الثلاثاء، 28 فبراير 2023

اليابان تعالج رجل آسيا المريض

 


بقلم: د. عبدالله المدني*

في زيارة رئاسية نادرة لزعيم فلبيني إلى اليابان، حل في طوكيو مؤخرا الرئيس الفلبيني بونغ بونغ ماركوس على رأس وفد ضخم من الوزراء والمسؤولين ورجال الأعمال، فيما كانت المعارضة الفلبينية وصحفها تنتقد ليس من باب الاعتراض على الزيارة أو ضخامة الوفد المرافق وإنما بسبب ولع الرئيس بالرحلات الخارجية التي بلغ عددها حتى الآن إلى تسع زيارات، على الرغم من أنه لم يمض سوى سبعة أشهر على تسلمه سلطاته الدستورية. وهو ما رد عليه ماركوس بالقول: "زياراتي تأتي ضمن أجندة جديدة للسياسة الخارجية لتكوين علاقات سياسية أوثق وتعاون أمني أقوى وشراكة اقتصادية دائمة مع دول المنطقة الكبرى، لاسيما وأننا نعيش في بيئة عالمية صعبة". 

وتأتي هذه الزيارة وسط حالة عدم اليقين التي تسود منطقة جنوب وشمال شرق آسيا بسبب القلق من سياسات واستراتيجيات العملاق الصيني. ويبدو أن ما ألح على الزعيم الفلبيني أن يشد الرحال إلى طوكيو ليس هذا السبب وحده وإنما أيضا الضائقة الاقتصادية التي تواجه بلاده المنعوتة في الأدبيات السياسية الآسيوية بـ "رجل آسيا المريض" كناية عن فشلها في الصعود تنمويا واقتصاديا ومعيشيا إلى مصاف جاراتها وشريكاتها في رابطة آسيان.

والمعلوم أن اليابان منذ أن سحبت قواتها من الفلبين على إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، ومنذ أن طبع الجانبان علاقاتهما البينية سنة 1956، ظلت من أكثر الدول الداعمة للفلبين اقتصاديا وعسكريا وتنمويا، بل خصتها بمعاملة متميزة لجهة إغداق القروض والمعونات والمنح.

من ناحية أخرى جاءت الزيارة بعد أسبوع واحد فقط من إعلان كل من واشنطن ومانيلا عن توقيع اتفاقية جديدة مكملة لإتفاقية "الوصول المتبادل" لعام 2014، والتي تسمح لواشنطن باستخدام أربع قواعد عسكرية جديدة في الفلبين ، إضافة إلى خمس قواعد سابقة تعهدت بانفاق 82 مليون دولار على تطوير بنيتها التحتية ومرافقها، وبما يتيح لها نشر قواتها على الأراضي الفلبينية للتدريب والعمليات العسكرية، وهو ما جعل المراقبين يزعمون مبكرا أن لقاء ماركوس بنظيره الياباني "فوميو كيشيدا" قد ينجم عنه اتفاقا دفاعيا مشابها او أوسع مدى.

والحقيقة أن اللقاء خيمت عليه بالفعل القضايا الدفاعية والأمنية، سعيا من الدولتين لمواجهة توسع طموحات الصين في المنطقة، لاسيما وأن لدى كليهما ملفات شائكة مع بكين حول الأراضي وحرية الملاحة والتنقيب والصيد في المياه الدولية المحاذية. وليس أدل على صحة هذه الجزئية من قول ماركوس في ختام لقائه مع كيشيدا "إن شراكتنا الإستراتيجية أقوى اليوم من أي وقت مضى، فيما نبحر معا في المياه المتقلبة في منطقتنا".

وربما، تفاديا لإثارة غضب بكين أرجأ الزعيمان الياباني والفلبيني الإعلان عن توصلهما إلى اتفاقية شبيهة باتفاقية "الوصول المتبادل RCA" بين واشنطن ومانيلا، واكتفيا بالإشارة إلى أن محادثاتهما أسفرت عن الاتفاق على إجراءات لتسريع نشر الجنود من الجانبين في إطار المساعدة الإنسانية والإغاثة في حال حصول كوارث. علما بأن اليابان أصبحت في السنوات الأخيرة شريكا أمنيا هاما للفلبين من خلال قيام الأولى بتحديث سلاح البحرية والحدود الفلبيني، والتزام الطرفين  بالتعامل مع التهديدات الجيوسياسية في منطقة المحيطين الهندي والهاديء.

غير أن هذا لا ينفي احتمالات أن يطور الجانبان هذا الاتفاق في المستقبل القريب إلى صيغة مطابقة لإتفاقية "الوصول المتبادل"، خصوصا إذا ما ألحت طوكيو التي تربطها اتفاقات عسكرية ممائلة مع بريطانيا واستراليا هدفها غير المعلن هو تطويق الطموحات الصينية، دعك مما يتردد على ألسنة الخبراء والمراقبين عن وجود نية لتشكيل "حلف شمال أطلسي آسيوي" في مواجهة العملاق الصيني.

ومن ناحية أخرى تمخضت زيارة ماركوس لليابان عن توقيع اتفاقيات عدة أخرى في مجالات البنى التحية والزراعة والتكنولوجيا والاقتصاد الرقمي، تكللت بإعلان كيشيدا أن حكومته والقطاع الياباني الخاص سيقدمان للفلبين برنامج تنمية عاجل يستمر حتى مارس 2024 بقيمة 600 مليار ين (4.3 مليار يورو). وهذا ليس بمستغرب على اليابان التي، كما أسلفنا، تعد من أكثر الدول استثمارا في التنمية الاقتصادية والصناعية للفلبين (بدليل انفاقها نحو 29 مليار دولار على مشروعات البنية التحتية الفلبينية في الأعوام الأخيرة فقط)، كما أنها الوحيدة التي وقعت مع مانيلا اتفاقية للتجارة الثنائية وأخرى للشراكة الاقتصادية، وهي من اختارت مانيلا سنة 1966 لتكون مقرا لمؤسسة مالية حكومية دولية وإقليمية رائدة ممثلة في بنك التنمية الآسيوي ADB. 



