الثلاثاء، 24 سبتمبر 2024

ما بين الأحمر والأصفر، البرتقالي هو الأنسب لتايلاند


 

بقلم: د. عبدالله المدني

يتساءل الكثيرون عن أسباب صمت "حزب الشعب" التايلاندي وأنصاره، وابتعاده عن لعب دور في أحداث تايلاند السياسية التي كان آخرها تصويت البرلمان في 14 أغسطس على تسمية الشابة عديمة الخبرة "بيتونغتارن شيناواترا" (37 عاما)، المعروفة بإسم "أونغ إينغ" رئيسة للحكومة بدلا من "سريتا تافيسين" الذي تم اسقاطه قبل أن يكمل عامه الأول في السلطة بسبب صدور حكم قضائي ضده على خلفية قيامه بتعيين وزيرا مدان بالرشوة في حكومته.

وحزب الشعب، جسم جديد في الحياة السياسية التايلاندية، تأسس بهذا الإسم تيمنا بحزب عسكري قديم كان يحمل الإسم نفسه ونجح في وضع نهاية للملكية المطلقة في البلاد في عام 1932، بل هو في حقيقة الأمر بديل لحزب "التحرك إلى الأمام" الليبرالي الصغير الذي أسسه وقاده رجل الأعمال التقدمي وخريج جامعة هارفارد الأمريكية العريقة "بيتا ليمغارونرات وخاض به الانتخابات العامة الأخيرة في مايو 2024، ففاجأ الجميع بحلوله في المركز الأول وحصوله على 151 مقعدا من أصل 500 مقعد. 

غير أن توجهاته الليبرالية والتقدمية ودعواته الصريحة لبرامج إصلاحية طموحة تتعلق بإعادة هيكلة النظام السياسي جذريا وتقليص صلاحيات الملك "ماها فاجيرالونغكورن"، جعل العسكر وأنصار الملكية يرتابون فيه، فحشدوا أعضاء البرلمان الموالين لهم كي يحولوا دون حصول زعيمه ليمغارونرات على الثقه البرلمانية اللازمة لتشكيل حكومة جديدة برئاسته، بل عملوا، فوق ذلك، على إقصائه من الحياة السياسية عبر دفع المحكمة الدستورية إلى رفع قضية ضده بدعوى أنه كان مساهما في شركة إعلامية وقت خوضه انتخابات مايو 2024. وعليه أبطلت المحكمة عضويته مع مجموعة من أنصاره، وحظرت حزبه (التحرك إلى الأمام). وعلى حين انضم عدد من قادة حزبه إلى أحزاب أخرى، شكل الآخرون حزبا جديدا باسم "المستقبل". وهنا أيضا ضغط العسكر مجددا على المحكمة الدستورية لإيجاد ثغرة قانونية تحول دون ممارسة الحزب الجديد للعمل السياسي، ونجحوا في ذلك، ليتحرك أنصار ليمغارونرات ويعيدوا تشكيل حزبهم تحت إسم "حزب الشعب" بقيادة جديدة لا تضم ليمغارونرات و11 شخصية قيادية أخرى، منعت جميعها من ممارسة السياسة لعقد من الزمن.

بعد إقصاء ليمغارونرات من البرلمان ومنعه من قيادة تايلاند، ذهب منصب رئيس الوزراء لغريمه ""سريتا تافيسين" زعيم حزب "بيوا تاي" الذي حل في المركز الثاني بعده، وذلك بموافقة العسكر وأنصارهم في البرلمان، لأنهم وجدوا في هذا الحزب أهون الشرين. فحزب "بيوا تاي"، أو الواجهة السياسية لرئيس الوزراء الأسبق المليادير الفاسد "تاكسين شيناواترا" ليس سوى كيان شعبوي مناهض للملكية سرا ويرتدي أنصاره القمصان الحمراء وأغلبهم من الريفيين الفقراء المغرر بهم، ممن تسببوا سابقا في قلاقل واضطرابات واصطدامات دموية مع أنصار مؤسستي القصر والجيش الذين يميزون أنفسهم بارتداء القمصان الصفراء.

ومن هنا صارت مقولة "البرتقالي هو الأنسب لتايلاند" تتردد على ألسنة الكثيرين كخيار سياسي وسط بين "الأحمر" الذي يمثل شيناواترا وزمرته الذين أفسدوا الحياة السياسية، و"الأصفر" الذي يمثل العسكر وأنصارهم من المحافظين ممن تسببوا أكثر من مرة في انقلابات عسكرية، فأجهضوا التجربة الديمقراطية وحالوا دون استقرار سياسي طويل.

