنان وخطر على العراق، الآن كلّ المنطقة مهدّدة، وهذا صار بسوريا. إسرائيل تمدّدت. سيطرت على جبل الشيخ كاملاً وهي تتمدّد، ويمكن ستصل للحدود العراقيّة. هل هذا اللّي كنّا نسعى إليه؟. هل القضيّة هي قضيّة مناكفة؟. هل القضيّة قضيّة ثارات؟. أنا دائماً أقدّر تقديراً عالياً موقف صديقنا الراحل مجلّي نصراوين اللّي انحبس 22 سنة في السجون السوريّة، ولمّا صارت هذه الحرب وقف الموقف المبدئي والشجاع. ما قعد وقال هدولي سجنوني وشو عملوا بي. بالنسبة له الأهم كانت سوريا، الأهم له سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين. الآن حماس تقاتل بغزّة، والآن الوحوش اللي في لبنان وخارج لبنان بدهم يتناهشوا حزب الله. يعني حزب الله في وضع صعب، وويله أنّه يمكن الجولاني يهجم من الشرق ومن الشمال والإسرائيليّون يهجموا من الجنوب، ويوجد في الداخل سمير جعجع، وهذا كان حليفاً لإسرائيل وما يزال، وتوجد الكتائب وغيرها، ويوجد أمثال نوّاف سلام رئيس الحكومة وغيره وغيره. وضعيّة حزب الله في لبنان سيّئة جداً. سابقاً كان له حليف سوري أو شبه حليف سوري، سواء يُعتمَد عليه أو لايعتمَد عليه، كان أقلّه مقفِلاً زاوية. الآن وضع الحزب صعب. أي إنسان عنده منطق وتفكير سليم يرى هذا الذي كنّا نقوله وها نحن قد وصلنا إليه. الآن وصلنا للأسوأ. أنا ما كنت أتخيّل، رغم أني كنت أتخيّل وضعاً سيّئاً سنصل إليه، بس ما كنت أتخيّل مثلاً انه سيصل الأمر إنّ الموساد في دمشق إلى جانب المخابرات التركيّة. طلال ناجي استدرجوه من القاهرة بواسطة أحدهم، ولن أسمّيه، وهو أحد القادة المحسوبين على حماس، ولكن هو من الجناح الآخر في حماس، استدرجوه وقالوا له أن يرجع إلى دمشق فما عليه شيء، رجع طلال ناجي إلى دمشق، وأوّل ما وصل اعتُقل، ووجد ذاته يحقّق معه الموساد الإسرائيلي في العاصمة دمشق،  لماذا استدرجوه إلى دمشق؟، لأنّه لمّا سيطرت جماعة الجولاني على مراكز المخابرات السوريّة أخذوا كلّ الوثائق واكتشفوا أنّ جنديّاً إسرائيلياً كان قد قُتل ودُفِن في سوريا ويوجد إثنان فقط يعرفان أين هو مدفون، وهما علي دوبا، وهذا مات، وطلال ناجي. استقدموا طلال ناجي من القاهرة ليحقّق معه الموساد. ومع الأسف الرجل أخيراً دلّهم على المكان، فأخذوا جثّة الجندي واحتفل نتنياهو وعمل أنه حقّق إنتصاراً وأنّه بطل ومحقّق أمجاد لإسرائيل وقال ها أنا استرجعت الجندي الإسرائيلي من دمشق. ما كنت أتخيّل أن كلّ متعلّقات الجاسوس كوهين ووثائقه يتمّ تسليمها لإسرائيل ويحتفل نتنياهو أيضاً. ما كنت أتخيّل اللي سيأتي حاكماً أن يقول نحن وإسرائيل لنا أعداء مشتركون. هذا وضع كابوسي اللي وصلنا إليه. لذلك كان الموقف الذي وقفه زياد ووقفه