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: فبراير 2023م

الاثنين، 27 فبراير 2023

قمة العقبة بين الفلسطينيين والاسرائليين دفنت في بلدة حوارة


بقلم :- راسم عبيدات

القمة التي عقدت في العقبة يوم الأحد26/2/2023 بطلب امريكي ومشاركة السلطة الفلسطينية ودولة الكيان والأردن ومصر،بعد زيارات مكثفة من قبل وفود امريكية سياسية وأمنية،زارت دولة الكيان والسلطة الفلسطينية ومصر العراب،كان همها الأساس اولاً وعاشراً امن دولة الكيان،وصياغة تهدئة تمنع انفجار الأوضاع من بوابة الأقصى وشهر رمضان،فهذا الإنفجار وما يترتب عليه من تداعيات، قد يؤثر على الأولويات الأمريكية،حيث اولوياتها تتركز على الحرب الأوكرانية والسعي الى الحاق الهزيمة بروسيا،والملف النووي الإيراني،حيث ايران بات من شبه المؤكد أنها ستصبح دولة نووية،والصراع مع الصين،وكذلك الإنفجار وتداعياته،قد يترك تأثيراته على استمرارية حكومة الكيان التي تعيش حالة من عدم الإستقرار،وستتأثر من هذا الإنفجار دول المحيط من النظام الرسمي العربي،بلينكن في زياراته ولقاءاته مع قادة دولة الكيان وسلطة رام الله وحضور وزراء خارجية مصر والأردن الى رام الله ولقاءه بهم هناك، اصدر لهم تعليمات واضحة،عليكم العمل على جبهتي رام الله وغزة وقادة الفصائل،لمنع الإنفجار.. وفي ذروة النشاط والعمل الجاري من قبلهم،من أجل تقطيع الوقت وممارسة الضغوط على الطرف الفلسطيني ومختلف مركباته وعناوينه السياسية ،جاءت مجزرة نابلس،بعد اقدام السلطة على سحب مشروع القرار المقدم الى مجلس الأمن الدولي المتعلق بوقف الإستيطان واعتباره غير شرعي وقانوني،قرار مجلس الأمن الدولي (2334)،كانون اول /2016 ،واختزال ذلك ببيان رئاسي يصدر عن مجلس الأمن،ليس له قيمة سياسية او قانونية، الإدارة الأمريكية واصلت ضغوطها على السلطة الفلسطينية للتعاطي مع خطتها الأمنية التي سيقودها الجنرال الأمريكي فنزيل، وجوهرها يقوم على تدريب خمسة ألآلاف عنصر من عناصر امن السلطة في الأردن ومصر،وتشكيل غرفة عمليات مشتركة امنية امريكية - اسرائيلية - فلسطينية، مهمتها إستعادة السيطرة على مدينتي نابلس وجنين،وتصفية بؤر ا ل م ق ا و م ة فيها،والمهمة واضحة اما استسلام او قتل،ولإستكمال المخطط والمشروع،دعت امريكا الشركاء الى قمة في العقبة الأردنية، هدفها واحد لا تصعيد ولا انفجار من بوابة الأقصى وشهر رمضان،والإعتبار الأول والأخير لأمن دولة الكيان،دون مراعاة سياسية او قانونية لحقوق الفلسطينيين،...أثناء انعقاد القمة،جاءت عملية حوارة بقتل مستوطنين كرد طبيعي على مجزرة نابلس، وتلك القمة لم تخرج بأي نتائج عملية،سوى ضمان امن دولة الكيان،مقابل وعود فارغة تجميد مؤقت للإستيطان من 3 - 6 شهور وتخفيف للقبضة الأمنية الإسرائيلية في الضفة والقدس وتقليل عمليات الإقتحام لمناطق السلطة الفلسطينية،وحتى هذه الوعود نفاها بن غفير وسموتريتش ونتنياهو....ولم يجف حبر تلك القمة، حتى ارسل بن غفير باعتباره المسؤول عن جيش خاص به من المستوطنين،سماه بالحرس الوطني كرديف لجيش الكيان في عمليته واعتداءاته على شعبنا الفلسطيني،شكله من ما يعرف بالمتقاعدين والمستوطنين والجماعات الإرهابية "فتيان التلال" وجماعة "تدفيع الثمن" الى نابلس لكي ينفذوا مجزرة بحق اهالي حواره والقرى المجاورة ،على شكل غزوة شاملة تحرق وتدمر وتفتك وتبطش بكل من تجده في طريقها،ويأتي بن غفير،لكي يدعم ويوجه ويشرف على تلك العملية،والتي بلغت حصيلتها ش ه ي د وأكثر من 300 جريح وحرق اكثر من 55 منزل و130 سيارة،وجيش الكيان الذي يدعي فقدان السيطرة،كان يسهل مهمة تلك القطعان من الزعران ويشكل غطاء وحماية لها،وفق استراتيجية،رسمتها تلك الفاشية اليهودية منذ فوزها في الإنتخابات وتوليها مواقع مهمة في الحكومة كوزارة الأمن القومي ومسؤولية حرس الحدود والشرطة لبن غفير والإستيطان والإدارة المدنية ومنسق اعمال حكومة الكيان في الضفة الغربية لسموتريتش.


