الثلاثاء، 29 أكتوبر 2024

ماذا وراء تحركات الصين الأخيرة ضد تايوان؟


 

بقلم: د. عبدالله المدني

منذ اندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية، انتشرت تقارير كثيرة من مصادر مختلفة مفادها أن بكين ستقتدي بموسكو وتغزو تايوان التي تعتبرها إقليما منشقا، خصوصا وأن الزعيم الصيني "شي جينبينغ" تعهد مرارا بإعادة توحيدها مع البر الصيني حتى لو لزم الأمر استخدام القوة.

وفي الأسبوع الماضي، أقدمت بكين على مدى يومين بإجراء ما يمكن وصفه بأضخم مناورات عسكرية في مضيق تايوان، تحت إسم "السيف المشترك"، وبمشاركة أعداد كبيرة من السفن الحربية والمقاتلات الهجومية والمسيرات.

حبس العالم أنفاسه خوفا من اندلاع حرب جديدة في هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية، وراح بعض المراقبين إلى التأكيد بأن الصين عازمة هذه المرة على غزو شامل لأراضي تايوان، منتهزة انشغال الولايات المتحدة بحرب أوكرانيا وأوضاع الشرق الأوسط وانتخاباتها الرئاسية. ولعل ما زاد من المخاوف هو قيام الحكومة والمنظمات التايوانية بنشر "دليل الدفاع المدني" بكثافة، متضمنة تعليمات ونصائح مشددة حول كيفية التصرف في حال حدوث غزو عسكري صيني.

ولم تنقطع سيل التنبؤات والتحليلات والتحذيرات، إلا بعد اختتام الصينيين لمناورتهم التي تبين أنها كانت عقابية وتحذيرية ضد زعماء تايوان ورموز حزبها الحاكم (الحزب الديمقراطي التقدمي) المعروفين بتوجهاتهم الإنفصالية واستفزازاتهم المتكررة لبكين. وكان آخر هذه الاستفزازات ما بدر من رئيس تايوان الجديد "لاي تشينغ تي" (أنتخب في يناير 2024)، أذ تعهد قبيل المناورات بأيام قليلة بمقاومة أي عملية لضم بلاده الديمقراطية إلى الصين الشيوعية، قائلا أن تايوان ليست تابعة للأخيرة.

في بيان انتهاء المناورات قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية أن بلاده مستعدة للعمل من أجل إعادة التوحيد سلميا، لكنها لا تعد بعدم استخدام القوة ولن تعطي أدنى مساحة لأولئك الساعين من أجل استقلال تايوان.

والمعروف أن المناورات الصينية العسكرية في مضيق تايوان تكررت خلال السنوات القليلة الماضية، بل شهد العام الجاري وحده أربع مناورات كان آخرها في مايو المنصرم. لكن المناورة الأخيرة في 14 أكتوبر كشفت عن استراتيجيات جديدة لبكين. ذلك أن التركيز فيها كان على قوة سلاح البحرية مع مشاركة واسعة لقوات خفر السواحل تحديدا، وتدريبات مكثفة على أعمال التفتيش ومحاصرة المواني والطرق البحرية وقطع السبل على أي تدخل اجنبي، خصوصا وأن بكين استخدمت فيها السفينة الضخمة (CCG 2901) ذات المميزات الكثيرة في حالات اصطدام السفن ببعضها أو إعاقتها، علما بأنها هي الأكبر في سلاح خفر السواحل، ويفوق وزنها وثقلها وزن أثقل المدمرات الأمريكية. 

وهذا أوحى للكثيرين بأن المناورات الأخيرة لم تكن سوى بروفة لإستراتيجية صينية جديدة حيال تايوان. وبعبارة أخرى هي بروفة مستقبلية لإستعادة تايوان بالإعتماد على فرض حصار بحري شامل حولها لقطع وارداتها وصادراتها وخنقها اقتصاديا، بدلا من استراتيجية الغزو عن طريق الإنزال الجوي والبري. والمعروف، في هذا السياق، هو أن معظم المراقبين الغربيين اعتقدوا طويلا بأن الصين سوف تسعى لضم تايوان بتوجيه ضربة مفاجئة لها وبطريقة تمكنها من تحقيق هدفها مباشرة ودون عناء، وذلك بقطع رأس القيادة في تايبيه.