آخرون،  ونحن منهم، وكذلك أغلبيّة الموجودين في هذه القاعة، إذا مش كلّهم، هو الموقف الصحيح. المفروض على كلّ من أخذ موقفاً ممّا حصل في سوريا أن يقول إذا أخطأ أو إذا أصاب، إلاّ إذا هذا كان يريد مصلحة إسرائيل، يعني ما عنده مشكلة أن تهيمن إسرائيل على المنطقة، أما إذا كان ضد إسرائيل مثلنا يجب أن يقول أنّه كان مخطئاً بتأييد الذي حصل في سوريا، ما كان لازم يأخذ الموقف الذي اتّخذه. زملائي يعرفون أني في رابطة الكتّاب وفي اتحاد الكتّاب العرب طالما دافعت عن الحريّات وكتبت المقالات للإتّحاد عن الحريّات. كانت الإجتماعات كلّ 6 أشهر في عاصمة عربيّة. كانوا يكلّفوني لأكتب في موضوع الحريّات، كنت أصرّ على معالجة قضايا الحريّات في كلّ البلدان العربيّة بما فيها سوريا، وكنت أتمشكل أنا ورئيس اتحاد الكتّاب السوريين ورئيس إتّحاد الكتاب الليبيين والسودانيين، كنت أتمشكل معهم، وفي تونس صار بيني وبينهم مشادّة وقلت إذا لا تكتبون عن الحريات كما يجب سأفضحكم كلّكم، والكتّاب العرب المعروفون شهود، وبعضهم لا يزال حيّاً. كنت على خصومه معهم،  لكن لمّا وقعت سوريا ما قعدت أتفرّج، زي لمّا وقعت العراق ما قعدت أتفرّج. كان صدّام حسين على عداوة مع الشيوعيين، وكثير من الشيوعيين، بما فيهم رفاق يعزّون عليّ وأعرفهم معرفة شخصيّة تمّ إعدامهم، بس لمّا العراق استُهدف من أميركا وقفتُ وآخرين بلا تردّد مع العراق ضدّ العدوان الأميركي، فالذي بوصلته العداء للإمبراليّة، للصهيونية، للرجعيّة، ما بيضيّع البوصلة، ما بيوقف مع الرجعيّة، مع الإمبرياليّة، مع الصهيونيّة، بذات الخندق، ما بيكون معهم في خندق واحد. موقف زياد الرحباني كان صحيحاً. نعم هُوْجِم زياد، بس هو كان الصحّ. سينصفه التاريخ، سيقول التاريخ إن هذا الإنسان وآخرين وقفوا الموقف الصحيح ودافعوا. الثورة الجزائرية كان فيها جناح متديّن ومغرق في التديّن لدرجة كان يعدم الشيوعيين واليساريين المنخرطين في النضال وعلى الرغم ظلّت عين الطاهر وطّار على حريّة الجزائر. والمناضل، وخصوصاً الشيوعي، يجب أن تكون بوصلته واضحة ضدّ الإمبرايالية، ضدّ الصهيونيّة، ضدّ الرجعيّة. هذه بوصلة الشيوعي تحديداً، لا يسأل هذا متديّن وهذا غير متديّن، يسأل هذا أين يقف؟. ومثلاً إيران بعد الثورة ظلمت الشيوعيين وعذّبت المناضل الشيوعي كيانوري الذي قبع في سجون الشاه أكثر من 30 سنة، نحن لا نتعامل على اساس ثارات قبليّة أو ثارات بدائيّة،  نحن عندنا قضيّة، عندنا موقف. نحن مع إيران في صراعها مع الإمبرياليّة والصهيونيّة، نحن مع هذا الطرف الذي يقف الموقف الصح في هذه اللّحظة، وإذا موقفه مش صح  نحن لسنا معه، كان من يكون، هكذا عندنا تُقاس الأمور. 