بن غفير وسموتريتش عندما خاضا الإنتخابات على اساس برنامج يدعو الى تصعيد الإستيطان في كل الضفة الغربية، بإعتبارها أرض " اسرائيل الكاملة،وكذلك  حسم السيطرة على مدينة القدس عبر الطرد والتهجير والإقتلاع والتطهير العرقي،والعمل على تغيير الطابع الديني والقانوني والتاريخي للمسجد الأقصى،وفرض قدسية وحياة يهودية فيه،وبما يتجاوز تكريس التقسيمين الزماني والمكاني،ويترافق ذلك بشن حرب شاملة على الحجر الفلسطيني وتحديداً في القدس ومناطق (جيم)،وسن قوانين وتشريعات مغرقة في العنصرية والتطرف،تطال الأسرى في سجون الكيان والأسرى المحررين من سجونه،بما في ذلك الحرب الإقتصادية،والتي تشمل السطو على  حساباتهم في البنوك ومصادرة اموالهم،واقتحام بيوتهم ومداهمتها،وسرقة كل ما يقع تحت ايديهم من اموال ومصاغ وحلي واغرض شخصية،ومصادرة مركباتهم الخاصة، ناهيك عن سن قوانين تتعلق بسحب الجنسية والإقامة المؤقتة من اسرى الداخل الفلسطيني -48 – والقدس على خلفية تنفيذهم لعمليات ضد جيش الكيان ومستوطنيه،وابعادهم الى مناطق السلطة الفلسطينية وقطاع غزة،ناهيك عن المصادقة بالقراءة التمهيدية من الكنيست على سن قانون يتيح اعدام الأسرى الذين ينفذون عمليات م ق ا و م ة ضد جيش ومستوطني الكيان.

هاجس امريكا والمجتمعين في قمة العقبة كان،تقطيع الوقت لتمرير شهر رمضان هادىء،ولذا لم يكتفوا بقمة العقبة،بل دعو لقمة اخرى في شرم الشيخ في آذار القادم ،وقبل شهر رمضان،لمعرفة وتقييم الأوضاع ومدى التقدم في محاربة السلطة لقوى ا ل م ق ا و م ة، وما حققته من تقدم في سيطرتها على مدينتي نابلس وجنين،ولكن عملية حوارة بقتل مستوطنين،والمجزرة التي ارتكبها المستوطنين المتطرفين بقيادة بن غفير،بحق بلدة حوارة- نابلس،خلطت الأوراق،وتلك القمة التي طلبتها امريكا وبحضور السلطة الفلسطينية ودولة الكيان ومصر والأردن،لصياغة تهدئة ،تمنع الإنفجار من بوابة شهر رمضان والأقصى،هذه القمة بينت بأن هذه الدول لا تملك زمام المبادرة فيها،فهي عاجزة عن منع تواصل النشاط الإستيطاني وتصاعدة،وكذلك غير قادرة على لجم توحش وتوغل المستوطنين واعتداءاتهم الإرهابية على شعبنا على طول الجغرافيا الفلسطينية وعرضها،كما حدث في حوارة،وزمام المبادرة هنا بيد الطرف الأقوى في  حكومة الكيان،الصهيونية الدينية المتزمتة،التي انتقلت من اطراف المشروع الصهيوني الى قلبه،وكذلك المبادرة بيد الجيل الصاعد من الشباب الفلسطيني،جيل ما بعد بعد اوسلو،والذين اضحوا انمذجة ورموز يقتدى بهم،والكتائب المتشكلة في جنين ونابلس وبلاطه،" ع ر ي ن ا لأ س و د " و"جنين" وغيرها،ولذلك ارى انه في ظل الحرب الشاملة التي يشنها المستوطنين على شعبنا،وما يرتكبونه من جرائم وعربدة وبلطجة ،فإن خطة مايك فنزيل،لتدريب خمسة ألالاف شرطي فلسطيني ،لكي يمكنوا السلطة من السيطرة على مدينتي نابلس وجنين ،وإستعادة الأمن فيها وتصفية بؤر وقوى ا ل م ق ا و  م ة فيها،لن يكتب لها النجاح،وإصرار السلطة على تنفيذها في ظل ما نشهد من اجرام واستباحة لمدننا وقرانا من قبل زعران المستوطنين، الذين بات لهم حواضن حزبية،ومن يمثلهم في الجيش والشرطة  والحكومة،فهذا يعني بان السلطة التي تتأكل شعبيتها وحضورها والثقة بها عند شعبنا الفلسطيني بشكل كبير،ستحفر قبرها بيدها وتعجل في سقوطها،اذا ما نفذت خطة فنزيل الأمنية،وستفتح الباب على مصرعية لفتنة داخلية فلسطينية – فلسطينية ،وتقدم خدمة مجانية لدولة الكيان وحليفتها امريكا.

الجمعة، 24 فبراير 2023

فيليب سالم في مؤتمر "الجامعة الثقافية" بالمكسيك: لبنان وطن اغتاله سياسيوه ومصمّمون على إحيائه


عقدت "الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم" المؤتمر الاستئنائي لدعم لبنان في عاصمة المكسيك، وذلك في النادي اللبناني بالمدينة (23 و24 و25 شباط الجاري). كان خطيب حفل الافتتاح الدكتور فيليب سالم الذي ألقى كلمة باللغة الإنكليزية بعنوان: "النزاعات في الشرق الأوسط والأزمة الوجودية التي تهدّد لبنان".