ولكي نجيب على أسباب عدم خروج أنصار حزب الشعب، الذين يقدرون بعشرات الآلاف، إلى الشوارع للإحتجاج على الظلم الذي لحق بزعيمهم المحظور من العمل السياسي حاليا، وعلى التطورات التي أعادت أسرة شيناواترا المعروفة بفسادها وطموحاتها اللامحدودة إلى السلطة، نستعين بمقابلة صحفية أجرتها صحيفة "آسيا تايمز" الصادرة في هونغ كونغ مع "ثاناثورن"، أحد قادة البرتقاليين، قالها فيها ما مفاده أن أنصاره المنضوين تحت راية حزب الشعب سوف يواصلون حملاتهم الحثيثة من أجل إصلاح النظام الملكي، لكن الوضع الحالي غير مناسب للتحرك في الشارع بسبب السيف المسلط عليهم والمتمثل في قانون "العيب في الذات الملكية" الذي يمكن أن يؤدي إلى سجن المنتقدين لمدة 15 عاما، ناهيك عن أن "هدفنا التغيير السلمي والابتعاد عن العنف"، مشيرا في هذا السياق إلى سهولة تحشييد أنصاره، ولاسيما من طلبة جامعة تاماسات في بانكوك التي لطالما لعبت أدوارا تاريخية كمعقل للتجمع ومنطلق للتظاهرات التي أسقطت أكثر من حكومة زمن الملك الراحل "بهوميبول أدولياديت". ومن الأمور الأخرى التي تطرق لها أن حزب الشعب يعد نفسه وأنصاره بتأن من أجل الفوز في انتخايات عام 2027، وأن أي فوز له وقتذاك دون تسليمه قيادة البلاد سوف يفجر الأوضاع.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: سبتمبر 2024م



الثلاثاء، 17 سبتمبر 2024

بنغلاديش .. تسليح الجيش والسياسة الدفاعية

 


بقلم: د. عبدالله المدني*

بينما تسابق حكومة البروفيسور محمد يونس المؤقتة في دكا الزمن لترتيب أوضاع البلاد بعد سقوط حكومة الشيخة حسينة واجد، تجري أحاديث ومناقشات واسعة في أوساط جنرالات المؤسسة العسكرية حول التحديات التي يواجهها الجيش البنغلاديشي لجهة التسليح والسياسات الدفاعية في مواجهة الخصوم الإقليميين، ولاسيما الجارة الميانمارية ذات السياسات العدوانية والتي اصطدم جيشها بالجيش البنغلاديشي أكثر من مرة على خلفية أزمة المسلمين الروهينغا سنة 2017.

يتساءل قادة الجيش اليوم عن مصير خطة وضعتها الحكومة السابقة لتنويع مصادر السلاح وتطوير كفاءة الجيش خلال السنوات القادمة حتى عام 2030، وعما إذا كانت الحكومة المؤقتة الحالية أو خليفتها ستلتزم بها.

والمعروف أن الجيش البنغلاديشي، الذي تأسس غداة انفصال البلاد عن باكستان سنة 1971 من بقايا ضباط وجنود الجيش الباكستاني الذين حاربو إلى جانب فكرة قيام بنغلاديش حرة ومستقلة، ومن بقايا الأسلحة الغربية للجيش الباكستاني المهزوم ومن الأسلحة السوفياتية التي زودته بها الهند، لم يجد في العقود الأخيرة مصدرا للتسليح سوى الصين لأسباب متعلقة برخص أسعار السلاح الصيني، من جهة، وعدم ارتباط تصديرها بشروط تعجيزية حول طرق السداد والإستخدام من جهة ثانية، واستعداد بكين لتلبية طلبات السلاح أملا  في توسيع نطاق نفوذها في شبه القارة الهندية وخليج البنغال والمحيط الهندي من جهة ثالثة. ولهذه صارت بنغلاديش ثاني أكبر وجهة للأسلحة الصينية على مستوى العالم، وصار ثلثا أسلحة البلاد مصدرها بكين، طبقا لأحدث بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI).