ـ "سعود قبيلات" قاص وكاتب سياسي يساري. أمين عام الحزب الشيوعي الأردني منذ عام 2023. رئيس رابطة الكتّاب الأردنيين والنائب الأوّل للأمين العام للاتّحاد العام للأدباء والكتّاب العرب.  

ـ "مجلّي نصراوين" مناضل أردني قومي تقدّمي، قبع في السجون السورية لمدة امتدّت 22 سنة دون محاكمة أو تهمة واضحة. حين خرج من السجن عام 1993 أكمل مسيرته الوطنية في الأردنّ متمسّكاً بمبادئه وبفكرته القوميّة ولم يساوم على قناعاته. شارك في العديد من الأنشطة الوطنية، وأصبح رئيساً لمنتدى الفكرة الاشتراكي، ثم عضوًاً في جمعية الصداقة الأردنيّة الفنزويليّة، بالإضافة إلى دوره البارز في تجمّع القُوى القوميّة، وكان دائماً في مقدّمة المدافعين عن القضيّة الفلسطينيّة وحقوق الشعب السوري في مواجهة التدخّلات الأجنبيّة. 

ـ "طلال ناجي" هو الأمين العام للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين ـ القيادة العامّة. انشقّ مع أحمد جبريل عن الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش سنة 1974. أصبح عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة ورئيسا لدائرة التربية والتعليم العالي فيها.  

ـ "علي دوبا" رئيس جهاز الإستخبارات العسكرية السوريّة في عهد حافظ الأسد. رافق الأسد الأب في مشواره بالصعود إلى السلطة منذ البدايات. ساهم في حماية النظام السوري منذ تسلّمَ البعث الحكم في انقلاب آذار عام 1963 و"الحركة التصحيحة" عام 1970. لعب دوراً أساسياًّ في التمكين لحكم حافظ الأسد خصوصاً في الفترة الأولى من الحكم، وفي فترة محاولة إنقلاب شقيقه رفعت الأسد. توفي سنة 2023 عن عمر ناهز التسعين عامًا. 

ـ "الطاهر وطّار" كاتب وروائي جزائري شهير. أسّس أسبوعية الشعب الثقافي التي كانت منبراً للمثقفين اليساريين وله العديد من الروايات التي أكسبته شهرة في العالم العربي. من مواليد 1936. توفي سنة 2010. 

ـ  "نور الدين كيانوري" أمين عام حزب حزب توده الإيراني وحفيد رجل الدين المعروف فضل الله نوري. هو وحزبه كانا من أكبر المؤثّرين في الثورة الإيرانيّة على الشاه، وصار اختلاف بعد نجاح الثورة حول أسلوب الحكم. تمّ اعتقاله بتهمة "الدعاية للثقافة الماديّة الماركسيّة". أُُعدِم العديد من رفاقه فيما نجا هو بتدخّل شخصي من آية الله الخميني. رسالته إلى السيّد على خامنئي شهيرة. مات في الإقامة الجبريّة سنة 1999. 


الخميس، 2 أكتوبر 2025

عن ظاهرة استقالة الحكومات في اليابان


 

بقلم: د. عبدالله المدني*

فاجأ رئيس الحكومة اليابانية شيغيرو إيشيبا العالم في السابع من سبتمبر الجاري استقالته من منصبه كزعيم لرابع أكبر إقتصاد في العالم، هو الذي لم يمض سوى أقل من عام في السلطة (تولى زعامة اليابان في العام الماضي خلفا لزميله "فوميو كيشيدا" بعد مرحلة من الاضطراب تلت اغتيال رئيس الوزراء الأسبق "شينزو أبي").

وجاءت استقالته وسط خلافات عاصفة داخل حزبه الحاكم (الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي هيمن على الساحة السياسية وأدار وقاد البلاد خلال معظم سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية باستثناء فترات قصيرة جدا) حول سياسات الحكومة الاقتصادية، واتفاقية التعريفات الجمركية التي أبرمها إيشيبا مع الإدارة الأمريكية (توصل الجانبان بصعوبة وبعد مفاوضات طويلة إلى اتفاق تخفض واشنطن بموجبها رسومها الجمركية على المنتجات اليابانية مقابل تعهد طوكيو باستثمار مبلغ 550 مليار دولار في الولايات المتحدة الامريكية). هذا ناهيك عن أسباب أخرى مثل تذمر وغضب الناخبين من التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة والتباطؤ الاقتصادي وعجز الحكومة عن تقديم حلول سريعة، والذي ظهر جليا في خسارة الحزب الحاكم لأغلبيته في مجلسي البرلمان.