قال سالم، أن مأساة لبنان هي في موقعه الجغرافي بين إسرائيل وسوريا والبحر المتوسط، ووحده البحر لم يكن عدائيًا. لقد أصبح لبنان رهينة وأداةً سياسية تُستَغَلّ في ديناميات النفوذ بين القوى الإقليمية. وهذا هو أحد العوامل الرئيسية التي أدّت الى الأزمة الراهنة في لبنان الذي يتخبط في عين العاصفة، على وقع النزاع بين الغرب وايران.

المسألة الأخرى هي الثقافة الجغرافية. لبنان فريد من نوعه في الشرق الأوسط وهو مهد التعددية الثقافية حيث تتعايش ثماني عشرة طائفة دينية، وعلى رغم الحروب التي شهدتها البلاد، لا تزال المسيحية تعانق الإسلام والثقافات الشرقية تعانق الثقافات الغربية.

ورأى سالم ان الخطوة الأولى في عملية تفكّك الدولة اللبنانية كانت "اتفاقية القاهرة" عام 1969. بموجب هذا الاتفاق منح لبنان منظمة التحرير الفلسطينية مساحة من الأراضي في جنوب لبنان تستخدمها "للتدريب وللعمل الفدائي"، وكذلك منصّة لشنّ هجمات على إسرائيل. وقد شكّل هذا الاتفاق بداية الانهيار التدريجي للبنان وتقهقره من دولة سيادية الى دولة فاشلة. وهو ما دفع إسرائيل بالمقابل الى شنّ هجمات عسكرية على لبنان وصولاً الى اجتياح لبنان (1982). ومن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها منظمة التحرير ان زعيمها ياسر عرفات سيطر على المشهد السياسي في بيروت وقبض على القرارات السياسية الكبرى... وكان من العوامل التي اشعلت فتيل الحروب اللبنانية التي انطلقت في (1975) ولم تحطّ أوزارها بعد.


بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، لم تتمكن الحكومة اللبنانية من إرساء السلام في البلاد، وتوالت فصول الحروب العبثية حتى انعقاد مؤتمر الطائف في السعودية (1989) الذي أدّى الى إنهاء الحرب، لكنه فرض عاملاً أساسيًا مزعزعًا للاستقرار، وسلّم لبنان عمليًا للنظام السوري. وبدلاً من أن تساهم القوات السورية في بسط سلطة الدولة اللبنانية، عملت على بسط سلطتها على الدولة اللبنانية. حلّت سوريا جميع الميليشيات في لبنان، ما عدا ميليشيا "حزب الله" والميليشيات الفلسطينية... واستمرت الهيمنة السورية على لبنان الى حين إرغام قواتها على الخروج في العام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لم تعترف سوريا مطلقًا بلبنان كدولة مستقلة، وكان لوجودها العسكري في الأراضي اللبنانية أربعة أهداف:

1 – استخدام لبنان ورقة تفاوضية مع إسرائيل والغرب.

2 – استخدام لبنان أداة لتصفية الحسابات مع اعدائها في العالم العربي.

3 – بناء علاقات جيدة مع ايران من خلال السماح لها بإرسال العتاد والأسلحة الى "حزب الله" عبر الحدود السورية.

4 – دعم اقتصادها من خلال استخدام الاقتصاد والمصارف والرساميل اللبنانية، وكذلك من خلال استخدام الحدود مع لبنان للتهريب.

يُضاف الى جميع المشكلات التي تسببت بها سوريا أن لبنان يستضيف اليوم حوالي مليوني لاجئ سوري على أراضيه، وذلك منذ العام 2011 تاريخ اندلاع الأحداث الدامية في سوريا. أي انهم باتوا يشكلون حوالي نصف عدد اللبنانيين.


إضاف سالم، أن ايران أصبحت اليوم سمسار النفوذ الرئيسي في لبنان بسبب استراتيجيتها التوسعية في العالم العربي. لقد بات لـ"حزب الله" الذي يمثّل الذراع العسكري لإيران في لبنان، وجودًا سياسيًا وعسكريًا نافذًا، وتحوّل الى القوة المهيمنة في البلاد. التهديد المحدق بلبنان خطير جدًا، إنه تهديد وجودي بكل ما للكلمة من معنى.

ورأى سالم أن المعنى الحقيقي للبنان يكمن في "الرسالة" و"النموذج" اللذين يقدمهما بحسب ما ورد على لسان باباوات الفاتيكان. ويحتضن لبنان إيمانًا راسخًا بحقوق الإنسان وكرامته واحترام الآخر وخاصة الآخر المختلف. ولبنان هو أيضًا نموذج للتعددية الثقافية التي ترسم الطريق نحو المستقبل. أما الثقافة التي تسعى ايران الى نشرها في لبنان والشرق الأوسط فهي ثقافة أحادية من الماضي الغابر. ولم تكن ايران وإسرائيل وسوريا والفلسطينيين ليتمكنوا من ارتكاب هذه الموبقات في لبنان لولا الطبقة السياسية الفاسدة التي استعانت بالقوى الخارجية لتحقيق مصالحها واطماعها الشخصية، والتي أوصلت لبنان الى "جهنم الإنهيار".

ودعا سالم الى ضرورة إحياء "الثورة" في لبنان وتقديم دعم قوي لها. وطلب المساعدة الدولية وعقد مؤتمر خاص حول لبنان لتحقيق ضمان سيادة لبنان وحياده، واطلاق "خطة مارشال" لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية وإعادة اعمار لبنان.