ولعل ما يثار اليوم من تساؤلات يرتبط ارتباطا مباشرا برداءة الأسلحة الصينية وعدم كفاءتها العملية في تمكين البلاد من الدفاع عن نفسها ضد الاخطار الأمنية الحالية او المستقبلية في عالم يسوده الإضطراب وعدم اليقين وفي منطقة استراتيجية يتنازع عليها الكبار، لاسيما وأن بكين تزود ميانمار بنفس الأسلحة وربما بعتاد أكثر تطورا كون الأخيرة من أقرب حليفاتها الآسيويات. ومن هنا تزايدت الدعوات بضرورة تنويع مصادر سلاح الجيش عبر الإستيراد من خارج مستودعات أسلحة التنين الصيني، أي اللجوء إلى دول كبرى معروفة بصناعة السلاح المتقدم مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، أو الاعتماد على دول اقليمية تصنع السلاح المتطور بتكنولوجيات غربية مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا والهند، أو على الأقل إعادة النظر في السياسات الدفاعية من خلال الإلتحاق بالتحالفات العسكرية الناشئة في النطاق الآسيوي. 

إلى ما سبق، هناك فكرة الإعتماد على الذات في تصنيع مستلزمات دفاعية أوسع نطاقا وأكثر تنوعا. والجدير بالذكر في هذا السياق أن بنغلاديش تفتقر إلى قاعدة صناعية دفاعية فعالة أو كبيرة، وبالتالي فإن انتاجها ظل طيلة العقود الماضية محدودا للغاية ومقتصرا على انتاج الأسلحة الصغيرة والمتفجرات والمركبات متعددة الإستخدامات بترخيص صيني. وبعبارة أخرى لم يلاحظ قيامها بتصنيع أسلحة ثقيلة مثل الدبابات وأنظمة المدفعية  والطائرات الإعتراضية والطرادات او الفرقاطات. وإن سجل لها سابقا قيامها بتطوير بعض سفن الدورية المزودة باسلحة خفيفة، من خلال أحواض بناء السفن في ميناء شيتاغونغ.

والحقيقة أن أول الأفرع العسكرية التي على صناع القرار في دكا إيلائه اهتماما خاصا، في حال البدء بتحديث وتطوير الجيش هو السلاح البحري المسنود بالطائرات القاذفة الحديثة والمروحات الهجومية. ذلك أن لبنغلاديش حدود بحرية متنازع عليها مع كل من ميانمار والهند، وهي لئن انتزعت من المحاكم الدولية المختصة في عامي 2012 و2014 أحكاما لصالحها في مواجهة هاتين الجارتين، إلا أنها تخشى حدود تطورات سلبية في المستقبل، خصوصا وأن المناطق المتنازع عليها تسيل لها لعاب قوى دولية وإقليمية أخرى بسبب ثرائها بالغاز الطبيعي والمعادن ومصائد الأسماك، هذا ناهيك عن احتضان تلك المنطقة المعقدة جغرافيا لجزيرة "سانت مارتن" ذات الأهمية الإستراتيجية الكبيرة، خصوصا مع تردد أنباء بأن واشنطن ترغب في أن تكون لها قاعدة عسكرية في سانت مارتن لمراقبة التحركات الصينية. والمعروف أن سانت مارتن تعرضت ذلت مرة لقصف من جانب ميانمار أدى إلى فصلها عن بنغلاديش، ولم تستطع الأخيرة استردادها إلا بعد عدة أسابيع حينما وصلت سفن البحرية البنغلاديشية من قواعدها البعيدة معززة بطائرات سلاح الجو العتيقة من الصناعة الروسية.

إن هذه الأمثلة والمبررات وغيرها هي التي تلح على ضرورة تحديث الجيش بسرعة مع خلق قوة بحرية متطورة قادرة على تأمين الدفاع عن أمن وإستقرار وسيادة البلاد، وهي نفسها التي دفعت بالحكومة السابقة إلى القيام بمبادرات لتنويع مصادر السلاح، شملت تسريع بعض المشتريات الدفاعية من الهند، وتوقيع خطاب نوايا مع فرنسا حول التعاون الدفاعي، والحصول من تركيا على طائرات بدون طيار وصواريخ ومدافع صاروخية، واستلام فرقاطة حديثة ومتطورة من كوريا الجنوبية، والاتفاق مع طوكيو على شراء أسلحة متنوعة من المخزون الياباني.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: سبتمبر 2024م


الثلاثاء، 10 سبتمبر 2024

تحديات التعليم المهني والتعليم الجامعي .. نموذج الصين


 بقلم : د. عبدالله المدني

تشهد دول العالم، ولاسيما الدول النامية كثيفة السكان، تحديات تعليمية تتمثل في إزدياد أعداد خريجي الجامعات والأكاديميات العالية مقابل انخفاضات مضطردة في أعداد خريجي المدارس والكليات المهنية. وفي عالم يسوده عدم اليقين واضطراب أسواق العمل وعدم تطابق مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، تشكل هذه الظاهرة المتمثلة في وجود فائض في المعروض من خريجي الجامعات ونقص في المعروض من العمالة الماهرة، خطرا على الاقتصاد الوطني واستقرار الدولة ونموها، ناهيك عن خطر تدني مستويات التعليم الأكاديمي بسبب كثافة أعداد الملتحقين بالجامعات وإزدحام الكليات بهم.