كانت اليابان في الشرق، وإيطاليا في الغرب أوضح مثالين على عدم الاستقرار السياسي، بمعنى تغير حكومات البلدين وزعمائهما باستمرار وخلال مدد زمنية متقاربة. ولئن كانت الإستقالات في المثال الإيطالي بسبب تشرذم الأحزاب السياسية وكثرتها وقيامها بمماحكات وتغيير تحالفاتها بين عشية وضحاها من أجل نصيب في كعكة السلطة، فإن الإستقالات في المثال الياباني ظاهرة اخلاقية عميقة الجذور في المجتمع، ونابعة من "ثقافة الاعتذار" ومبدأ الإعتراف بالفشل وتحمل كامل المسؤولية عن أي إخفاق ولو كان صغيرا بمعايير العالم الثالث. وهناك أمر آخر جدير بالملاحظة هو أن تغيير الحكومات في اليابان لا يعني تبدلا كبيرا في النهج السياسي أو انهيارا في النظام أو تراجعا في الأداء. فالبيروقراطية اليابانية المنضبطة تقوم دوما ــ وفق عقد اجتماعي معروف ــ بدور رئيسي في ضمان استمرارية السياسات الأساسية بغض النظر عمن يحكم البلاد.

وتقول قائمة زعماء الحكومات التي تشكلت في اليابان منذ الحرب العالمية الثانية أن أطولهم بقاء في السلطة كان "شينزو أبي" الذي خدم لثماني سنوات على فترتين، وأقصرهم خدمة هو "ناروهيكو هيغاشيكوني" الذي لم يستمر سوى 45 يوما.

لكن ما هي تداعيات هذا الحدث الياباني داخليا وخارجيا؟ 

داخليا قد يؤدي استقالة إيشيبا إلى شلل مؤقت تزداد معه معاناة الاقتصاد الذي يشكو أصلا من رسوم ترامب الجمركية، ومن التضخم والتباطؤ. وللحيلولة دون ذلك وجه إيشيبا حزبه إلى الإسراع في إجراء انتخابات داخلية طارئة لإختيار بديل عنه، علما بأن أبرز الشخصيات المرشحة لخلافته في قيادة البلاد هما: العضوة المخضرمة في الحزب الحاكم "ساناي تكايتشي" المعجبة بالزعيمة البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر، والمعروفة بمعارضتها لرفع أسعار الفائدة وتأييدها لسياسات مالية أكثر مرونة، وإبن رئيس الوزراء الأسبق ووزير الزراعة في حكومة إيشيبا المستقيلة "شينجيرو كويزومي" الذي يعتبر نجما سياسيا صاعدا وعلى قدر وازن من النشاط والكفاءة.

غير أن هناك من يقول أنه على ضوء عدم تمتع الحزب الليبرالي حاليا بأغلبية برلمانية مريحة، فقد تؤول زعامة اليابان إلى شخصية من خارجه، لكن أيا تكن هذه الشخصية فإنها لا تملك سوى الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة، وهي عملية لا يحبذها أغلبية الناخبين حاليا (نحو 55%)، طبقا لإستطلاعات الرأي، بل لا نعتقد أنها فكرة جيدة، لأنها قد تؤدي إلى تراجع أكبر لنفوذ الحزب الليبرالي وشريكه "حزب كوميتو" الصغير لصالح بروز وتنامي قوة بعض الأحزاب الشعبوية والمتطرفة مثل "حزب سانسيتو" القومي المناهض للهجرة، و"حزب ريوا شينسينغومي" اليساري، على غرار ما حصل في ديمقراطيات أوروبية.

