الجمعة، 18 مارس 2022

دبق وهم العلاقة والتشابه بين روسيا الحالية والإتحاد السوفياتي


تقرير محمود شباط ـ

 الكثيرون من اليساريين والقوميين وبعض الشرائح الليبيرالية ما زالوا ملتصقين بدبق وهم العلاقة والتشابه بين روسيا الحالية والإتحاد السوفياتي، ولا يعلمون بأنهم يتكلمون عن نظامين يتمايزان داخلياً وخارجياً، في الاقتصاد والسياسة، وفي العلاقة مع الدول الأخرى، وعلى الأخص تعقيدات العلاقة مع إسرائيل على سبيل المثال لا الحصر. 


بتأثير من الهوى الشخصي للكثيرين، والحكم المسبق غير القابل "للعزل" ، والكره الطفولي للسياسة الأميركية والغربية بشكل عام، ما زال الكثيرون يخلطون بين التمني والواقع، يدافعون عن الرئيس الروسي بوتين بالحدة نفسها التي كانوا يدافعون فيها عن بريجينيف وغروميكو وأندروبوف، ولا يدرون بأنه منذ ذهاب الأخيرين ومجيء بوتين قد تحول الكثير من مجاري المياه تحت أرض روسيا.  


بحرص وعناية مميزين، وبدهاء أمني ممزوج بتطلعات شخصية سلطوية، أقدم بوتين حين كان يمسك بزمام المخابرات بين عامي 1998 وعام 2000، على التسلل بأولى خطواته على سلم السلطة والنفوذ والمال والهيمنة الشمولية، إذ شرع بإرساء مداميك بناء منصبه الحالي كرئيس للإتحاد الروسي عبر التركيز على ثلاثة أمور قوامها الرئيسي يتمثل بـ :  

دائرة الإمساك بمفاصل الدولة (من الناحية الأمنية – المخابراتية، والسياسية) 

- الشركات التي تملكها الدولة ( من الناحية الإقتصادية والخدماتية). 

 وشبك مصالح حيتان الشركات الخاصة المملوكة للمقربين من بوتين بمصالحه الخاصة. 

بعد أن تبوأ الرئيس فلاديمير بوتين منصب الرئاسة عام 2000 ، عمد إلى السيطرة على التلفزيون وهيمن عبر رجاله على القضاء، ما أمَّن له أكثرية مريحة في انتخابات عام 2003 في المجلسين الأعلى والتشريعي، وبعدهما في مجلس الأمن (الروسي) عبر تثبيت ثلاثة من محسوبيه من كبار الجنرالات وهم : سيرجي إيفانوف ونيكولاي بتروشيف و ألكسندر بورتنيكوف.  


بما يختص بالشركات المملوكة للدولة ، هيمن بوتين عليها مبتدئاً بعملاق الطاقة غازبروم عبر تعيين ثلاثة من أتباعه وهم إيغور سيشين وألكسي  ميلر وسيرجي شيميزنوف كمدراء تنفيذيين ، أعقبها بإحكام قبضته على القطاع العام أثناء فترة رئاسته الثانية عام 2007 بإنشاء شركات عملاقة بتمويل شكلي رخيص مدعوم من الحكومة، أي من أموال الشعب. 

بما يتعلق بالشركات الخاصة التي يمتلكها أصدقاء بوتين الأربعة المقربين : جينادي تيمشينكو، أركادي روتنبرغ، يوري كوفالشوك، و نيكولاي شامالوف فقد أمن بوتين لهم حماية قانونية لنشاطاتهم المشبوهة حيث يحق لهم شراء أصول من شركات حكومية بأسعار تقديرية وتلبية المشتريات الحكومية دون منافسة. 

وضع بوتين المريح جداً أشبه بوضع القيصر. إذ أعاد عقارب زمن الديمقراطيات إلى ما قبل عصر فصل السلطات، وركز بين يديه السلطات الثلاث : التشريعية، والتنفيذية والقضائية، ما أمن له سلطة مطلقة لحماية النشاطات غير الشرعية لأتباعه كغسيل الأموال وما شابه. 