وكتأكيد على استراتيجية الحصار بدلا من الغزو المباشر قالت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية الحكومية أن السفينة  GCC والقطع التابعة لها سوف تكثف من وتيرة أنشطتها حول تايوان، معلنة بذلك عزم بكين على منحها دورا أكبر في الجهود الصينية الرامية للضغط على تايبيه والتايوانيين. ثم جاء تصريح متحدث باسم الجيش الأحمر ليعزز هذا التأكيد بقوله أن الغرض من المناورات الأخيرة هو تحقيق وضع يتم فيه تثبيت (حصار) جزيرة تايوان المنشقة من كل الجوانب، شاملا قطع وارداتها وإقامة حائط صد ضد أي تدخل أجنبي يأتي من الشرق (أي من الولايات المتحدة).

ويرى المراقبون أن بإمكان بكين استعادة تايوان بقصف عسكري مفاجيء كما قلنا، لكن استراتيجية الحصار يسمح باخضاعها دون خسائر بشرية ومادية هائلة ودون الدخول في مواجهة عسكرية شاملة ومكلفة مع الولايات المتحدة، لاسيما وأن القوة البحرية الصينية تستطيع بتكتيكاتها الحصارية أن تبقي أساطيل واشنطن القادمة لنجدة تايوان في حالة من عدم اليقين حول قواعد الاشتباك لأشهر او ربما لسنوات، تكون خلالها الأوضاع قد تغيرت.

ومن الواضح هنا، أن بكين تراهن على الزمن في شل الاقتصاد التايواني المعتمد بنسبة 98% على الخارج في واردات الطاقة، كما أنها تراهن على تعميق الانقسام السياسي الراهن في تايوان، حيث أن نسبة كبيرة من التايوانيين هم من أنصار الحزب القومي (الكومينتانغ)، الذي أسس وأدار البلاد لعقود طويلة بقيادة الماريشال تشانغ كاي تشيك، ويتبنى حاليا فكرة ان تايوان جزء من الصين، ويفضل إقامة علاقات جيدة مع بكين، ويعارض فكرة إعلان الإستقلال التي يتبناها الحزب الحاكم، لاسيما وأنه يملك الصوت الأعلى في المجلس التشريعي لتايوان.

غير ان أي حصار طويل لتايوان من قبل بكين يعتبر سلاحا ذا حدين، فهو لئن افترضنا أنه يحقق للصينيين ما يتطلعون إليه بأقل الخسائر، إلا أنه مكلف نفسيا ولوجستيا وقد يستدعي فرض عقوبات ومقاطعة تجارية مشددة ضد الصين من قبل أركان المجتمع الدولي، وحتى دون صدور قرار من مجلس الأمن الذي لو أصدر شيئا من هذا القبيل لأسقطته بكين فورا بالفيتو.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2024م


الثلاثاء، 22 أكتوبر 2024

رحيل تاتا، عملاق الصناعة الهندية وملهم الملايين


 

بقلم: د. عبدالله المدني *

في 9 أكتوبر الجاري توفي عملاق الصناعة الهندية "راتان نافال تاتا" الذي ستتذكره الهند طويلا باعتباره شخصية كانت لأعماله الخيرية، ونهجه الشامل في مجال الصناعة والتجارة، وقيادته الأخلاقية، ورؤيته البعيدة، وتعاطفه العميق مع الآخرين، تأثير دائم وإيجابي على ملايين الهنود. ولا نبالغ لو قلنا أن تأثيره كان ملموسا وذا صدى في الهند أكثر من تأثير كافة الأحزاب والساسة الهنود. فقد ساهم في تحويل "مجموعة تاتا" من قوة هندية محلية إلى قوة عالمية عبر الإستحواذ على شركات عالمية مثل شركة الشاي البريطانية (تيتلي) عام 2000 مقابل 271 مليون جنيه إسترليني، وشركة جاغوار ولاند روفر البريطانية في 2008 مقابل 2.3 مليار دولار، وشركة دايوو الكورية لتصنيع الشاحنات عام 2004 مقابل 102 مليون دولار، وشركة الصلب الأنجلو هولندية العملاقة (كوروس قروب) عام 2007 مقابل 11.3 مليار دولار. هذا ناهيك عن قيادته في عام 2008 لمشروع السيارة الأرخص في العالم والمعروفة باسم "نانو تاتا"، والتي حققت للملايين من مواطنيه حلم امتلاك مركبة خاصة، كون سعرها لم يتعد الألفي دولار. وقد نعاه الرئيس التنفيذي لشركة غوغل العالمية "سوندار بيتشاي" قائلا: "إن تاتا ترك وراءه إرثًا تجاريًا وخيريًا استثنائيًا، وكان له دور فعال في توجيه وتطوير القيادة التجارية الحديثة في الهند، ومضيفا: "لقد كان مهتمًا بشدة بجعل الهند أفضل".