وأنهى سالم كلمته بقوله: ان لبنان هو وطن اغتاله أناس من أهله، اغتاله سياسيوه... لكننا مصمّمون على انتشاله من موته. وإن لم نعمل على قيامته ستكون حياةُ الأمم عاراً علينا.

الثلاثاء، 21 فبراير 2023

القمة العالمية للحكومات حوار خلاق مستثمر للمعرفة والابتكار

 


بقلم: د. عبدالله المدني*

وسط بيئة عالمية مضطربة، ومتغيرات متسارعة، وصراعات جيوسياسية، ومخاضات عالم جديد يلد من رحم عالم قديم، وملفات لم تكن خلال العقود الماضية محل نقاش أو تأثير أو انشغال بدءا من التغيير المناخي وانتهاء بالذكاء الاصطناعي، شهدت مدينة الجميرا مؤخرا اجتماعات وحوارات وندوات القمة العالمية للحكومات التي صادفت هذا العام مرور عشر سنوات على انطلاقتها المباركة في عام 2013.

وباعتباري أحد الذين شاركوا على مدى السنوات الماضية في جميع القمم العالمية للحكومات، وبالتالي كنت شاهدا على ميلادها ونشأتها ونموها، أستطيع أن أقول بكل ثقة أن هذا المحفل العالمي استطاع تحت رعاية وتوجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وجهود رئيس القمة معالي محمد عبدالله القرقاوي وزير شؤون مجلس الوزراء أن يتحول اليوم إلى كيان حواري خلاق مستثمر للمعرفة والابتكار في عمله، ومنصة عالمية رائدة لاستشراف المستقبل وتوجيه الحكومات إلى كيفية تسخير الابتكارات التكنولوجية أواستيلاد أساليب جديدة لتحسين جودة الحياة وإيجاد حلول مبتكرة للتحديات الأكثر إلحاحا في عصرنا، وتعزيز قدرة الحكومات على استباق التغيرات الكونية المتسارعة والاستعداد المبكر لها.

هذا المحفل، الذي نجح في الارتقاء بنفسه رويدا رويدا حتى غدا اليوم محط الانظار وموضع التقدير والاحترام وبوصلة تفاؤل واستشراف، قرر في ذكراه العاشرة أن يحتفل بالمناسبة بطريقته الخاصة، فحشد هذا العام تحت مظلته نحو 10 آلاف مشارك من 150 دولة، بينهم نخبة منتقاة من قادة الدول والحكومات والمنظمات الدولية والاقليمية والوزراء والمسؤولين وصناع القرار والاكاديميين والمختصين والمفكرين ورجال الإعلام ورواد الأعمال ورؤساء الشركات العالمية الكبرى ورموز الابتكار والأفكار الجديدة. كما توخى أن تكون جلساته مكثفة (220 جلسة) ونوعية وذات محاور وعناوين جذابة مستمدة من واقع العالم المعاش وما يشغل أممه وشعوبه من تحديات آنية ومستقبلية، كالعولمة والرعاية الصحية، وتطوير أساليب التعليم، وتسريع التنمية وتصميم المدن الذكية، وأمن الطاقة والغذاء والمياه، والتوسع الحضري والحكومات الرقمية، والكفاءة الحكومية، والحوكمة والشفافية وخلق الوظائف ومواجهة الأوبئة والكوارث الطبيعية، وغيرها.


إلى ذلك اختار رئيس أكبر دولة عربية (مصر) ليكون ضيف شرف القمة وضيف جلسة حوارية خاصة للرد على كل ما يثار حول استراتيجيات حكومته، واختار رئيس أكبر ديمقراطية مسلمة من حيث عدد السكان (إندونيسيا) ليكون متحدثا عن تجربة بلاده في التعامل مع أكبر تحد وبائي واجه العالم في الأعوام الثلاثة الماضية، واختار رئيس جمهورية دولة لاتينية ناجحة على صعيد التنمية (براغواي) للتحدث عن تجربة حكومته في مواجهة تداعيات كورونا والتغير المناخي واضطرابات سلاسل الإمدادات الغذائية، وما كشفت عنه من مدى تشابك عالم اليوم، وبالتالي الحاجة الملحة إلى تعاون دولي أشمل وشراكات استراتيجية أوسع وأعمق. كما اختار إليون ماسك، شاغل الناس بصرعاته ومغامراته وتصوراته وهيامه بالذكاء الاصطناعي ليكون ضيف حوار شامل حول ما يخطط له ويتوقع حدوثه مستقبلا. ولم تغب أفريقيا عن اهتمامات القمة، بل كان لها حصة الأسد من التمثيل والحضور من أجل الإصغاء إلى مشاكلها التنموية الملحة واستعراض تجاربها الناجحة والوقوف على المخاطر التي تهددها.

وتجلت قدرة دبي في الابهار وحسن الاختيار بما وفرته على هامش القمة من فعاليات وعروض ومنصات حملت رسائل انسانية (كمشروع ميرا للشيخة فاطمة بنت محمد بن زايد لمساعدة نساء ومزارعي أفغانستان) أو رسائل تشجيع ودعم لذوي الاحتياجات الخاصة وأصحاب المشاريع الصغيرة من خلال عرض أعمالهم (كمشروع الشيف الإماراتية الصغيرة عائشة العبيدلي ذي الأربعة عشر ربيعا)، أو رسائل وفاء وتذكير بالماضي (كحفل استعادة ذكرى زيارة السيدة أم كلثوم لأبوظبي عشية استقلال الدولة بدعوة من مؤسسها وبانيها الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه)، أو رسائل تحفيز وتنويه وتقدير (كاستعراض مركز محمد بن راشد للابتكار الحكومي لأبرز التجارب الحكومة الخلاقة من مختلف دول العالم من بين 1084 مشاركة من 94 دولة).


