دوسلدورف/ أحمد سليمان العمري ـنزاع إقليم «ناغورني قره باغ» وهي جمهورية «أرتساخ» غير معترف بها دولياً، ذات الأغلبية الأرمينية. طالبت باستقلالها عن أذربيجان والانضمام إلى أرمينيا، بيد أنّ أرمينيا لم تعترف بها، تقع في منطقة «قرة باغ» في الجزء الجنوبي الغربي بمساحة 440.000 متر مربع و 145.000 نسمة، حسب إحصائية قدّمتها جريدة «تاجيس شبيجل» لهذا العام. استقلّت في 10 ديسمبر 1991م عقب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، تعيد لنا اليوم ذاكرة الحروب الطاحنة التي دارت في أوائل التسعينات بين أرمينيا وأذربيجان حول هذا الإقليم الحدودي المتنازع عليه، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 30 ألف شخص، بالإضافة إلى تشريد عشرات الآلاف، ولم تنته إلّا بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار، الذي قامت به مجموعة «مينسك» ظهرت إبّان الحرب قبل 26 عاماً لإيجاد تسوية للأزمة الأرمينية الأذربيجانية، بالعمل مع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بقيادة موسكو وباريس وواشنطن، لتوضيح بعض البنود مثل الوضع المستقبلي لمنطقة ناغورني قره باغ والمناطق السبعة الأخرى التي تحتلها أرمينيا، وعودة اللاجئين وتقديم الضمانات الأمنية لكلا الجانبين، غير أن هذا لم يتحقق طيلة السنوات الأخيرة.
عند الحديث عن هذه الحرب الطاحنة نستذكر أيضاً مجزرة «خوجالي» الوحشية والفظائع التي التي ارتكبها الأرمن في 26 فبراير/شباط 1992م بالتعاون مع القوات السوفيتية آنذاك، المتمركزة قرب مدينة «خانكندي» الأذربيجانية، والتي راح ضيحتها 613 مواطناً أذربيجانياً بين نساء وكبار السن والأطفال وتعذيب الأسرى الذين وصل عددهم إلى 1275 وما زال 150 منهم في عداد المفقودين حتى يومنا هذا، لتعدّ الأخرى واحدة من المذابح الأكثر دموية في القرن العشرين.
نحن في صدد الحديث عن صراع تعود جذوره إلى الإتحاد السوفيتي في عشرينات القرن الماضي حين تعمّدت الأخيرة في عام 1923م ضمّ الأقلية الأرمينية، وهم سكان قره باغ داخل حدود الدولة الأذربيجانية، رغم رغبة السكان للتبعية الأرمنية، وفي المقابل تبقى الأقلية الأذربيجانية في إقليم «ناختشيفان» داخل جمهورية أرمينيا. أمّا ما شكّل قنبلة موقوتة هو منح السوفيت قره باغ حكم ذاتي داخل جمهورية أذربيجان. والحرب الحالية بين الدولتين هو ما تمخّضت عنه قرارات التقسيم السوفيتي المتعمّد.
من غير المؤكد ما إذا كان وقف إطلاق النار المتفق عليه سيتم تفعيله على أرض الواقع، حيث أنّ الموقف الروسي الذي يحسم الأمر ما زال ضبابياً غير واضح، والمعضلة في هذه المعادلة هي أنّ الأخرى لديها علاقات وديّة مع كلا الطرفين المتحاربين.
كان وقف إطلاق النار ساري المفعول منذ ظهيرة يوم السبت تشرين الأول/أكتوبر، غير أنّ وزارة الدفاع الأرمينية ادّعت أنّ أذربيجان بدأت الهجوم الساعة الثانية عشر وخمسة دقائق مرة أخرى، في ذات الوقت تقريباً قال الجانب الأذري أنّ أرمينيا هاجمت مجمعات سكنية أذربيجانية على الرّغم من وقف إطلاق النار. النزاع بين الطرفين يتفاقم رغم المحادثات في موسكو.
التقى وزيرا خارجية أرمينيا وأذربيجان يوم الجمعة 9 تشرين الثاني/أكتوبر في موسكو برعاية الرئيس «فلاديمير بوتين» بناءً على دعوة من الآخر في مفاوضات استمرت قرابة إحدى عشرة ساعة. كانت هدنة وقف إطلاق النار موضع شك منذ البداية، وهذا ما كان، فقد خلّ الطرفان بالإتفاق فعلاً. الشيء المؤكد أنّ كلا الطرفين لم يقدّما أي تنازلات خلال المحادثات من أجل إحلال السّلام.