خارجيا، لاشك أن لحدوث فراغ أو شلل سياسي في اليابان انعكاسات أبعد من حدودها، كونها رابع أكبر اقتصاد في العالم وقوة صناعية وتكنولوجية معتبرة ودولة حليفة للولايات المتحدة وصاحبة موقع في النظام الدولي. وتنبع المخاوف تحديدا من احتمال أن تؤدي الخلافات داخل الحزب الليبرالي أو بينه وبين خصومه إلى سياسات أكثر تشددا ضد الصين والكوريتين، وبما يفاقم التوترات الحالية في منطقة الشرق الأقصى.

ونختتم بالقول أن الحزب الليبرالي الديمقراطي، في مرحلة ما بعد إيشيبا، أمام منعطف خطير، يستلزم منه التجديد والتغيير والتكيف مع واقع سياسي جديد، كي يبقى محافظا على دوره التاريخي في ضمان استقرار اليابان واستمرارية نظامها الديمقراطي وسياساتها الرزينة.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: سبتمبر 2025م

 




نيبال تقتفي أثر سريلانكا وبنغلاديش وتنتفض

 

بقلم: د. عبدالله المدني*

على غرار ما حدث في سريلانكا في عام 2022، حينما انتفض شعبها وأحزابها المعارضة وشبابها ضد الحكومة لفسادها وسوء ادارتها الإقتصادية للبلاد، فخرج الأمر عن السيطرة، وهرب رئيس البلاد، واقتحم المتظاهرون البرلمان والقصر الرئاسي، وعلى غرار ما حدث في بنغلاديش العام الماضي من احتجاجات جماهيرية واسعة أدت إلى استقالة رئيسة الحكومة ومغادرتها البلاد، شهدت النيبال مؤخرا شيئا مشابها بقيادة من أطلقوا على أنفسهم "جيل زد" أو Gen-Z وهم مجموعة شبابية قررت التظاهر في العاصمة كاتمندو ضد حكومة رئيس الوزراء "شارما أولي" (يتزعم الحزب الماركسي النيبالي الموحد، وانتخب رئيسا للحكومة في 15 يوليو من العام الماضي بدعم من حزب المؤتمر وغيره من الأحزاب المشاركة في البرلمان)، متهمة إياها بمحاولة إسكات الطلبة وشباب الجامعات والتضييق على حرياتهم، وذلك في إشارة إلى قرار الحكومة بحظر 26 منصة من منصات التواصل الاجتماعي المعروفة مثل فيسبوك وإكس ويوتيوب وواتساب وانستغرام، بحجة "إعادة تنظيم الفضاء الرقمي".

وسرعان ما تطور الأمر، بعد مقتل 19 متظاهرا ووقوع مئات الإصابات على يد قوات الأمن، فشملت التظاهرات والاحتجاجات مختلف فئات الشعب بمختلف المدن، وتحولت المطالب من رفع الحظر عن وسائل التواصل إلى اجتثاث الفساد ومحاسية رموزه، ثم أخذ المشهد بعدا أخطر بقيام المحتجين بحرق البرلمان والمجمع الحكومي المعروف باسم "سينغا دربار" واشعال حرائق في ميادين العاصمة، وهو ما اضطر معه رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته، بعد تحمل وزير الداخلية للمسئولية الاخلاقية واستقالته، ليتبعهما عدد من الوزراء وكبار المسؤولين، وليعلن الجيش استلامه زمام الأمور مؤقتا.