ومما لا شك فيه أن حكومة دبي، راكمت على مدى الأعوام الماضية تجربة فريدة في استقبال مثل هذا الحشد الهائل من المشاركين، وتنظيم وإدارة هذا الكم الكبير من الندوات والجلسات المتنوعة، معطوفة على قدرة استثنائية لجهة إنجاح القمة والسير بها نحو أهدافها النبيلة التي لا تتضمن ــ بطبيعة الحال ــ حل مشاكل العالم، وإنما توفير المناخ الصحي لتلاقح الأفكار وتبادل المرئيات والتجارب والخبرات واستشراف الحلول لمستقبل أفضل وحياة أكثر أمنا وسلاما وازدهارا لسكان المعمورة. فأزمتنا ــ كما لخصها ذات يوم سمو الشيخ محمد بن راشد ــ ليست أزمة موارد بقدر ما هي أزمة إدارة، والشق الأخير يكمن علاجه في التعاون وتبادل الخبرات واكتساب المعارف والأساليب العصرية.

ومما لا شك فيه أيضا أن أحد أسباب نجاح هذه المنصبة العالمية المحفزة واستمرارها وتطورها عاما بعد عام يعزى إلى ما حققته دولة الإمارات العربية المتحدة بصفة عامة وما حققته دبي بصفة خاصة من انجازات مدهشة ليس على صعيد التنمية وتطوير البني التحية المتينة فحسب وانما أيضا على صعيد التعليم والتدريب والابتكار والإدارة وتمكين المرأة والاهتمام بالطاقات الشبابية الخلاقة، وغير ذلك من مظاهر تنحني لها الجباه فخرا واعتزازا.

إن قصص النجاح في منطقة الخليج العربي تتوالى، وباتت تشكل بوصلة للأمم الأخرى التي تطمح للخروج من كبواتها وفشلها إلى آفاق النهضة والإزدهار. وإذا كانت دبي تمثل بحد ذاتها تجربة نجاح وإلهام فريدة ومتميزة في العالم العربي، فإن نجاحها في تنظيم إكسبو 2020، ونجاح قطر في تنظيم مونديال 2023، ونجاح البحرين في تنظيم سباقات بطولة العالم للفورمولا 1 منذ عام 2004، ونجاح السعودية في تنظيم رالي داكار، هي سلسلة متتالية من النجاحات الخليجية تكللت هذا الشهر بنجاح دبي، سيدة الابتكارات والنجاحات والحلول، في تنظيم القمة العالمية للحكومات في دورتها العاشرة بوفودها الحاشدة وجداول أعمالها المكتنزة، وضيوفها المميزين، ومحاورها الجاذبة.



د.عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: فبراير 2023م


السبت، 18 فبراير 2023

تأثير انهيار "مجموعة أداني" على الاقتصاد الهندي


بقلم: د. عبدالله المدني*

 تتضخم ثروات بعض رجال الأعمال إلى أرقام فلكية، بحيث يؤدي أدنى هزة فيها إلى مخاطر على اقتصاد وسمعة وطن بأكمله. وما حدث مؤخرا في الهند، ربما يصلح كمثال على ذلك. 

ففي أواخر شهر يناير الماضي تناقلت وكالات الأنباء خبرا عن انهيار القيمة السوقية لأسهم "مجموعة أداني Adani Group" الهندية بنحو مائة مليار دولار. والمجموعة المذكورة يملكها المليادير الهندي غوتام أداني وهي عبارة عن تكتل من ست شركات كبرى تعمل بقطاعات تتراوح ما بين الطاقة والنقل والتأمين وتطوير البنية التحتية وتشغيل أكبر موانيء ومطارات البلاد.

ومذاك راح المراقبون والصحافة المحلية والعالمية المعنية بالشؤون الاقتصادية تتحدث عن آثار الحدث، ليس على إقتصاد الهند وموقعه ضمن اقتصاديات العالم الكبرى فحسب، وإنما أيضا على المستقبل السياسي لحزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم في نيودلهي وحظوظ رئيس الوزراء "ناريندرا مودي" في الانتخابات العامة القادمة سنة 1924، خصوصا وأن غوتام أداني يعد من أقرب الأثرياء الهنود إلى مودي كونهما ينحدران من ولاية واحدة (غوجارات الغربية)، ناهيك عن أن الرجلين يتعاونان ضمن استراتيجيتين متوازيتين هدفهما تطوير الاقتصاد الهندي البالغ قيمته نحو 3.2 تريليون دولار.

بدأت حكاية انهيار المجموعة في سوق الأسهم منذ أن نشرت شركة "هندنبرغ" (Hindenburg) للأبحاث، تقريراً في 24 يناير المنصرم، تتهم فيه مجموعة أداني بالاحتيال واللجوء إلى تعاملات مالية غير معلنة والتلاعب بالإيرادات للمحافظة على مظهرها وصحة وضع وحداتها التجارية المدرجة في البورصة. وعلى الرغم من قيام المجموعة بنفي تلك المزاعم، واصفة إياها بـ "مزيج خبيث من المعلومات المضللة الانتقائية والادعاءات التي لا أساس لها من الصحة والتي تم اختبارها ورفضها من قبل المحاكم العليا في الهند"، إلا أنها سارعت إلى سحب خططها لبيع أسهم بقيمة 2.5 مليار دولار.