غير أن صيت راتان (إسم علم هندي بمعنى الجوهرة) تاتا لم يتأت من ذلك فقط، وإنما أيضا من توجيه أرباح مجموعته إلى العمل الخيري وإلى مجالات التعليم والبحث العلمي والرعاية الصحية ومكافحة الأمراض، علاوة على دعم الجامعات والكليات الأجنبية ذات الشهرة في تخريج الكفاءات العلمية مثل جامعة كورنيل الأمريكية التي إلتحق بها سنة 1955 لدراسة الهندسة المعمارية وتخرج منها عام 1959 ، وكذا جامعة هارفارد العريقة، وكلية لندن للإقتصاد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (IMT)، ناهيك عن تخصيصه لملايين الدولارات لإبتعاث الشباب إلى جامعات الغرب من أجل اكتساب المعارف والتخصص في العلوم الدقيقة، وذلك بهدف الإرتقاء بوطنه. ولهذا تجد في كبريات الجامعات الغربية قاعات أو مراكز تحمل إسم تاتا، ومنها "مركز تاتا للتكنولوجيا" في معهد IMT المتخصص في تقديم حلول للتحديات التي تواجه المجتمعات الفقيرة لجهة الحصول على الكهرباء والمياه النظيفة والتعليم الجيد. 

ولم يكن إنفاق مجموعة تاتا، التي تأسست قبل 156 عاما على يد جده رائد الأعمال والمشاريع "جامسيتجي تاتا"، على البحث العلمي والمعارف والتعليم غريبا. فالباحث في تاريخ الهند المعاصر سيتفاجأ بأن تاتا الجد كان أول الملبين لنداء بطل الإستقلال جواهر لال نهرو، حينما دعا كافة أثرياء الهند غداة إستقلال البلاد سنة 1947 للمساهمة المالية في دعم مشاريع البحث العلمي، إذ سارع الرجل إلى التبرع بنصف ثروته من منطلق واجبه نحو وطنه، ثم من منطلق أن ما يصرفه اليوم على الأبحاث العلمية سيعود على شركاته بالنفع مستقبلا. والمعروف أن أعمال عائلة تاتا توسعت كثيرا بعد استقلال الهند، فشملت "تاتا للصلب والفولاذ" التي لعبت دورا هاما في بناء الأمة الهندية، و"تاتا للمركبات" التي ينتشر حافلاتها في معظم دول الخليج العربية، و"تاتا للفنادق" مالكة مجموعة فنادق تاج محل الشهيرة التي افتتحت عام 1903 اول فندق في الهند مزود بالكهرباء بمدينة بومباي، و"تاتا للطيران" التي أسست شركة طيران الهند سنة 1932 (تم تأميمها عام 1953)، و"تاتا لمستحضرات التجميل" التي دشنت العلامة الهندية الشهيرة لاكمي عام 1952.

في أواخر 2012 تقاعد عن العمل بعد أن تدرج في المناصب منذ التحاقه بأعمال العائلة في 1961، موظفا في "تاتا للصلب" ثم مسؤولا عن "الشركة الوطنية للإتصالات"، وصولا إلى رئاسته لمجموعة تاتا سنة 1991 خلفا لعمه. وإبان هذه الفترة واجه تحديات جمة، خصوصا في حقبة ما قبل تحرير الإقتصاد الهندي من النهج الإشتراكي العقيم، لكنه تجاوزها بفضل فكره النير وصبره وتواضعه ودعم مواطنيه وإشادة وسائل الإعلام بأعماله الخيرية الكثيرة ورؤيته القائمة على التجديد والابتكار والتطوير والتخلص من البيروقراطية وتجديد الدماء والتركيز على عولمة أعمال مجموعته، ما جعل إرثه ملهما للملايين داخل الهند وخارجها، خصوصا وأن استراتيجياته وقيادته الماهرة لمجموعة تاتا خلال فترة ولايته التي استمرت 21 عاما نجحت في تحقيق الأرباح بأكثر من 50 ضعفا. هذا علما بأن القيمة السوقية الإجمالية لمجموعة تاتا وصلت في مارس الماضي إلى أكثر من 365 مليار دولار.