وعليه يجب على خريجي المدارس الثانوية أي يعوا ويستوعبوا حقيقة أن التعليم الجامعي لم يعد يضمن الرفاهية والحصول على وظائف مجزية وتحقيق الأحلام الوردية، وأن التعليم الصناعي والمهني هو البديل لمستقبل مشرق.

وأمامنا مثال الصين التي تفيد بياناتها التعليمية الرسمية للأعوام من 2015 إلى 2017 مثلا أن أعداد خريجي الجامعات فاقت أعداد خريجي المدارس الإعدادية والثانوية. وهذا لئن دل على وجود زيادات مضطردة لجهة أعداد الملتحقين بالتعليم العالي والمتخرجين من الجامعات، فإنه يشير  في الوقت نفسه إلى تدهور نظام التعليم العالي وجودته وتضرر خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. 

ويزداد الأمر سوءا عندما يعتقد خريجو الجامعات أن "التعليم العالي هو تعليم النخبة" فيمتنعون عن القيام بوظائف "الياقات الزرقاء" التي توفر أكثر الفرص حيوية في الصين، أو يرفضون فكرة تأهيلهم مهنيا، حتى وإنْ ضمنوا وظائف تزيد عوائدها على عوائد الوظائف الإدارية والمكتبية المريحة.

وللعلم فإن الصين شرعت منذ عام 1996 في اصدار قوانين خاصة بالتعليم المهني، حددت فيها مكانة التعليم المهني ودوره في التنمية والجهات المسؤولة عنه وطرق تمويله. وهكذا ظهرت في البلاد مدارس ومعاهد التعليم المهني على المستوى العالي (بعد الثانوية) والمستوى المتوسط (بعد الابتدائية) إلى جانب المدارس الفنية. ويعتبر التعليم المهني العالي هو أعلى درجات التعليم المهني الصيني ويضم اليوم 87 معهدا لتعليم فنون مهنية قصيرة المدة واخرى تخصصية ذات مدة أطول. أما المدارس الفنية التي يمكن الالتحاق بها بعد أي مستوى دراسي فمن مسؤولياتها اعداد الأكفاء من العاملين في الجبهة الأمامية للإقتصاد الوطني في المجالين التطبيقي والتكنولوجي. وفي عام 2022 أصدرت الحكومة الصينية نسخة جديدة من دليل تخصصات التعليم المهني، ضمت 19 فئة رئيسية و1349 تخصصا متنوعا.

غير أن التحولات التنموية والاقتصادية التي شهدتها الصين خلال العقود الماضية والتي أدت في مجملها إلى تغير في المفاهيم والقيم والتطلعات على المستوى الفردي، نجم عنها ميل رافض من قبل خريجي المراحل الثانوية للإلتحاق بالتعليم المهني، وميل رافض آخر من قبل خريجي الجامعات للإلتحاق بالوظائف المهنية. وتظهر بيانات عام 2022 أنه من بين جميع الصينيين ممن هم في سن العمل، أكمل حوالي 30 بالمائة منهم تعليمهم الثانوي، و14 بالمائة تعليمهم الثانوي الأكاديمي، و9 بالمائة فقط أكملوا تعليمهم الثانوي المهني، والسبب هو الفكرة السائدة بأن عوائد التعليم الأكاديمي العالي هناك تزيد بأكثر من 20 بالمائة مقارنة بعوائد التعليم المهني، مما يفقد التعليم المهني الجاذبية عند الشباب لصالح نيل الدرجات العلمية الجامعية.

ومن هنا قيل أن الصين ومشاريعها التنموية تواجه وضعا خطيرا بسبب النقص في العمالة الماهرة المطلوبة من جهة، ورفض خريجي الجامعات من الصينيين الالتحاق بالوظائف المهنية من جهة أخرى. ولهذا عمدت بكين في عام 2022 إلى تخصصيص نحو 3.68 مليار دولار لدعم التعليم المهني بزيادة نحو 8.5% عن العام 2021.