الثلاثاء، 15 مارس 2022

مواقف آسيوية متباينة من الحدث الأوكراني


 بقلم: د. عبدالله المدني*

بُعيد غزو أوكرانيا اتجهت الأنظار إلى الأقطار الآسيوية لمراقبة ردود أفعالها والإطلاع على مواقفها من الحدث الأكثر سخونة في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. صحيح أن هذه الدول بعيدة جغرافيا عن مسارح القتال، وصحيح أنها لا تملك الكثير من النفوذ والتأثير لإنهاء الأزمة الأوكرانية غير إطلاق دعوات السلام والحوار، لكن الاهتمام بمواقفها نابع من حقيقة أنها أكثر الأمم قلقا من تكريس سابقة الإعتداء والتدخل والغزو المسلح كوسيلة لحل الخلافات، خصوصا وأن لبعضها نزاعات تاريخية مع الصين.

لا حاجة للقول أن بكين تقف في صف موسكو، نكاية بواشنطن ورغبة في أن تسرع الأزمة عملية الانتقال إلى نظام عالمي جديد، بالرغم من امتناعها عن التصويت في مجلس الأمن على قرار يدين روسيا بدلا من الإنضمام إلى موسكو في نقض القرار. أما الهند التي ترتبط بروسيا بعلاقات استراتيجية قديمة متجددة، وترتبط أيضا بعلاقات متينة مع الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة وتخليها عن الرداء الاشتراكي، فقد اشتدت عليها الضغوط من موسكو وكييف وواشنطن في اتصالات هاتفية برئيس حكومتها ناريندرا مودي قبيل جلسة مجلس الأمن كي تتخذ موقفا لصالح هذا ضد ذاك، لكنها لم تجد وسيلة أفضل للخروج من مأزق الإختيار الصعب ما بين دولتين لها فيهما مصالح كثيرة، سوى التشبه بالصين والامتناع عن التصويت. وبعد أن أفاقت على حقيقة أن الأزمة تسببت في ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي فإن اقتصادها معرض لخسائر فادحة واستقرارها المالي أمام تحد كبير على غرار ما حدث لها زمن حرب الخليج الثانية، أقدمت على إطلاق دعوات لتهدئة الأوضاع وحل الخلافات بين موسكو وكييف بالحوار ووقف التصعيد العسكري وماشابه.


في طوكيو وسيئول، كان الأمر مختلفا. فالدولتان الحليفتان لواشنطن والقلقتان من احتمالات تعرضهما لحدث مشابه، لم يكن لهما خيار سوى الإصطفاف خلف الولايات المتحدة، لاسيما بعد اطلاق تهديدات باستخدام القوة النووية التي تثير ذكريات مرة لدى اليابانيين وتثير الرعب لدى الكوريين الجنوبيين المجاورين لترسانة بيونغيانغ النووية.

دعونا نستطلع الآن مواقف دول رابطة آسيان الجنوب شرق آسيوية التي فشلت في تبني رؤية جماعية موحدة، بل فشلت أيضا في إصدار بيانات قوية واضحة، على الرغم من أن دستور الرابطة يحرم الغزو ويعتبر عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أمرًا مقدسًا. غير أن القلق كان كامنا في مواقف دولها، بسبب احتمالات أن تستفيد الصين من التركيز العالمي على أوكرانيا في تشتيت الانتباه والقيام بتصعيد في بحر الصين الجنوبي حيث تقع الجزر المتنازع عليها بين الصين وخمس من أعضاء الرابطة. هذا ناهيك عن قلقها على مصالحها الخاصة المتفاوتة مع أطراف النزاع. صحيح أنه لا موسكو ولا كييف من كبار المستثمرين في دول آسيان، لكن روسيا هي المورد الرئيسي لأسلحتها، حيث تجاوزت مبيعاتها من المعدات الدفاعية 10.7 مليار دولار أمريكي لدول المنطقة ما بين عامي 2019 و2000، أي أكثر من مشترياتها من الولايات المتحدة. كما وأن روسيا هي تاسع أكبر شريك تجاري خارجي لرابطة آسيان (في عام 2019 وحده بلغت قيمة تجارة روسيا مع دول الرابطة مجتمعة نحو 18.2 مليار دولار).