وراتان تاتا، المولود بمدينة بومباي في 1937 لعائلة بارسية تدين بالزرادشتية، عرف بعطفه على الحيوانات واهتمامه بالرفق بالحيوان، بدليل انسحابه من حفل على شرفه بقصر بكنغهام سنة 2018 بمجرد علمه بمرض كلبه الوفي، ثم بدليل إقدامه على تشييد مستشفى خاص للحيوانات على احدث طراز في بومباي (تم افتتاحه قبل وفاته بأشهر). لكنه في المقابل نجد له اسهامات كبيرة في بناء المستشفيات والمراكز الصحية لعلاج الفقراء من مواطنيه، وتأسيس مراكز أبحاث السرطان ورعاية المصابين به.

ونختتم بما قاله بيتر كيسي مؤلف كتاب "قصة تاتا" من أن جوهر فكر ونشاط الراحل هو "ربط الرأسمالية بالعمل الخيري، من خلال ممارسة الأعمال التجارية بطرق تجعل حياة الآخرين أفضل".



د.عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الهندي

تاريخ المادة: أكتوبر 2024م

الثلاثاء، 15 أكتوبر 2024

إيشيبا يستعد لقيادة يابان جديدة


 د. عبدالله المدني *

في 27 سبتمبر الفائت جرت في طوكيو معركة حامية الوطيس للفوز بزعامة الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في اليابان بين "شيجيرو إيشيبا وزير الدفاع الأسبق والسياسي اليميني المتشدد "ساناي تاكايشي". أسفرت الجولة الأولى عن حلول إيشيبا في المركز الثاني، لكن الأخير هزم منافسه في الجولة الثانية، ليصبح زعميا للحزب الذي حكم اليابان طوال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية باستثناء فترات قصيرة. وعلى الفور قرر الحزب الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة في 27 أكتوبر الجاري أي قبل موعدها المقرر بنحو عام، وقبل الانتخابات الأمريكية بشهر.

وكما هو معروف فإن زعيم هذا الحزب سوف يتولى قيادة اليابان تلقائيا خلفا لزعيمها الحالي المنتهية ولايته "فوميو كيشيدا" إذا ما فاز في الانتخابات العامة، وهو فوز ترجحه معظم الاستطلاعات، على الرغم من الأداء الضعيف لكيشيدا خلال السنتين الماضيتين منذ توليه رئاسة الحكومة في 4 اكتوبر 2021 ورئاسة الحزب الحاكم في 29 سبتمبر من العام نفسه.

يتمتع إيشيبا البالغ من العمر 67 بثقل سياسي وبمهابة وقدر كبير من الجدية والعقل الراجح، لذا يعتقد أنه سيقود اليابان بروية ودون انجراف نحو السياسات المتهورة،

ولعل أول الملفات التي سيعالجها هو الملف الأمني (شاملا الأمن السياسي والأمن الإقتصادي والأمن التكنولوجي وأمن سلاسل التوريد)، وكيفية إنشاء منظومة أمنية جماعية في المنطقة، انطلاقا مما يهدد المنطقة من تحديات جيوسياسية في ظل سياسات التوسع والهيمنة التي ينتهجها العملاق الصيني، لاسيما في هذا الوقت الذي تتراجع فيه قوة وتأثير الإلتزامات الأمريكية بأمن منطقة غرب المحيط الهاديء. 

أما ما يؤكد كلامنا فهو تصريحات إيشيبا لوسائل الإعلام والتي قال فيها ما مفاده ضرورة التفكير في الجمع بين العديد من التحالفات القائمة وبما تستطيع اليابان معها من حماية نفسها وسيادتها ومصالحها. وهكذا فإن إيشيبا لا يختلف عن كيشيدا في هذا الأمر لأن الأخير لطالما دعا إلى علاقات أمنية وطيدة مع "الديمقراطيات الشقيقية" على حد وصفه. لكن إيشيبا يرى أيضا أن السلام في مضيق تايوان يتطلاب قدرا أكبر من الردع ضد الصين وأن النموذج الأوكراني قد يتكرر غدا في شرق آسيا، وهو ما يتطلب، طبقا له، تأسيس حلف شمال أطلسي آسيوي. والمعروف أن الولايات المتحدة ومعها كوريا الجنوبية عارضتا قيام ناتو آسيوي، وفضلتا التعاون الأمني والعسكري الثنائي بين اليابان وكل من الولايات المتحدة  وكوريا الجنوبية واستراليا والهند والإتحاد الأوروبي وتكتل آسيان.