إلى ما سبق، تسببت هذه الأخبار في انخفاض المؤشر المصرفي الرئيسي للبورصة الوطنية الهندية بنسبة 6.3%، وتأثر معنويات المستثمرين وحدوث ذعر في أوساطهم، وخروج غوتام أداني من قائمة أغنى 10 أشخاص في العالم، وفقاً لمؤشر "بلومبرغ" للمليارديرات، بعد خسارته لنحو 24 مليار دولار في تعاملات البورصة، علاوة على توقف عدد من المصارف العالمية السويسرية والأمريكية عن قبول سندات أداني كضمان للقروض، أو مطالبتها بزيادة الأسهم كضمان.

ومما لاشك فيه أن الحدث كان بمثابة خبر غير سار للزعيم الهندي القوي مودي، الذي كان يسعى إلى أن تتصدر أخبار ميزانيته السنوية الجديدة عناوين الصحف بما تتضمنه من أرقام وخطط حول تخفيض الديون ودعم الطبقة المتوسطة وتمكين المرأة، وتقليص عجز الميزانية البالغ 9.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وتسريع الترقيات الهيكلية، والإبقاء على زخم معدل النمو الحالي البالغ 7%، وذلك بغية استخدامها كورقة تضمن له التجديد والبقاء في السلطة. غير أن أخبار الهزة التي تعرضت لها مجموعة أداني طغت على بقية الأخبار، بل استخدمت من قبل أحزاب المعارضة الهندية كسلاح لتوجيه تهم الفساد إلى رئيس الحكومة عبر الإدعاء بأن غوتام أداني ما كان ليصبح أكبر مليادير في آسيا لولا علاقته الشخصية الوطيدة برئيس الوزراء.

ومن ناحية أخرى كان الحدث غير سار للهند كبلد وأمة، كونه وقع في وقت كانت فيه صحف العالم تتحدث حول تفوق الهند على جارتها اللدودة الصين في عدة مجالات حيوية مثل: نمو الناتج المحلي الاجمالي في الهند بشكل أسرع من مثيله في الصين، وانتاج الهند لشركات تقنية ناشئة أكثر من الصين، واتجاه مقاييس القوى العاملة لجهة الأداء والكفاءة ومتطلبات الوظيفة وطبيعتها وترقياتها لصالح الهند. وفي هذا السياق كتب المحلل الهندي "أوديت سيكاند" ما مفاده أن الاتهامات الموجهة لمجموعة أداني، سواء صحت أو لم تصح، قد أحدثت ضررا ربما سيدفع بعض المستثمرين إلى إعادة تقييم توقعاتهم حول عائداتهم من الإقتصاد الهندي والتساؤل عن حوكمة الشركات في الهند.

أما ردة فعل الحكومة الهندية على ما حدث فقد ورد في تصريح لوزير التكنولوجيا والسكك الحديدية "أشويني فايشناو" لتلفزيون بلومبيرغ أكد فيه على أن اقتصاد بلاده سيصمد أمام الهزة، وأن تأثيرها على أسواق الأسهم سيكون قصيرا ومحدودا، مضيفا أن "الهند لديها مجموعة واسعة جداً من شركات البنية التحتية.. ومهما كانت الهزة الذي تشهدها سوق الأسهم، فإنَّها لن تؤثر على الاقتصاد الكلي"، ومفندا المبالغات التي راحت بعيدا إلى حد مقارنة تأثير ما حدث لمجموعة أداني على الهند بالهزة الاقتصادية الآسيوية في 1997/1998. وفي رأي بعض المراقبين أنه لو أردنا مقارنة ما حدث مؤخرا في الهند بأي حدث آخر شبيه، فلن نجد أفضل (مع الفارق) من الهزة التي تعرض لها قطاع العقارات في البر الصيني والتي كان تأثيرها قصيرا ومحدودا على اقتصاد البلاد ونظامها المالي والمصرفي، رغم المخاوف التي برزت وقتها من احتمال حدوث إنهيار كلي لقطاع العقارات واإلحاق ضرر فادح بالإقتصادين المحلي والعالمي.



عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: فبراير 2023م


الثلاثاء، 7 فبراير 2023

ميانمار على شفا الانهيار الاقتصادي


د. عبدالله المدني*

ميانمار (بورما سابقا)، التي اتخذ مجلس الأمن الدولي عددا من القرار ضدها، كان آخرها قرار في ديسمبر 1922 بأغلبية 12 صوتا (امتنعت الهند والصين وروسيا عن التصويت بحجة أنها لا تفضل قرارات الإدانة وتحبذ البيانات الرئاسية الأممية بديلا)، تعيش اليوم، مع قرب حلول الذكرى الثانية لإنقلاب جيشها على الحكومة المدنية المنتخة، وضعا مزريا على كافة الأصعدة، ولاسيما على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي. 

وإذا كانت دول أخرى عديدة تمر اليوم بأوضاع اقتصادية لا تحسد عليها، فإن ميانمار تبدو على طريق الانهيار التام. فمنذ استيلاء العسكر على السلطة بصورة مفاجئة في فبراير 2021 ازدادت مستويات العنف والاضطرابات وخروقات حقوق الإنسان واستمر تدفق مواطنيها كلاجئين إلى بنغلاديش المجاورة التي تستضيف منذ عام 2017 نحو 700 ألف ميانماري. أضف إلى ذلك أن تفشي جائحة الكورونا زاد الطين بلة نظرا لضعف بنية البلاد الطبية من جهة، وعدم استجابة النظام العسكري لتداعياتها واهمال تقديم الدعم الصحي المجاني للمواطنين من جهة أخرى. 