وبطبيعة الحال فإن عوائق كثيرة تحول دول هجرة الصينيين من حملة الشهادات الجامعية إلى الخارج للبحث عن الوظائف التي حلموا بها ولم يعثروا عليها في وطنهم، وعلى رأس هذه العوائق عامل إجادة اللغة الإنجليزية كتابة وتحدثا وقراءة ونطقا سليما، وعامل اختلاف الثقافة وقابلية التكيف السريع مع الثقافات الأخرى. ولهذا فإن السبيل الوحيد أمامهم هو القبول بالانخراط في برامج التأهيل المهني لمدد تتراوح ما بين عام أو عامين.

يمكن للصين أن تتجاوز مأزق عدم تطابق مخرجات التعليم فيها مع متطلبات السوق عبر اعتماد سياسات تعليمية وتدريبية مشابهة للمطبق في جارتها الهندية، ومنها على سبيل المثال معالجة فجوة الأجور بين الجنسين من جهة، وبين المتزوجات والعازبات من جهة أخرى، وبين الخريجين المهنيين والخريجين الجامعيين من جهة ثالثة. ومنها ايضا العمل على تغيير التصور التقليدي الشائع للتعليم المهني كخيار أدنى، بمعنى الإعلان عن التعليم المهني بشكل أكثر إيجابية وتقديم حوافز للملتحقين به مع تحسين شامل لجهة جودة المناهج وجودة بيئات التدريب ذات الصلة.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: سبتمبر 2024م



الثلاثاء، 3 سبتمبر 2024

عودة آل شيناواترا إلى السلطة في بانكوك


 بقلم: د. عبدالله المدني*

مرة أخرى تقدم عائلة شيناواترا المعروفة بطموحاتها السلطوية غير المحدودة على دفع تايلاند نحو الفوضى وعدم الإستقرار. فوصول السيدة الشابة "بيتونغتارن شينا واترا" (37 عاما)، المعروفة بإسم "أونغ إينغ" إلى رئاسة الحكومة، لا يعنى سوى أن البلاد سوف تعيش حالة من التقلب والإضطراب وعدم اليقين، خصوصا وأنها قادمة الى المشهد السياسي دون أدنى خبرة.

صحيح أن أونغ إينغ شخصية كاريزمية ومعروفة في عالم العقارات والفنادق وتلقت تعليمها في بريطانيا، إلا أنها لا تملك أي تجربة سياسية، سوى انها شاركت وهي حامل في انتخابات عام 2023 كخطيب داعم لحزب والدها المعروف باسم حزب"بيوا تاي" (حزب شعبوي مناهض للملكية ويرتدي أنصارها القمصان الحمراء وأغلبهم من الريفيين الفقراء). وهذا، بطبيعة الحال، لا يجدي نفعا في حالة بلد كتايلاند يحتاج إلى زعيم قوي ينعش الاقتصاد المتعثر ويؤمن الإستقرار الطويل ويمنع وقوع الانقلابات العسكرية.

ومن الواضح لدى عموم التايلانديين أن والدها ووالدتها كانا يعدانها بتأن للعمل السياسي ويخططان لدفعها إلى المعترك في انتخابات عام 2027، كوجه شبابي يمثل الأمل والتغيير، لكن يبدو أن العائلة قررت أن تسرع الجدول الزمني وتقحمها في العمل السياسي دون جهوزية تامة. والسبب هو القرار المفاجيء للمحكمة الدستورية التايلاندية في 14 أغسطس المنصرم باقصاء رئيس الوزراء "سريتا تافيسين" من منصبه على خلفية قيامه بتعيين وزيرا مدان بالرشوة في حكومته. وقالت المحكمة في مبررات حكمها باقصاء رئيس الوزراء بعد أقل من عام في منصبه أن الرجل انتهك المعايير الأخلاقية في تعييناته.