ويمكن القو أن إيشيبا الذي لم يتخرج من جامعة أمريكية وعمل في المجال المصري قبل دخول المعترك السياسي، خلافا للعديد من زملائه الحزبيين، والذي لا يتحدث الإنجليزية بطلاقة مثلهم، يبدو  مستاء من ميل واشنطون في الفترة الأخيرة نحو التهديد وفرض الصفقات حتى على حلفائها سواء اليابان أو دول حلف الناتو، لذا نراه يدعو إلى معالجة هذه الأمور ومناقشتها بجدية وصراحة مع الحليف الأمريكي.

لكن ما هو موقف بكين من القادم الجديد لقيادة اليابان؟ 

على الرغم من أن الحكومة الصينية تحاشت التعليق على انتخابه باعتيارها شأنا داخليا يابانيا، إلا أنها أعربت عن رغبتها بالعمل معه من أجل إقامة علاقات وطيدة ومستقرة. أما صحيفة غلوبال تايمز الصينية الناطقة بالإنجليزية فقد أشار معلوقها إلى أن إيشيبا، لئن كان سياسيا محافظا يدعو إلى إحتواء قدرات الصين العسكرية إلا أنه في الوقت نفسه سياسي أكثر توازنا واعتدالا من أسلافه وميال للإنخراط في حوار دفاعي مع الصين لبناء الثقة وتبديد الشكوك.

الملف الثاني الذي سيجده إيشيبا أمامه هو الأوضاع الداخلية الخاصة بتحسين الأداء الإقتصادي والتنمية الإقتصادية ومعالجة الانحدار الديموغرافي وترسيخ الشفافية ومحاربة الفساد.

وطبقا للعديد من المراقبون، فإن الرجل قادر على إحداث نوع من التغيير، دون الإخلال بالتوازن بين التغيير والاستمرار في سياسات سلفه والذي من دونه سوف يختل الإستقرار. ذلك أن زعيم اليابان الجديد يأتي إلى السلطة وقد راكم ثروة من الخبرات التي استمدها من عمله وزيرا للدفاع، ومن قبله وزيرا للزراعة والغابات ومصايد الأسماك، ووزيرا مسؤولا عن الانخفاض السكاني وتنشيط الإقتصاد، ورئيسا لمجلس أبحاث السياسات في الحزب الليبرالي الديمقراطي وأمينا عاما للحزب، ناهيك عن عمله البرلماني منذ 1986 على مدى 12 دورة نائبا عن محافظة "توتوري" الريفية الواقعة على الساحل الغربي لبحر اليابان. أما ما يعزز ذلك في نظر الفرد الياباني فهو سمعته كسياسي نظيف وملتزم بالشفافية قولا وفعلا، ولم تلوثه قط الفضائح المالية التي قوضت الدعم الذي حظيت به إدارة سلفه كيشيدا.

إن هذه العوامل مجتمعة تدعم إيشيبا في سعيه لإحداث تغييرات كبيرة في السياسات الداخلية والتغلب على تحدياتها العميقة مثل التضخم ومعاشات التقاعد والإصلاح الضريبي والشيخوخة ونقص العمالة، دون المساس كثيرا بالعلاقات الخارجية والاستراتيجيات الإقتصادية الكبرى التي رسمها سلفه ونجح فيها، لاسيما فيما يتعلق بتقوية الروابط مع كانبرا وسيئول وجاكرتا ونيودلهي والاتحاد الأوروبي والحذر من موسكو والتصدي لبكين.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2024م


الثلاثاء، 8 أكتوبر 2024

اليابان واستراليا تتجهان نحو التصنيع الحربي المشترك


 

بقلم: د. عبدالله المدني*

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية توطدت العلاقات بين اليابان واستراليا كثيرا، من منطلق وجود مصالح مشتركة بينهما، ناهيك عن ارتباط كليهما بعلاقات استراتيجية وثيقة مع العالم الغربي خصوصا وأن استراليا تعتبر نفسها دولة آسيوية وبالتالي معنية بأمن واستقرار الأقطار الآسيوية وأمن المحيطين الهندي والهاديء. وهكذا توسعت روابطهما البينية الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية والعلمية والثقافية، حتى صارت أستراليا ثاني أكبر شريك تجاري واستثماري لليابان بعد الولايات المتحدة.