بحكم موقعها الجغرافي الصعب بين الهند والصين، وفقرها وقلة مواردها، تعيش نيبال في عزلة، ونادرا ما تشغل نفسها  بالأحداث والأزمات الدولية والاقليمية. وعليه لم تستقطب اهتمام العالم إلا في مرات قليلة، منها في عام 2001 حينما شهد قصرها الملكي مجزرة دموية جماعية راح ضحيتها الملك بيراندرا وزوجته الملكة وعشرة آخرين من أفراد الأسرة المالكة، على يد ولي العهد. ومنها في عام 2008 حينما ألغت جمعية تأسيسية منتخبة النظام الملكي الذي دام حوالي 240 عاما لصالح قيام نظام جمهوري فيدرالي علماني. ومنها في عام 2006، حينما تم التوصل إلى اتفاق سلام بين الحكومة والمتمردين الماويين المدعومين من الصين.  وها هي تعود اليوم إلى الأضواء لسبب مختلف عنوانه العريض "انتفاضة الشعب ضد الفساد والمحسوبية".

وعلى خلاف ما جرى في سريلانكا وبنغلاديش من احتجاجات فوضوية، تميز احتجاج النيباليين بدرجة عالية من التنظيم، إذ شكل المتظاهرون سلاسل بشرية لحماية المنشآت الحكومية والعسكرية، مؤكدين بذلك أنهم ضد الفساد السياسي وليس ضد مؤسسات الدولة وهياكلها. كما أنهم إلتزموا برفع العلم الوطني دون أي أعلام أجنبية أو فئوية أو حزبية.

بهذه التطورات باتت نيبال في حالة عدم يقين، وبات مستقبلها السياسي مفتوحا للنقاش، كما أن قواها الناشطة دشنت حقبة جديدة من النشاط المدني مختلفة تماما عن التحركات السابقة التي هيمنت عليها فصائل سياسية معينة أو جماعات عمالية قديمة، أو قادة حزبيون متطرفون. فالتحركات الجديدة يقودها شباب متعلم يعرف كيفية استغلال وسائل السوشيال ميديا في إيصال رسالته، وفضح تجاوزات النخب السياسية واستئثار عائلاتهم وأقربائهم بثروات البلاد المتواضعة، وهو ما ساعد "جيل زد" في تشكيل وإدارة حملة استياء لدى الرأي العام ضد حكومة "شارما أولي"، خصوصا بعدما تصدت الأخيرة للاحتجاجات بحملة قمع شملت استخدام الذخيرة الحية والرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع ومنع التجول، قبل أن تكتشف الحكومة نفسها عبثية المواجهة وتلغي قراراتها حول منع وسائل التواصل الاجتماعي، أملا في تهدئة المحتجين الذين وجدوها فرصة لرفع سقف مطالبهم.

والحقيقة أن ما جرى حتى الآن في سريلانكا وينغلاديش ونيبال يؤكد جملة من الأمور المترابطة، أولها أن وعود الإصلاح التي تطلقها الحكومات المنتخبة دون أن تنفذها سريعا تؤدي إلى خيبات أمل لدى الجماهير، فتنتفض ضدها، وثانيها أن تمكين المواطنين رقميا بات إحدى وسائل تحدي وفضح ممارسات النخب السياسية، وتعبئة الجماهير وإدارتها، بل وتوثيق أي انتهاكات سلطوية غير إنسانية. وثالثها أن الشباب هم الوقود الأقوى لأي تحرك ضد اخفاقات الحكومة واستشراء الفساد والممارسات غير الدستورية، وأنهم باتوا ــ بفضل تمكنهم من الرقابة الرقمية ــ قادرين على ممارسة تأثير على السلطة. وأخيرا فإن وسائل التواصل والاتصال الرقمية الحديثة صارت قوة فاعلة وضاغطة في المشهد السياسي في عموم منطقة جنوب آسيا.

ونختتم بالقول أن ما حدث في نيبال مؤخرا ليس الأول من نوعه. فمنذ إلغاء الملكية، تعيش البلاد حالة عدم استقرار سياسي، بدليل أنها جربت 16 حكومة تزعمها نفس الساسة الثلاثة: "شارما أولي" و"بوشبا كمال دال" و"شير بهادور ديوبا.




د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: سبتمبر 2025م