أذربيجان ترفض تقديم أي تنازلات
في هذه الحالة الهشّة من المحادثات لا يبدو أنّ الرجوع لوضع ما قبل الحرب متوقع، فمنذ ما يقارب الأسبوعين والجبهات مفتوحة بين الطرفين ممّا أدّى لسقوط مئات الجنود بينهم، وقصف الأمكان المأهولة بالسكان في المدن والقرى راح ضحيتها المدنيون من الطرفين.
في إقليم ناغورني قره باغ المحاصر وحده فرّ ما يزيد عن 70 ألف شخص من منازلهم. على مدار سنين كانت حكوماتي «باكو» و «يريفان» تعدّا نفسهما لهذا الصراع، مع تصعيد الاتهامات والتهديدات المتبادلة، ولقد صرّح الرئيس الأذربيجاني «إلهام علييف» بعدم وجود أي فرصة لتقديم تنازلات، ويجب على أرمينيا التخلّي عن ناغورني قره باغ، وأضاف يوم الجمعة قبل اجتماع وزراء الخارجية أنّه سيمنح أرمينيا فرصة لحلّ هذا الصراع سلمياً، وهي فرصتها الأخيرة، فقط عندما تقدّم «يريفان» جدولاً زمنياً لانسحابها ستوافق باكو على وقف إطلاق النار.
امّا الحكومة الأرمينية من جانبها لا تفكّر في التنازل عن الإقليم، حيث أوضح رئيس الوزراء الجديد «نيكول باشينيان» قبل عام بلهجة لم تترك أي أمل في حلّ تفاوضي بأنّ هذه المنطقة أرمينية.
بالنسبة للشعب الأذربيجاني لم يعد يؤمن بالحلّ الدبلوماسي، حيث كانت هدنة عام 1994م بوساطة روسية بمثابة هزيمة لهم، فقد انتصر الأرمن في حرب ناغورني قره باغ وطردوا الأذريين من المنطقة التي لا تزال جزءاً من أذربيجان بموجب القانون الدولي.
رفض نيكول باشينيان المشاركة في المفاوضات طالما استمر القتال، متهماً أذربيجان ببداية الحرب. ربّما كانت الأخرى هي التي بادرت في نشوب المعارك، فأرمينيا التي تسيطر على المنطقة أصلاً ليس لديها مصلحة في القتال، بينما أذربيجان التي تريد استعادة أقليمها مرجّح إقبالها على هذه الخطوة، فقد دعا في باكو جزء كبير من السكان إلى الحرب في باكورة الصيف السالف.
علّ التصعيد يخدم الرئيس علييف الذي حلّ محل والده منذ 17 عاماً، فدولته الغنيّة بالنفط تعاني اقتصادياً من انخفاض أسعار النفط. فهل أقبل على قرار الحرب ليصرف عنه المشاكل السياسية الداخلية؟
موسكو تلتزم دور الوسيط
من المحتمل أنّ قرار الرئيس الأذربيجاني للحرب يعود لأمرين أوّلهما دعم تركيا والثاني إصرار موسكو الدائم على الهدنة وعدم تدخّله في آن. الجانب الروسي يتّسم بالضبابية تجاه أرمينيا على الرغم من أنّ الأخرى شريك موسكو وعضو في نفس الحلف الدفاعي، بدلاً من ذلك يلعب بوتين حتى الآن دور الوسيط، فقد وصف في مقابلة تلفزيونية لأول مرّة يوم الأربعاء الماضي 7 تشرين الأول/أكتوبر بأنّ هذه الحرب مأساة كبيرة، وأوضح علاقة روسيا الوثيقة مع الجمهوريتين السوفيتيتين السابقتين أرمينيا وأذربيجان التزام موسكو تجاه أرمينيا، غير أنّ القتال لا يدور على الأراضي الأرمنية وبالتالي موسكو لا تشعر بالمسؤولية تجاه الإقليم المتنازع عليه.
أرمينيا دولة فقيرة من حيث السكان والجيش والعتاد وهي أضعف بكثير من الجيش الأذربيجاني، وهي بحاجة إلى روسيا في مواجهتها مع الأخرى، وهذا الاعتماد يخدم المصالح الروسية، فهي بالنهاية لن تسمح بالهزيمه الأرمينية كونها دولة حليفة، ومن غير المرجّح أن يسمح بوتين لأرمينيا بخسارة ناغورني قره باغ، في ذات الآن ليس لدى بوتين أي سبب لإتخاذ إجراء عسكري ضد أذربيجان إن لم يكن مضطراً، فروسيا لها علاقات اقتصادية جيدة مع باكو، فهي السوق الروسي لأسلحتها، ولأنّ الأخرى لم تنفصل عن موسكو على عكس الجمهوريات السوفيتية الأخرى.