ويبدو أن ما تنبأ به المؤرخ الميانماري المقيم في الولايات المتحدة "ثانت مين يو"، وهو حفيد الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة يوثانت، في مقال له نشرته مجلة "فورن أفيرز" الامريكية الرصينة عام 2021، من أن ميانمار دولة فاشلة ومقبلة على الانهيار، وأنها وصلت إلى قمة اللاعودة، يتحقق الآن في ظل انسداد آفاق المصالحة الوطنية جراء انعدام الثقة في العسكر، والعزلة الدولية للبلاد، وتجذر النزعة العرقية القومية، واتساع رقعة التحديات الاقتصادية والاجتماعية من تلك التي يحاول النظام العسكري مواجهتها بأساليب خطيرة مثل: الاتجار بالعقاقير المخدرة وتوسيع شبكة الاتجار بالأحياء البرية وأخشاب الغابات. 

والجدير بالذكر في السياق نفسه أن المفوضة السامية السابقة لحقوق الانسان الطبيبة التشيلية "مشيل باشليت" كانت قد قالت أثناء تقديمها ملخصا لأوضاع ميانمار خلال اجتماع الدورة 49 لمجلس حقوق الانسان بجنيف في العام الماضي أن "ميانمار معرضة بشكل متزايد لخطر الانهيار كدولة على خلفية تدهور حالة الاقتصاد والتعليم والصحة وأنظمة الحماية الاجتماعية في البلاد".

وإذا ما تفحصنا أوضاع ميانمار على الصعيد الإقتصادي، من منطلق أن أي أمة تحيا وتزدهر إذا كان اقتصادها سليما ومتعافيا، والعكس بالعكس، ستواجهنا حقائق وأرقام مثيرة من تلك  التي تعزز ما قيل عن وقوف هذه البلاد على حافة الانهيار. 

فمثلا هناك نقص حاد في النقد المتداول، وانخفاضات سريعة ومتتالية لقيمة العملة المحلية (الكيات Kyat) مقابل العملات الأجنبية الرئيسية كالدولار الأمريكي، وارتفاعات حادة في أسعار الوقود والسلع والمواد الخام المستوردة (ارتفع معدل التضخم على أساس سنوي من 5.7 بالمئة في عام 2020 إلى 19.4 بالمئة في العام الماضي). يقابلها عجز البنى التحتية عن تقديم الخدمات للمواطنين ولاسيما خدمة التيار الكهربائي التي تعاني من الانقطاعات المستمرة جراء الاشتباكات المسلحة بين الجيش والجماعات الناقمة عليه، وثبات الحد الأدنى للأجور عند ما يعادل 2.30 دولار أمريكي في اليوم دون أدنى تحسن خلافا لما كانت الحكومة المدنية قد وعدت به.

والمعروف أن ميانمار تعتمد في دخلها القومي على الاستثمارات الخارجية الآتية تحديدا من الصين وسنغافورة وهونغ كونغ، حيث كانت هذه الاستثمارات توجه في المقام الأول نحو قطاعات العقارات والطاقة والتصنيع، لكنها توقفت الآن أو تراجعت بسبب الأوضاع المضطربة وحالة اللايقين السياسي والفلتان الأمني، وإنْ إدعى المجلس العسكري الحاكم أن ميانمار "استقبلت أكثر من 1.4 مليار دولار من الاستثمارات المباشرة في الأشهر السبعة الأولى من العام المالي 2022/2023". وينطبق الشيء نفسه على  تحويلات المهاجرين من الخارج، ولاسيما أولئك الذين هاجروا للعمل في تايلاند، حيث كانت هذه التحويلات تساهم بنصيب وافر في تخفيف الأعباء المعيشية على الأسر، لكنها لم تعد اليوم كما الماضي، ما جعل معاناتها المعيشية في تفاقم، خصوصا في الأرياف حيث يعيش حوالي 70 بالمائة من سكان البلاد، معتمدين على الزراعة لكسب قوتهم.

ولا حاجة لنا للقول أن القطاع الزراعي تضرر كثيرا، ولم يعد مجالا مناسبا للعمل والدخل، بسبب الإشتباكات العسكرية والضربات الجوية ونيران المدفعية التي وضعت قيودا على حركة المزارعين ونقل محاصيلهم، بل التي استهدفت أيضا البنى الصحية والتعليمية المتواضعة أصلا، وهو ما تسبب في معاناة إضافية للسكان.

أحد مصادر الدخل القومي الأخرى هو ايرادات الغاز الطبيعي ومناجم التعدين، وهذان القطاعان تمّ استغلالهما بطريقة مكثفة وسيئة من قبل الشركات المرتبطة بالمؤسسة العسكرية طوال هيمنة العسكر على مقاليد السلطة، وخصوصا في فترات حاجة جنرالات الجيش إلى المزيد من الأموال لحاجاتهم الشخصية او لشراء الأسلحة. 

ولعل أحد أغرب تصرفات النظام هو أنه في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى كل دولار لتحسين الأوضاع الخدمية والمعيشية منعا لإنهيار منظومة الدولة ككل، نراه ينفق بشراهة على استيراد مختلف أنواع الأسلحة من طائرات حربية ومروحيات ودبابات وعربات مصفحة من مصدرين رئيسيين هما موسكو وبكين، توهما بأن تزويد الجيش بها للإستمرار في القمع هو الخيار الوحيد لإطالة عمر بقائه في الحكم. وهذا ربما يفسر مواقف قادة المجلس العسكري الحاكم المؤيدة بالمطلق لمجمل السياسات الصينية والروسية عالميا واقليميا.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يناير 2023م