والحقيقة، من وجهة نظرنا، أن المحاكم التايلاندية تصدر قراراتها تحت ضغوط، عادة ما يكون مصدرها المؤسسة العسكرية أو المؤسسة الملكية. فمثلا هي التي رضخت لأوامر العسكر فأصدرت حكما ضد زعيم حزب "التحرك إلى الأمام" التقدمي السياسي الشاب "بيتا ليمجارونرات" بدعوى أنه كان مساهما في شركة اعلامية (أمر محظور بموجب قانون الانتخابات) وذلك للحيلولة دون تقلده منصب رئيس الحكومة خلفا للجنرال"برايوت تشان أوتشا"، رغم تحقيقه للمركز الأول في انتخابات مايو 2023، وهو الأمر الذي أدى تلقائيا إلى ذهاب المنصب إلى صاحب المركز الثاني وهو "سريتا تافيسين"، الذي شكل حكومة من إئتلاف 11 حزبا. وها هي نفس المحكمة تعود اليوم لتسقط الأخير بحكم قضائي. وقتها تنبأنا بأن تولي تافيسين للمنصب الأسمى في البلاد لن يدوم طويلا.

ويتذكر القراء الكرام أننا كتبنا في هذه الصحيفة في أغسطس 2023 عن اجتماعات سرية عقدت في جزيرة لانكاو الماليزية بين ممثلين عن الجيش والقصر الملكي التايلاندي والمليادير "تاكسين شيناواترا" بهدف حلحلة الوضع السياسي المتأزم في تايلاند.

وقتها قلنا: "يبدو أن صفقة قد تم التوصل إليها بين الفرقاء ملخصها أن يعود تاكسين شيناواترا إلى بلاده بعد 15 عاما قضاها في منفاه منذ الإطاحة به في انقلاب عسكري سنة 2006، ليقضي عقوبة السنوات العشر التي أصدرتها محكمة عليا بحقه في ثلاث قضايا فساد منفصلة مع تخفيفها أو إلغائها بعفو ملكي بحجة اعتلال صحته (ألغيت بعفو ملكي)، على أن يتزامن ذلك مع تسليم السلطة في البلاد إلى مرشحه سريتا تافيسين باعتباره الحائز على المركز الثاني في انتخابات مايو، وعلى أن يتعهد تاكسين بالولاء للنظام الملكي والتخلي عن شطحاته السابقة ضد الملكية".

وبالفعل عاد تاكسين إلى بانكوك في 22 أغسطس 2023 في طائرته الخاصة وهو يزين معطفه بدبوس يحمل صورة الملك "ماها فاجيرالونغكورن"، بل وسارع فور وصوله بالسجود أمام صورة لعاهل البلاد، قبل أن يقتاده ضباط الجيش إلى المحكمة. وتعليقا على الحدث كتبنا: "أن تاكسين، الذي أفسد الحياة السياسية التايلاندية بخطابه الشعبوي ورشوته لمؤيديه من الطبقات الفقيرة منذ توليه السلطة سنة 2001 وطوال سنوات وجوده في المنفى عبر تحريك أنصاره من الخارج لإحداث الفتن والاضطرابات، لم يعقد صفقة مع خصومه إلا لكي يعود وينظم نفسه من جديد من أجل الانتقام وخلق قواعد جديدة للعبة السياسية، وأنه ليس جادا في إدعاءاته بالولاء للملكية، خصوصا مع وجود مناهضين كثر للملكية في دائرته المقربة من أولئك الذين لن يقبلوا أن يتحولوا فجأة إلى حماة للعرش أو حتى أصدقاء لجنرالات أطاحوا به في 2006 ثم أطاحوا بشقيقته ينغلوك في 2014". 

وبالعودة إلى ما حدث في بانكوك يوم 14 أغسطس الفائت، نجد أن تاكسين شيناواترا، بمجرد أن علم بسقوط حليفه وشريكه "سيريتا تافيسين"، تدخل لضمان حلول ابنته مكانه، من أجل تفادي انهيار التحالف الحاكم الذي يضم خليطا غريبا من الأعداء والأصدقاء. وهو بهذا العمل انتهك احد شروط العفو الملكي بعدم توجيهه البرلمان والحكومة من خلف الكواليس.

ومن هنا يرى المراقبون أن صفقة جزيرة لانكاو قد ماتت، وبالتالي فإن المؤسسة الملكية ومن ورائها المؤسسة العسكرية والأحزاب المحافظة ستسعى إلى تعطيل مشاريع أونغ إينغ، لاسيما تلك المتعلقة بتبييض صفحة والدها وعمتها المنفية كليا ونهائيا)، خصوصا وأن القصر لديه ما يستخدمه ضدها وهو تعليقات أدلت بها خلال حملات انتخابية العام الماضي حول إصلاحات قانون العيب في الذات الملكية (قانون يحمي الملك والملكة والوصي وولي العهد من النقد ويعاقب المتجاوز بالسجن لمدة 15 عاما).



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: نهاية أغسطس 2024م