بالإضافة إلى أنّ بوتين عرف إلهام علييف لفترة أطول بكثير من معرفة رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، وربما أسلوب القيادة الأذربيجانية أقرب إليه، مع وجود خلاف مع الحكومة الأرمينية الجديدة، فقد قاد باشينيان ثورة في أرمينيا وهو الآن يحاكم رئيس الدولة السابق، وهما أمران لا يحتملهما رئيس الكرملين على الإطلاق. يقول الخبير «ألكسندر باونوف» من مركز «كارنيجي» في موسكو أنّ لدى روسيا أسباب كثيرة لمساعدة أرمينيا، لكن لا يوجد سبب واحد لمعاقبة أذربيجان. وبوتين لا يرى بالجمهوريتين إلّا مناطق نفوذ روسية، ويعلّق آلية السّلام الهش والمفاوضات بشكل واضح بموسكو، لكّن السؤال الأهم في هذه المعادلة هو إلى أي مدى سيسمح بوتين للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالتدخّل في النزاع لجانب باكو؟
سبق وصرّح مدير المخابرات الخارجية الروسية «سيرجي ناريشكين» من مخاوف جنوب القوقاز التي يمكن أن تصبح نقطة انطلاق جديدة للمنظمات الإرهابية المتسلّلة إلى أذربيجان وأرمينيا والتي قد تهدّد أمن روسيا. لقد تدخّلت روسيا بالفعل في الحرب السورية بذات الحجّة. إلى متى سيستمر بوتين لعب دور المراقب؟ انتهى القتال العنيف الأخير من أجل إقليم ناغورني قره باغ في عام 2016م بعد أربعة أيام حرب طاحنة، هذه المرّة مضى أسبوعين على الإقتتال ولا توجد أي إشارة تدّل على إحلال السّلام بين الطرفين.
امّا الجانب التركي فقد وجّه رسالة من خلال السفير «بازات أوزتورك» الممثّل الدائم لتركيا لدى حلف الناتو للأمين العام للحلف «ينس شتولتنبرغ» يوم الخميس الموافق 1 تشرين الثاني/أكتوبر ردّ فيها على المذكّرة التي أرسلتها بعثة أرمينيا لدى الحلف، تناول فيها موقف تركيا من النزاع، حيث حمّل أرمينيا إساءة استخدام الحلف ومنصاته كأدوات لحملات تضليل وتشويه حقائق ضد تركيا، من خلال المذكّرة التي أرسلتها بعثة أرمينيا بتاريخ 28 أيلول/سيبتمبر، التي تضمّنت المزاعم الأرمينية حول دفع تركيا مقاتلين من سوريا إلى جانب الأذريين، لا بل ونوّه إلى التقارير التفصيلية الأخيرة بخصوص نقل أرمينيا لإرهابيي حزب العمال الكردستاني «PKK» ووحدات حماية الشعب «YPG»، وغيرهم من المقاتلين الأجانب من بعض دول الشرق الأوسط إلى منطقة ناغورني قره باغ داعياً الجميع إلى الشعور بالقلق جرّاء هذه التقارير.
ولقد أكّد على أنّ التمسك بسيادة أذربيجان وسلامتها الإقليمية في صراع الإقليم هو التزام قطعته الحكومة التركية على نفسها في مختلف مؤتمرات القمّة لحلف شمال الأطلسي.
الموقف الإيراني
الموقف الرسمي الإيراني يدعم أرمينيا لعدة اعتبارات، لا سيما بعد أن بدأت جنوب القوقاز تحظى باهتمام بعض الدول كتركيا وروسيا، بالإضافة إلى أنّ طهران لا تنظر إلى الأذريين على أنّهم شيعة كما هو الحال في لبنان وسوريا والعراق والبحرين. ويظهر أيضاً التناقض بجلاء بين تبنّي أذربيجان سياسة القومية الإثنيّة التركية وإيران الدينية الطائفية.
لقد غيّرت طهران موقفها الداعم لأرمينيا في الأسبوع الثاني من الصراع على عكس المتوقع، وقد يعود هذا التغيير إلى الضغوطات في أذربيجان وتهييج الأذريين في إيران الذي يصل تعدادهم إلى ما يقارب 16 مليون نسمة. وطالبت طهران على لسان «علي أكبر ولايتي» مستشار الشؤون الدولية للمرشد الإيراني إنهاء الاحتلال الأرميني للإقليم، وتحديداً سبعة مدن أذرية، وعودة ما يزيد عن مليون أذري نازح وحلّ القضية بشكل دائم وسلمي.
دور روسيا في الوساطة بين الطرفين بدلاً من الوقوف مع أرمينيا، كون ناغورني قره باغ ليست في الأراضي الأرمينية، بالإضافة إلى موقف إيران والتدخل العسكري التركي شكّل أداة ضغط على أرمينيا لإنهاء الصراع المستمر منذ 3 عقود، الذي أخفقت مينسك من حسمه.