غير أن السنوات الأخيرة شهدت منحى جديدا في علاقات البلدين تمثل في تعاونهما العسكري، على الرغم من القيود العسكرية المفروضة على طوكيو منذ انتهاء الحرب عام 1945. والحقيقة أن مثل هذا التعاون لم يكن ليبرز لولا الأنشطة العسكرية للعملاق الصيني في السماوات والمياه المشاطئة على نحو ما حدث خلال شهر يوليو الفائت حينما انتهكت طائرة استطلاع صينية من نوع Y- 9 المجال الجوي الياباني، ثم ما حدث في 18 سبتمبر الجاري عندما عبرت حاملة الطائرات الصينية "لياونينغ" المياه المتاخمة لليابان، وما حدث من قبل يوم أن اخترقت سفينة مسح صينية المياه الإقليمية اليابانية قبالة محافظة "ماجوشيما" الجنوبية.

هذه الإختراقات البحرية الصينية وصفها كبير أمناء مجلس الوزراء الياباني بأنها غير مقبولة على الإطلاق وتشكل تهديدا للأمن الوطني والاقليمي، مشيرا إلى أن بكين توسعت بشكل متزايد وكثفت أنشطتها العسكرية حول اليابان في السنوات الأخيرة.

ولعل هذه الأحداث، مضافا إليها ما وقع في الآونة الأخيرة من احتكاكات ومناوشات بحرية بين الصين والفلبين، هو ما دفع وزير الدفاع الياباني "مينورو كيهارا" في سبتمير الفائت للقيام بزيارة إلى استراليا للقاء نظيره الأسترالي "ريتشارد مارلز" في ملبورن والتباحث حول التعاون المشترك في مجال الانتاج الحربي.

وفي هذا السياق ذكرت صحيفة "ماينيتشي" اليابانية أن الوزيرين ناقشا سبل التعاون العسكري المشترك في مواجهة التهديدات الصينية، واستفادة كل طرف من الطرف الآخر في مجال الأسلحة الدفاعية المتطورة، علاوة على موضوع استخدام اليابان لأراضي وبراري أستراليا الشاسعة لتجاربها الصاروخية قيد التطوير. أما الأهم من كل هذا فهو اتفاقهما على تطوير صواريخ بعيدة المدى.

والمعروف أن البلدين وقعا على عقود مع الولايات المتحدة لتزويد كل منهما بمائتي صاروخ من طراز توماهوك. وطبقا للتقارير العسكرية والدفاعية فإن اليابان تعتزم نشر هذه الصواريخ على مدمراتها المجهزة بنظام Aegis بينما تعتزم استراليا نشرها على مدمراتها من طراز هوبارت وفرقاطاتها من طراز هنتر. ومن هنا قيل أن التعاون الياباني ــ الأسترالي الجديد في مجال الانتاج الحربي المشترك سوف يركز على تطوير فاعلية ومدي صواريخ توماهوك الحالية. فهذه الصواريخ ــ طبقا لخبير الأسلحة التقليدية والنووية فابيان هوفمان ــ يمكنها في شكلها الحالي كسلاح بعيد المدى أن تخلق تأثيرات استراتيجية كبيرة في الحرب من خلال استهداف العدو وشل قدرته على المقاومة، فما بالك لو تم تطويرها. وفي رأيه أيضا أن صواريخ توما هوك، مناسبة جدا للدول التي لا تملك قوة ردع نووية، لأنها تحقق نتائج حاسمة دون الإشتباك المباشر في ساحة المعركة، وذلك من خلال تعطيل لوجستيات العدو وقيادته وقواته العسكرية.

وهذا يعني أن طوكيو وكانبرا اختارتا أن تتعاونا في صناعة أو تطوير السلاح الأنسب والأجدى من أجل الردع أو من أجل تعزيز قدراتهما الهجومية البعيدة المدى لمواجهة التهديدات الاقليمية، خصوصا وأن استراليا في حاجة للتوماهوك نظرا لإفتقارها إلى قدرات الضربة البعيدة. 