أكثر المواقف صراحة ووضوحا كان موقف سنغافورة، أصغر الأعضاء وأكثرها ثراء، والتي أصدرت وزارة خارجيتها بيانا قالت فيه: "لا لأي غزو غير مبرر لدولة ذات سيادة تحت أي ذريعة، ونعم لإحترام سيادة واستقلال ووحدة أراضي أوكرانيا"، بل أردفت ذلك بفرض عقوبات اقتصادية ومالية وتجارية على موسكو. أما أكبر الدول الأعضاء وهي إندونيسيا فقالت أن جاكرتا تشعر بالقلق إزاء تصعيد النزاع في أوكرانيا، وتدعو إلى المفاوضات والدبلوماسية والحل السلمي للنزاع بأقصى سرعة. ثم صدر موقف أندونيسي أوضح في تغريدة لرئيسها جوكو ويدودو لم يشر فيها إلى روسيا وأوكرانيا، لكنه قال أن الحرب تجلب البؤس للبشرية وتعرض العالم كله للخطر، ولها آثار بعيدة المدى على الأسواق المالية وأسواق الطاقة وتسبب اضطرابات في التجارة وسلاسل التوريد التي تؤخر عملية التعافي الاقتصادي بعد جائحة كورونا.


تميز موقف فيتنام بغموض وحذر شديد يشبه الحذر الهندي ولذات الأسباب. فهانوي هي اقرب شريك دفاعي لموسكو وأكبر مشتر للمعدات العسكرية الروسية في جنوب شرق آسيا، ويرتبط شعبها بعلاقات مع الشعب الأوكراني منذ زمن الاتحاد السوفيتي (هناك أكثر من 1400 طالب فيتنامي وحوالي 10000 فيتنامي يعيشون ويعملون في أوكرانيا). وفي الوقت نفسه تربطها علاقات متنامية مع عدوتها الأمريكية السابقة، وتتطلع إلى تطوير روابطها مع دول الغرب عموما من أجل نموها الاقتصادي، وأيضا من أجل مصالحها الأمنية ضد الصين. لذا لم يكن غريبا أن تنأى بنفسها عن اتخاذ موقف واضح وتكتفي بدعوة الأطراف المعنية إلى ممارسة ضبط النفس، وتكثيف جهود الحوار وتعزيز الدبلوماسية لإنهاء الصراع.

أما حكومة ميانمار العسكرية القمعية فاصطفت علنا مع روسيا معلنة بوضوح أن موسكو فعلت الشيء الصحيح والواجب لتعزيز سيادتها وأمنها القومي، وأن روسيا "أظهرت للعالم أنها دولة قوية في التوازن العالمي من أجل السلام". ومن المعروف أن روسيا لم تصدر اي إدانة بحق جنرالات ميانمار لإطاحتهم بالحكومة الديمقراطية المنتخبة أو لقيامهم بالقمع الوحشي ضد شعوبهم، بل دعت زعيم انقلاب فبراير 2021 المنبوذ دوليا الجنرال مين أونغ هلاينغ إلى موسكو للمشاركة في مؤتمر موسكو التاسع حول الأمن الدولي في 23 يونيو من العام الماضي.

بقية أعضاء آسيان مثل ماليزيا والفلبين وتايلاند انصب اهتمامها وتركيزها على سلامة مواطنيها المتواجدين في روسيا وأوكرانيا مع إطلاق بيانات إنشائية تعبر عن متابعتها للأوضاع في أوكرانيا بقلق بالغ، وتدعو إلى ضبط النفس.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: مارس 2022م


السبت، 5 مارس 2022

خفايا الصراع الدولي في ضوء الازمة الروسية الاوكرانية



بقلم :  سري  القدوة

من شان اي متتبع لطبيعة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا ان يخلص باستنتاج طبيعي يؤكد ان تلك الحرب وما تنطوى عليه من خلفيات كانت ضرورية جدا لتأمين الأمن القومي الروسي وهي وليدة لسلسلة من الاحداث  الأمنية القصوى بالنسبة لروسيا ومن الواضح بان العملية العسكرية كانت خيار اضطراري والتي بدأت منذ 8 سنوات من الأزمة الموجودة بأوكرانيا بعد الانقلاب عام 2014 حيث كانت روسيا تحاول العمل على حل الأزمة بالحوار ومن خلال الاتفاقيات التي حدثت وأبرزها اتفاقية مينسك، ولكن لم تكن هناك استجابة في كييف لهذه الجهود دائماً، حيث كان هناك مماطلة وموضوع تهرب من الالتزامات وكان هناك نهج قيادي في كييف في السنوات الماضية أدى إلى انفجار المسألة في الوقت الحالي .


