بقلم: د. عبدالله المدني
منذ اندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية، انتشرت تقارير كثيرة من مصادر مختلفة مفادها أن بكين ستقتدي بموسكو وتغزو تايوان التي تعتبرها إقليما منشقا، خصوصا وأن الزعيم الصيني "شي جينبينغ" تعهد مرارا بإعادة توحيدها مع البر الصيني حتى لو لزم الأمر استخدام القوة.
وفي الأسبوع الماضي، أقدمت بكين على مدى يومين بإجراء ما يمكن وصفه بأضخم مناورات عسكرية في مضيق تايوان، تحت إسم "السيف المشترك"، وبمشاركة أعداد كبيرة من السفن الحربية والمقاتلات الهجومية والمسيرات.
حبس العالم أنفاسه خوفا من اندلاع حرب جديدة في هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية، وراح بعض المراقبين إلى التأكيد بأن الصين عازمة هذه المرة على غزو شامل لأراضي تايوان، منتهزة انشغال الولايات المتحدة بحرب أوكرانيا وأوضاع الشرق الأوسط وانتخاباتها الرئاسية. ولعل ما زاد من المخاوف هو قيام الحكومة والمنظمات التايوانية بنشر "دليل الدفاع المدني" بكثافة، متضمنة تعليمات ونصائح مشددة حول كيفية التصرف في حال حدوث غزو عسكري صيني.
ولم تنقطع سيل التنبؤات والتحليلات والتحذيرات، إلا بعد اختتام الصينيين لمناورتهم التي تبين أنها كانت عقابية وتحذيرية ضد زعماء تايوان ورموز حزبها الحاكم (الحزب الديمقراطي التقدمي) المعروفين بتوجهاتهم الإنفصالية واستفزازاتهم المتكررة لبكين. وكان آخر هذه الاستفزازات ما بدر من رئيس تايوان الجديد "لاي تشينغ تي" (أنتخب في يناير 2024)، أذ تعهد قبيل المناورات بأيام قليلة بمقاومة أي عملية لضم بلاده الديمقراطية إلى الصين الشيوعية، قائلا أن تايوان ليست تابعة للأخيرة.
في بيان انتهاء المناورات قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية أن بلاده مستعدة للعمل من أجل إعادة التوحيد سلميا، لكنها لا تعد بعدم استخدام القوة ولن تعطي أدنى مساحة لأولئك الساعين من أجل استقلال تايوان.
والمعروف أن المناورات الصينية العسكرية في مضيق تايوان تكررت خلال السنوات القليلة الماضية، بل شهد العام الجاري وحده أربع مناورات كان آخرها في مايو المنصرم. لكن المناورة الأخيرة في 14 أكتوبر كشفت عن استراتيجيات جديدة لبكين. ذلك أن التركيز فيها كان على قوة سلاح البحرية مع مشاركة واسعة لقوات خفر السواحل تحديدا، وتدريبات مكثفة على أعمال التفتيش ومحاصرة المواني والطرق البحرية وقطع السبل على أي تدخل اجنبي، خصوصا وأن بكين استخدمت فيها السفينة الضخمة (CCG 2901) ذات المميزات الكثيرة في حالات اصطدام السفن ببعضها أو إعاقتها، علما بأنها هي الأكبر في سلاح خفر السواحل، ويفوق وزنها وثقلها وزن أثقل المدمرات الأمريكية.
وهذا أوحى للكثيرين بأن المناورات الأخيرة لم تكن سوى بروفة لإستراتيجية صينية جديدة حيال تايوان. وبعبارة أخرى هي بروفة مستقبلية لإستعادة تايوان بالإعتماد على فرض حصار بحري شامل حولها لقطع وارداتها وصادراتها وخنقها اقتصاديا، بدلا من استراتيجية الغزو عن طريق الإنزال الجوي والبري. والمعروف، في هذا السياق، هو أن معظم المراقبين الغربيين اعتقدوا طويلا بأن الصين سوف تسعى لضم تايوان بتوجيه ضربة مفاجئة لها وبطريقة تمكنها من تحقيق هدفها مباشرة ودون عناء، وذلك بقطع رأس القيادة في تايبيه.
وكتأكيد على استراتيجية الحصار بدلا من الغزو المباشر قالت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية الحكومية أن السفينة GCC والقطع التابعة لها سوف تكثف من وتيرة أنشطتها حول تايوان، معلنة بذلك عزم بكين على منحها دورا أكبر في الجهود الصينية الرامية للضغط على تايبيه والتايوانيين. ثم جاء تصريح متحدث باسم الجيش الأحمر ليعزز هذا التأكيد بقوله أن الغرض من المناورات الأخيرة هو تحقيق وضع يتم فيه تثبيت (حصار) جزيرة تايوان المنشقة من كل الجوانب، شاملا قطع وارداتها وإقامة حائط صد ضد أي تدخل أجنبي يأتي من الشرق (أي من الولايات المتحدة).
ويرى المراقبون أن بإمكان بكين استعادة تايوان بقصف عسكري مفاجيء كما قلنا، لكن استراتيجية الحصار يسمح باخضاعها دون خسائر بشرية ومادية هائلة ودون الدخول في مواجهة عسكرية شاملة ومكلفة مع الولايات المتحدة، لاسيما وأن القوة البحرية الصينية تستطيع بتكتيكاتها الحصارية أن تبقي أساطيل واشنطن القادمة لنجدة تايوان في حالة من عدم اليقين حول قواعد الاشتباك لأشهر او ربما لسنوات، تكون خلالها الأوضاع قد تغيرت.
ومن الواضح هنا، أن بكين تراهن على الزمن في شل الاقتصاد التايواني المعتمد بنسبة 98% على الخارج في واردات الطاقة، كما أنها تراهن على تعميق الانقسام السياسي الراهن في تايوان، حيث أن نسبة كبيرة من التايوانيين هم من أنصار الحزب القومي (الكومينتانغ)، الذي أسس وأدار البلاد لعقود طويلة بقيادة الماريشال تشانغ كاي تشيك، ويتبنى حاليا فكرة ان تايوان جزء من الصين، ويفضل إقامة علاقات جيدة مع بكين، ويعارض فكرة إعلان الإستقلال التي يتبناها الحزب الحاكم، لاسيما وأنه يملك الصوت الأعلى في المجلس التشريعي لتايوان.
غير ان أي حصار طويل لتايوان من قبل بكين يعتبر سلاحا ذا حدين، فهو لئن افترضنا أنه يحقق للصينيين ما يتطلعون إليه بأقل الخسائر، إلا أنه مكلف نفسيا ولوجستيا وقد يستدعي فرض عقوبات ومقاطعة تجارية مشددة ضد الصين من قبل أركان المجتمع الدولي، وحتى دون صدور قرار من مجلس الأمن الذي لو أصدر شيئا من هذا القبيل لأسقطته بكين فورا بالفيتو.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أكتوبر 2024م