ومما يجدر بنا ذكره في هذا المقام أن الدكتور "موري ساتوري"، وهو خبير ياباني في السياسة الدولية والدبلوماسية الامريكية، ومواطنه المؤرخ وعالم السياسة "شينيتشي كيتاوكا" قالا خلال مؤتمر  مؤسسة "راند RAND" الذي انعقد سنة 2021 أن حصول اليابان على قدرات الضربة المضادة ممثلة في صواريخ توماهوك الأمريكية هو جزء من استراتيجية طوكيو الدفاعية المتطورة، مضيفين أنه من الضروري لليابان أن تمتلك، عبر التفاهم مع الحليف الأمريكي، قدرات هجومية محدودة لمواجهة الأنشطة العسكرية المتصاعدة للصين، وأنْ تخطط لإستراتيجيات "منع الوصول والحرمان من الدخول" (A2/AD)، التي تعد أداة حرب مهمة للردع، مثلما فعلت الصين منذ زمن حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت)، حينما شعرت بالقلق من انتصار الولايات المتحدة وبالتالي احتمال سعيها للهيمنة على المياه المحاذية لها، فقامت مذاك بتسريع تحديث جيشها والانفاق المكثف على عدد من العناصر ذات الصلة مثل الصواريخ بعيدة المدى وأجهزة الإستشعار الذكية والجزر الإصطناعية الصالحة لإقامة قواعد عسكرية.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2024م 


السبت، 5 أكتوبر 2024

مؤسسة المطران ميخائيل الجَميل للحوار تستغرب الصمت الدولي حيال ما يتعرض له لبنان


استغربت مؤسسة المطران ميخائيل الجَميل للحوار والثقافة، الصمت الدولي حيال ما يتعرض له لبنان من تدمير متواصل وتزايد الشهداء والمتضررين، وفي هذا السياق، أشار رئيس المؤسسة المحامي شادي خليل أبو عيسى إلى الضرر الحاصل من انبعاث غازات مؤذية في الأجواء سببها القذائف والحرائق التي تؤثر على السلامة العامة. وقد رفعت المؤسسة الصلاة على نية السلام وحماية لبنان، على أمل أن ينعم  وطن الأرز وشعبه بالخير والبركة في زمن الصراعات والصدامات وتوقفها. حفظ الله لبنان والمواطنين.

 


الثلاثاء، 1 أكتوبر 2024

سريلانكا في قبضة اليسار الماركسي


 بقلم: د. عبدالله المدني*

منذ الانهيار الاقتصادي وافلاس البلاد وما اعقبه من انتفاضة شعبية شارك فيها الشعب بمختلف توجهاته السياسية والعرقية والدينية، وأدت إلى استقالة رئيس البلاد آنذاك "غوتابا راجاباكسا" وهروبه مع بطانته الفاسدة في عام 2022، والشعب السريلاكي يترقب انتخابات رئاسية لاختيار رئيس جديد يخلف الرئيس "رانيل ويكريميسنغا" الذي انتخب استثناء من قبل البرلمان وليس من قبل الشعب. وخلال السنتين الماضيتين حاول الأخير دون جدوى أن يصلح الاقتصاد ويخرج االبلاد من عنق الزجاجة. وحينما أعيته الحيلة لجأ إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كان مقررا لها شهر مايو المنصرم. وبالتزامن لجأ إلى صندوق النقد الدولي عله يساعد البلاد على الخروج من كبوتها وافلاسها. 

الصندوق الدولي، وكما هي عادته، تقدم بخطة تقشف. والخطة لئن أدت إلى استقرار اقتصادي نسبي وانهت أشهرا طويلة من نقص الغذاء والوقود والأدوية وأعادت الهدوء إلى الشارع المضطرب، إلا أنها انهكت المواطن البسيط بالضرائب ووضعت على كاهله ما لا يحتمل، الأمر الذي جعله لا يثق بوعود الرئيس ويكريميسينغا حول بناء اقتصاد قوي مقترن بنظام سياسي واجتماعي متطور.

وفي 21 سبتمبر المنصرم كانت سريلانكا على موعد مع إجراء أول انتخابات رئاسية بعد أحداث عام 2022. فجرت عملية التصويت بصورة سلمية وسلسلة بمشاركة نحو 75% من الناخبين المؤهلين البالغ تعدادهم 17 مليون نسمة، فيما بلغ عدد المترشحين للمنصب الرئاسي 39 شخصا يتقدمهم الرئيس ويكريميسينغا، وزعيم المعارضة "ساجيت بريماسادا" (نجل رئيس أسبق أغتيل عام 1993 أثناء حقبة الحرب الأهلية مع الانفصاليين التاميل)، الذي تعهد في حال فوزه بمكافحة الفساد وإعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول شروط الانقاذ. علاوة على  "أنورا كومارا ديساناياكا" وهو زعيم "جبهة التحرير الشعبية" الماركسية التي قادت في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته انتفاضتين فاشلتين تسببتا في مقتل أكثر من 80 ألف شخص، قبل ان يتحول إلى جزء من التيار السياسي السائد دون أن يقدم اعتذارا للشعب عن ماضيه الأسود. هذا علما بأن حزبه نال أقل من 4% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية في عام 2019.

المفاجأة المدوية، وإنْ لم تكن مستبعدة، تمثلت في حصول الماركسي ديساناياكا على المركز الأول بنسبة 42.4% من الأصوات متفوقا على بريماسادا الذي حصل على المركز الثاني بنسبة 32.76%، وعلى ويكريميسنغا الذ حل ثالثا بنسبة 17.72%. وبطبيعة الحال فإن فوز ديساناياكا بهذه النسبة العالية، هو الذي لم ينل سوى 3% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية السابقة، يمثل تغييرا في سلوك الناخب السريلانكي، ويبعث برسالة مفادها أنه فاض به الكيل ويتوق إلى التغيير ويعكس مدى استيائه من الساسة النخوبيين والتقليديين.

في أسباب وعوامل فوز المرشح الماركسي، يمكن القول أنه ناجم عن حملاته المؤيدة للطبقة العاملة الفقيرة وطموحات الفئات الشبابية، ناهيك عن وعوده بالتحلل من شروط صندوق النقد الدولي القاسية، خصوصا وأنه ترشح باسم "أئتلاف قوة الشعب الوطنية" وهو مظلة تضم جماعات المجتمع المدني والمهنيين واتحادات الطلبة ورجال الدين البوذيين.

غير أن الواقع يقول بصعوبة إدارة الرئيس المنتخب للملف الاقتصادي. فمشاكل سريلانكا الاقتصادية صعبة وناجمة اساسا من إفراطها في الأقرتراض المحلي والخارجي والانفاق على مشاريع لا تدر ايرادات معتبرة حتى بلغ حجم ديون البلاد وقت توقفها عن السداد عام 2022 رقما قياسيا هو 83 مليار دولار. وبالتالي فإن الرئيس ديساناياكا، الكاره للغرب وصناديقه المانحة، ليس أمامه سوى القبول بمواصلة العمل مع صندوق النقد الدولي على مضض مع محاولة التفاوض على مسألة إعادة هيكلة الديون، وإلا فإن الصندوق سيتوقف عن تقديم الدفعة الرابعة من الأموال البالغ مقداره 3 مليارات دولار والضرورية للحفاظ على الاستقرار، وهو ما حذر منه الرئيس السابق ويكريميسينغا والعديد من المراقبين لأن ذلك سوف يؤدي إلى العودة إلى المربع الأول واحتمال قيام انتفاضة شعبية جديدة. اما فيما يتعلق بسياسة البلاد الخارجية في العهد الجديد، فإن المتوقع أن يقود ديساناياكا بلاده بعيدا عن الغرب وباتجاه اقوى نحو الصين التي تبدو منتشية بفوزه.

هذا علما بأن الغالبية الساحقة من السريلانكيين، وخصوصا الأغلبية السنهالية، ينظرون إلى اليابان كشريك أكثر تفضيلا مقارنة بالولايات المتحدة والصين والهند، وإنْ مالت نسبة كبيرة من الأقلية التاميلية إلى الهند باعتبارها الجارة التي هبت قبل غيرها لدعم بلادهم في أزمة الوقود والطعام والدواء عام 2022، وذلك طبقا لبحث أجرته مؤخرا مؤسسة "مركز البدائل السياسية" في كولومبو.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2024م