ومن الملاحظ بان العمليات الامنية اليومية هي محدودة لديها أهداف محددة لدرء الخطر الذي يمثله وجود "الناتو" في أوكرانيا أو دخولها فيه على الأمن القومي الروسي، بالإضافة إلى حماية المواطنين الروس والذين يتحدثون بالروسية في منطقة الدونباس، هذه الأزمة لها مجموعة واسعة جداً من الأسباب أبرزها دائماً التدخل الغربي في هذه الأزمة ومحاولة تنفيذ المصالح الجيوسياسية للغرب في أوكرانيا على حساب الأمن القومي الروسي، ومن الواضح ان خطوات روسيا العسكرية جاءت لتأمين الأمن القومي الروسي وهي وليدة الضرورات الأمنية القصوى بالنسبة لروسيا .

وبات واضحا ان هناك مجموعة مصالح متفاوتة حتى بين أعضاء الناتو بموضوع الأزمة الأوكرانية، بالنسبة للقوى الأوروبية هناك تخوف دائم من روسيا وقوتها بالشرق وأن روسيا تريد السيطرة على أوروبا، أو روسيا تهدد الأمن الأوروبي بينما من الناحية الأمريكية أيضاً هناك مصالح تختلف قليلاً عن الأوروبيين وبات واضح ان المصلحة الامريكية تصب في اتجاه إطالة أمد الأزمة وبالتالي مواصلة هذا التخويف وإبطاء عملية تطوير العلاقات الأوروبية الغربية مع روسيا وانعكاسات هذا الأمر ظهرت بتعطيل "نورد ستريم 2" وتوتير العلاقات الألمانية الروسية والعلاقات الفرنسية الروسية ومجمل أوروبا الغربية .


ومن الملاحظ ايضا أنه منذ 4 أو 5 أشهر تقريباً كان الحديث في أوروبا عن فكرة إنشاء الجيش الأوروبي والخصوصية الأوروبية وعن ضرورة أن يكون هناك مزيد من استقلالية في الرأي السياسي وفي السياسات الخارجية الأوروبية في مواجهة الأميركيين كرد فعل على إفشال الولايات المتحدة الأمريكية صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا وتأسيس تحالف "أوكس" الأمني الذي رأوه الأوروبيين على أساس أنه هو إضرار بوحدة "الناتو" ووصلوا إلى التصريح بتراجع أهمية "الناتو"، وأنه بدأ يفقد مبرر وجوده هذا الأمر أدى إلى تسريع في إشعال الأزمة الأوكرانية لإعادة توحيد القوى الغربية تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية ولإبطاء وتعطيل العلاقات الأوروبية والغربية مع موسكو .

وبكل المقاييس فان المتضرر الأساسي من الأزمة هى أوكرانيا بالدرجة الأولى كدولة، لأن قيادتها لم تكن على قدر المسؤولية بإبعادها عن الاستغلال الجيوسياسي من قبل الغرب، وبالدرجة الثانية، أوروبا الغربية متضررة بشكل أساسي جداً لأنها تضر بإمدادات الغاز الروسي وبالتعاون الاقتصادي مع روسيا وبتطوير العلاقات بما يخص الأمن الأوروبي من جهة بينما الولايات المتحدة الأمريكية تحقق مكاسب من إطالة هذه الأزمة، وان المكسب الأساسي لروسيا الذي تحققه هو حفظ أمنها وأنها تقوم بنوع من الردع على الجهة الغربية من حدودها وهذا الامر يعكس تشكيل خارطة جديدة للعلاقات بين الدول .