بقلم: د. عبدالله المدني*
يوما بعد يوم تتكشف أبعاد الخطأ الجسيم الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية بالانسحاب من أفغانستان بطريقة فوضوية في أغسطس 2021. نقول هذا لأن الأسابيع القليلة الماضية شهدت من الأحداث الدموية والإرهابية في هذا البلد الفقير الممزق ما يؤكد أمرين أولهما أن حركة طالبان التي استولت على السلطة بمجرد مغادرة القوات الأمريكية أراضي أفغانستان غير قادرة على إدارة البلاد وضبط أمورها كما يجب. وثانيهما هو قيام الجماعات إلإرهابية المنافسة باستغلال هذا الضعف الطالباني في البروز مجددا لتحقيق مآربها وأحلامها الطوباوية، وفي مقدمة هذه الجماعات تنظيم داعش الإرهابي الذي ينشط من خلال فرعه الأفغاني المعروف باسم "الدولة الإسلامية ــ خراسان".
لقد اعتقد البعض وعلى رأسهم الأمريكان ان طالبان ستفي بتعهداتها التي وقعت عليها في الدوحة مع واشنطن حول عدم السماح لأي تنظيم إرهابي بالعمل انظلاقا من أفغانستان، لكن الشواهد تؤكد اليوم أن نظام طالبان عاجز عن الوفاء بتلك التعهدات، بدليل أن الدواعش الأفغان يزدادون قوة وجرأة في عملياتهم المتواصلة لضرب استقرار أفغانستان تمهيدا على ما يبدو لإنتزاعها من أيدي حركة طالبان والحلول مكانها، ومن ثم تحويلها إلى معقل لهم شبيه بمعقلهم الإرهابي السابق في العراق وبلاد الشام، مستغلين في ذلك الأزمات الإنسانية والاقتصادية والمعيشية والأمنية والتوترات العرقية والخلافات الداخلية في البلاد.
في السابق، ومنذ 2015، كانوا يتمركزون في إقاليم "ننغارهار" و"كونار" و"نورستان" قرب الحدود الباكستانية، وكانت هجماتهم تتركز في شرق أفغانستان، لكنهم، بعد مجيء طالبان ومغادرة القوات الأمريكية، صاروا أكثر قدرة على الحركة لتنفيذ عملياتهم الإرهابية، بل قدموا أنفسهم كحماة لبعض الأقليات العرقية المتضررة من هيمنة العرقية البشتونية الطالبانية، ما ساهم في انضمام الكثيرين من أبناء الأقليات إليهم، وبالتالي اتساع مناطق عملياتهم حتى وصلت إلى العاصمة كابول. ويكفينا تأكيدا لما نقول أن السنة الماضية شهدت كابول وغيرها من المدن الخاضعة لسلطة طالبان استهداف الدواعش لحباة قادة رفيعي المستوى في صفوف طالبان مثل رحيم الله حقاني واستهدافهم لحي شعبي في كابول تقطنه أقلية الهزارة الشيعية (يشكلون نحو 15% من الأفغان)، ثم استخدموا تقنيات التفجير وزرع الألغام والعمليات الانتحارية لقتل المزيد من رموز حركة طالبان فقتلوا رئيس مخابراتها، وتخلصوا من أحد زعمائها المحليين في "بدخشان"، ومن حاكم ولاية بلخ السابق، وفجروا مدرسة دينية شيعية بمنطقة "ندى علي"، ومسجد أبوبكر الصديق، ناهيك عن إعتداءاتهم على الأضرحة الصوفية والمساجد الملحقة بها. بعدها وجه الدواعش عملياتهم صوب المقار الدبلوماسية مثل السفارة الروسية وأبراج الكهرباء بولاية سامنجان ومشروعات البنية الحيوية والحشود البشرية في الأماكن العامة أينما كانت.
كانت تلك مجرد أمثلة بسيطة لحصيلة جرائمهم خلال العام المنصرم. اما خلال العام الجاري، وتحديدا في الأسابيع الأخيرة هزت موجة جديدة من محاولات الإغتيال ضد رموز طالبان مناطق متعددة من البلاد، مما أثار مخاوف من احتمال قيام الدواعش بمهاجمة أهداف خارج أفغانستان قريبا ومن ضمنها المصالح الأمريكية والغربية (أكد الجنرال مايكل كوريلا قائد القيادة المركزية الأمريكية في 16 مارس أن ذلك متوقع خلال 6 أشهر). ففي 9 مارس 2023 أعلن تنظيم خراسان مسؤوليته عن مقتل محمد داوود مزمل الحاكم الطالباني لولاية بلخ مع اثنين آخرين، وقبله بيوم قتل رجال التنظيم رئيبس إمدادات المياه في إقليم هرات. وفي 15 مارس قام التنظيم بهجوم فاشل على حاكم إقليم ننغرهار.
ويبدو واضحا أن الدواعش الأفغان يستهدفون من وراء بعض عملياتهم (مثل مهاجمة السفارتين الروسية والباكستانية في كابول، والهجوم على فندق في العاصمة معروف بتردد الصينيين عليه وتهديد السفارات الصينية والهندية والإيرانية والتركية) تقويض أي علاقة قد تنشأ بين طالبان وهذه الدول، واظهار حركة طالبان كسلطة عاجزة عن توفير الأمن في البلاد لمنع نيلها الإعتراف من المجتمع الدولي، والحيلولة دون حصولها على دعم من بعض الحكومات الأجنبية.
أما عمليات الإغتيال والتفجير فهدفها رفع الروح المعنوية بين أنصارها وتعزيز التجنيد ومنع الانشقاقات المحتملة من جهة، ومن جهة أخرى إثبات فاعليتها وقدرتها على النيل من الأعداء، طلبا لدعم مستمر أكبر من الجهات والتنظيمات المستفيدة من عملياتها وأفكارها الشيطانية.
على أن بعض الخبراء يرى أن ايغال الدواعش في عنفهم ضد طالبان، سيؤدي إلى تغيير مواقف بعض الدول المترددة في دعم النظام الطالباني والاعتراف به، ولاسيما تلك التي تأخذ على قادته فكرهم المتشدد، وذلك على قاعدة إختيار أهون الشرين، ومن منطلق أن داعش يشكل تهديدا أخطر للأمن الإقليمي من طالبان. وفي هذا السياق لوحظت بوادر استعداد غير رسمية للتعاون بين حكومة كابول الطالبانية وبعض الدول مثل باكستان والهند والصين وإيران، ناهيك عن روسيا التي أعرب حكومتها في وقت سابق عن قلقها من تواجد أكثر من 6000 مقاتل داعشي في أفغانستان، وهو ما نفته طالبان في حينه، قائلة أن تواجدهم ضئيل ومتركز في جيوب صغيرة نائية.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: ابريل 2023م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق