الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024

حدث غير مسبوق .. بيونغيانغ ترسل قواتها إلى خارج الحدود

 


 بقلم: د. عبدالله المدني*

منذ انتهاء الحرب الكورية باتفاقية هدنة وليس معاهدة سلام في يوليو 1953، لم يسبق للنظام الكوري الشمالي أن نشر قواته خارج حدود البلاد. صحيح أنه كثيرا ما مارس الشغب بحق جيرانه في صورة إطلاق صواريخ باليستية أو إجراء تجارب نووية أو الشروع في مناورات عسكرية مستفزة، وصحيح أنه ساهم في تعزيز قوة بعض الأنظمة المارقة الشبيهة له، من خلال تزويدها بالأسلحة والعتاد والخبرات التقنية والمستشارين العسكريين أو بناء التحصينات والأقبية الحصينة، وصحيح أنه زود روسيا منذ اندلاع القتال بين الأخيرة وأوكرانيا بأكثر من مليون قذيفة مدفعية والكثير من الصواريخ الباليستية قصيرة المدى طبقا لتقرير عسكري غربي، لكنه لم يتجاوزه بإرسال أبنائه للقتال خارج الحدود، كما حدث مؤخرا حينما أفادت تقارير صادرة من جهاز المخابرات الوطنية في كوريا الجنوبية (NIS)  بأن بيونغيانغ نشرت 12 ألف جندي في روسيا دعما لعمليات موسكو العسكرية ضد أوكرانيا، وأنها بدأت في إرسال هذه القوات الخاصة في الفترة ما بين 8 و13 أكتوبر المنصرم بعد تجهيز أفرادها بالزي الرسمي للقوات الروسية وهويات مزورة تساعدهم على الاندماج مع السكان المحليين، وتخفي عن العالم تورطهم في الحرب.

ومن هنا قيل أن الحدث يشكل سابقة خطيرة وتطورا هاما في الجغرافيا السياسية الدولية، بل يمثل أول حالة ترسل فيها حكومة أجنبية قوات رسمية لدعم الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث أن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) اكتفت حتى الآن بارسال مستشارين عسكريين ومعدات حربية لمساعدة الجانب الأوكراني. فالحدث لئن عمق التعاون العسكري بين بيونغيانغ وموسكو، تنفيذا للشراكة الإستراتيجية واتفاقية الدفاع المشترك التي تم إبرامها بين البلدين إبان زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إلى بيونغيانغ في شهر يونيو 2024، إلا أنه يثير مخاوف بشأن تطور ديناميات الصراع في أوكرانيا باتجاه تورط قوى خارجية بعيدة جغرافيا. وبعبارة أخرى، فإن هذه الخطوة من جانب كوريا الشمالية قد تؤدي إلى تغيير مسار الحرب، وبما يخلق ضغوطا على الدول الغربية وعلى  كوريا الجنوبية ايضا لتغيير سياستها المعلنة الخاصة بعدم توفير معدات عسكرية هجومية فتاكة بعيدة المدى للجيش الأوكراني.

ويبدو أن هذه الضغوط قد بدأت بالفعل على إدارة الرئيس الكوري الجنوبي "يون سوك يول" لجهة السماح بالتبرع بالأسلحة لأوكرانيا من مستودعات الجيش الكوري الجنوبي. ومن شأن ذلك ــ إنْ حدث فعلا ــ ان يؤثر سلبا على العلاقات التجارية والاقتصادية بين موسكو وسيئول، حيث أن تجارة روسيا الاتحادية مع كوريا الجنوبية لا تزال مرتفعة بسبب واردات الطاقة والمواد الخام، ولم تتأثر كثيرا بالعقوبات الغربية على الروس، حيث أنها تتم عبر دول آسيا الوسطى.

المراقبون الذين تحدثوا عن الخطوة الكورية الشمالية تطرقوا إلى الفوائد التي ستجنيها بيونغيانغ من انخراطها في الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وخلاصتها تأمين دفعات نقدية أو عينية لكل جندي كوري مشارك، وتعزيز العلاقات مع الروس وضمان الحصول منهم على مساعدات تكنولوجية آمنة وعلى دعم سياسي يخفف من العقوبات الدولية المفروضة على نظام "كيم جونغ أون" الإستبدادي، وحصول القوة المشاركة في الحرب على تجربة قتالية حربية حديثة وواقعية، واختبار البلاد لأسلحتها ميدانيا. لكن هؤلاء المراقبين تطرقوا أيضا إلى الجوانب السلبية للإنخراط الكوري الشمالي في الحرب والمتمثلة في احتمال حدوث انشقاقات من الخدمة من قبل الجنود في صورة هروب فردي أو جماعي إلى الجانب الأوكراني فرارا من القمع والفقر والإستبداد في الوطن، أواحتمال فشلهم في ميدان القتال وسقوط أعداد كبيرة منهم قتلى أو جرحى بسبب القتال في بيئة مختلفة عن بيئة شبه الجزيرة الكورية أو بسبب انعدام لغة تفاهم مشتركة مع القوات الروسية، ناهيك عن حقيقة قدومهم من دولة فقيرة واستبدادية وبالتالي افتقارهم إلى التجهيز والحافز. 

في المقابل هناك من المراقبين في الشطر الكوري الجنوبي من أعرب عن شكوكه في المعلومات التي صدرت عن جهاز المخابرات الوطنية في سيئول، واصفا إياها بالمعلومات المضخمة والمستقاة من مصادر غربية وأوكرانية لتبرير تنسيق أمني أوثق مع الولايات المتحدة والحلفاء.  وفي راي هؤلاء أن أعداد الجنود الذين أرسلتهم بيونغيانغ إلى روسيا ليست مؤكدة، وقد تكون أرقاما متوقعة وليست فعلية، وقد يضطلعون بمهام وأدوار غير قتالية مثل استخدامهم في دوريات الحدود وعمليات الحراسة الخلفية بدلا من الخطوط الأمامية. وبكلام آخر، يدعو هؤلاء المشككين إلى إرجاء الحكم حتى ظهور المزيد من الأدلة على تورط بيونغيانغ في حرب أوكرانيا من مصادر مستقلة او دولية. 



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: نوفمبر 2024م

الخميس، 21 نوفمبر 2024

الغارات الإسرائيلية جعلت صور اللبنانية مدينة أشباح


 بقلم الصحفية الفلسطينية سوسن كعوش


أصبح دوي الانفجارات وما يعقبه من تصاعد أعمدة الدخان الأسود الناجم عن الحرائق والدمار الذي تحدثه الغارات الجوية الصهيونية، لا يفارق سماء مدينة صور اللبنانية الساحلية المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. وتحول المدينة الجميلة إلى أطلال قديمة، وهجر الناس والصيادين شواطئ المدينة التي تحولت بفعل العدوان الصهيوني إلى مدينة أشباح.

صور المدينة اللبنانية واحدة من أقدم المدن المأهولة بالسكان بشكل مستمر في العالم وتضم مواقع أثرية مهمة، حولتها أيادي الغزاة إلى ساحة حرب.

صور المدينة الخلابة التي هجرها معظم سكانها إلى أماكن أخرى يحملون مخاوفهم من أن أي مكان في لبنان لم يعد آمنا بعد توسع جغرافية القصف المدفعي، والغارات التي تشنها الطائرات الحربية الصهيونية غي أكثر من مكان، وبالتالي تؤدي إلى موجات نزوح جديدة للسكان الآمنين الذين يخشون أن يواجهوا دماراً يشبه الدمار الذي أحدثه الكيان الصهيوني في قطاع غزة.

في صور، لا يوجد سوى النازحين والعاملين الطبيين. أولئك الذين بقوا هنا موجودون هنا لأنهم لا يستطيعون المغادرة. لم تعد صور تتمتع بأي من هدوء المنتجع الصيفي. يبدو الهدوء أشبه بمقدمة للمأساة.

في الطريق إلى صور، يزيد الدخان المنبعث من غارة جوية على تلة من هذا الشعور، تماماً مثل الحفرة التي تستقبلك عند مدخل المدينة الجنوبية. ليست هذه المرة الأولى التي تخلو فيها الشوارع في صور رابع أكبر مدينة في لبنان، التي عانت من الحروب الحديثة والقديمة، حيث كانت مأهولة بالسكان منذ العصر البرونزي.

لا يوجد أحد خارج مباني المدينة. قبل أيام قليلة، لم يكن بإمكانك التحرك في هذه الشوارع بسبب ازدحام السيارات، ولكن الآن لم يبق فيها روح. بالقرب من المباني السكنية التي تحولت إلى أنقاض في مدينة صور تحمل الأسر المتعبة والخائفة أمتعتها في سيارات وسط الزجاج المكسور والحطام. ويكدسون بعض الأمتعة التي انتشلوها من تحت ركام منازلهم على سقف السيارات.

لقد مزقت الغارات واجهات المباني المحيطة، وكشفت عن أنابيب الحمامات والمطابخ بالكامل في الهواء الطلق. كانت المتعلقات الشخصية متناثرة في كل مكان – أحذية، وصور، وألعاب أطفال، أواني المطبخ، وملابس.

شواطئ مدينة صور الخلابة خالية من الناس. في الشهر الماضي فقط، كان خبراء الحفاظ على البيئة يساعدون السلاحف البحرية المهددة بالانقراض على وضع بيضها على طول الساحل، ولكن منذ ذلك الحين، حذر الجيش الإسرائيلي من الأنشطة البحرية، قائلاً إنها قد تكون مستهدفة.

يقوم الجيش الإسرائيلي بأصدر أوامر بالإخلاء لمناطق في المدينة، مدعيًا وجود أصول لحزب الله في المنطقة دون توضيح أو تقديم أدلة. واستهدفت ضربات المعتدي الصهيوني عدة مواقع تراثية، بما في ذلك ميدان سباق الخيل ومجموعة من المواقع الساحلية المرتبطة بالفينيقيين القدماء والصليبيين. وتسببت الهجمات في دمار هائل وأضرار جسيمة في المنازل والبنية التحتية، والمباني، والمتاجر، والسيارات. والكثير من مباني المدينة سويت بالأرض بالكامل وتضررت الكثير من الشقق في محيطها.

يشعر ما تبقى من سكان المدينة بالقلق للغاية. متخوفين من أن الوضع قد يكون مثل غزة، وأن تصدر إسرائيل المزيد من أوامر الإخلاء التي ستجبرهم على مغادرة مسقط رأسهم ومدينتهم التي يحبوها.


رئيس بلدية صور حسن دابوق يقول إن ربع سكان المدينة فقط بقوا، ويخشى الكثيرون أن الدمار الذي لحق بقطاع غزة الفلسطيني قادم إليهم أيضاً. ويضيف إنهم نفس الأشخاص، نفس الحرب، نفس العقلية، نفس المسؤولين الصهاينة، مع نفس الدعم من الأميركيين والأوروبيين. العناصر هي نفسها، فلماذا يكون الأمر مختلفاً في لبنان؟

كانت ترسو في ميناء صور عشرات السفن. وكانت هذه المنطقة تعج بالنشاط عادة حيث كان الصيادون يحضرون صيدهم لبيعه للتجار، لكنها الآن هادئة بشكل مخيف. ويمكن ملاحظة عدد قليل من الصيادين يمرون، ليس للصيد، ولكن للتحقق من قواربهم. وأغلقت المحلات التجارية والمطاعم، وكانت الثلاجات التي كانت تحتوي على الأسماك الطازجة فارغة ومغلقة.

لم يبق سوى أولئك الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه وأولئك الذين شعروا بواجب البقاء. قالت إحدى سكان صور إنها تفضل البقاء في مسقط رأسها على الموت كلاجئة. لقد خلقت الحرب فراغاً هنا - امتصت الحياة من هذه المدينة القديمة الفخورة بأطلالها الرومانية وشاطئها الرملي الذهبي. الشوارع خاوية، والمحلات مغلقة. والشاطئ مهجور. والنوافذ تهتز بفعل الغارات الجوية الإسرائيلية.

اختار بعض الأطباء في مستشفى جبل عامل، البقاء. وهو واحد من ثلاثة مستشفيات فقط لا تزال تخدم جنوب لبنان. ويمكن رؤية الفرش والمتعلقات الشخصية ملقاة في ممرات المستشفى. ولإقناع بعض موظفيه بالبقاء، سمح مروة لهم بالعيش هناك مع عائلاتهم.


ومثل المدينة نفسها، لم يبق في المستشفى سوى ربع أطباء المستشفى. كما بقي أكثر من ثلث الممرضات. ولكن مع استمرار العدوان، يجهز المستشفى ويستعد للأسوأ. حيث إن هناك أنماطًا مقلقة في تصرفات الجيش الإسرائيلي في لبنان تشبه غزة، وخاصة فيما يتعلق باستهداف عمال الإغاثة والأطباء والمستشفيات. وتقول لبنان إن 13 من مستشفياتها وأكثر من 100 منشأة صحية أخرى أصبحت خارج الخدمة بسبب الضربة الإسرائيلية.

مدينة صور التي كان يعيش فيها ما لا يقل عن 50 ألف شخص، وهي مدينة نابضة بالحياة موطن للمسيحيين والمسلمين. عمرها 2500 عام، وتقع على بعد حوالي 80 كيلومترا (50 ميلا) جنوب العاصمة بيروت، صامدة في وجه العدوان الصهيوني الغاشم. ويرى أهلها الذين يشعرون بالغضب والحزن أن هذه الضربات الإسرائيلية محاولة لضرب الروح المعنوية للناس. ويقول الباقون في المدينة: إذا غادر الجميع، فلن يبقى أحد. هذا جزء من مقاومتنا.

صور المدينة الفينيقية العظيمة التي حكمت البحار وأسست مستعمرات مزدهرة مثل قادس وقرطاج، ووفقاً للأسطورة، كانت مكان اكتشاف الصبغة الأرجوانية سوف تعيد صباغ وجه المدينة بالسلام والفرح بالانتصار على برابرة القرن الواحد والعشرين. 

الثلاثاء، 19 نوفمبر 2024

إنتخابات اليابان المبكرة تسببت في فوضى سياسية


 بقلم: د. عبدالله المدني*

في 27 سبتمبر الفائت جرت في اليابان معركة حامية الوطيس للفوز بزعامة الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم كان طرفيها "شيجيرو إيشيبا" وزير الدفاع الأسبق والسياسي اليميني المتشدد "ساناي تاكايشي". أسفرت الجولة الأولى عن حلول إيشيبا في المركز الثاني، لكن الأخير هزم منافسه في الجولة الثانية، ليصبح زعميا للحزب الذي حكم اليابان طوال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية باستثناء فترات قصيرة. 

يخطيء الساسة أحيانا في قراءة المشهدين السياسي والاقتصادي في بلدانهم، لأسباب مختلفة، فيعتقدون أن الدعوة إلى انتخابات مبكرة كفيلة بتعزيز مواقعهم في السلطة من خلال حصد المزيد من المقاعد لأحزابهم في البرلمان. وهذا تحديدا ما حدث مع إيشيبا الذي ما أن تولى زعامة بلاده حتى دعا إلى إجراء انتخابات عامة في 27 أكتوبر الفائت أي قبل موعدها المقرر بنحو عام. حدث هذا، على الرغم مما عرف عن الرجل البالغ من العمر 67 عاما من خبرة سياسية وعقل راجح وقدر كبير من المهابة والجدية وسعة الإطلاع.

نعم. لقد أرتكب إيشيبا خطأ فادحا بالدعوة إلى انتخابات مبكرة. فقد ظن أنه يحظى بثقة واستحسان جمهور الناخبين لأنه مختلف عن سلفه "فوميو كيشيدا" وغيره من رموز الحزب الحاكم، وبالتالي سوف يصوت اليابانيون بكثافة لتعزيز موقع الحزب فقط لأنه على رأس قيادته، لكنه خلال شهر من توليه رئاسة الحزب والحكومة خلفا لكيشيدا إرتكب بعض الأخطاء التي أضعفت من مكانته وشعبيته ومنها على سبيل المثال تكرار ما فعله سلفه أي منح الأولوية للسياسة الخارجية على حساب الإصلاحات الاقتصادية، وذلك بتأييده فكرة إنشاء "حلف شمال أطلسي آسيوي" من أجل إقامة حصن ضد الصين وسياساتها في منطقتي المحيطين الهاديء والهندي وامتداداتهما.

على عكس توقعاته المتفائلة بحصد المزيد من المقاعد للحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم، جاءت نتائج انتخابات 27 أكتوبر 2024 مخيبة لآماله إذ خسر حزبه وشريكه في الحكم المتمثل بحزب "كوميتو" الصغير أغلبيته البرلمانية، الأمر الذي أحدث زلزالا وفوضى سياسية غير متوقعين، بل وسجل في تاريخ الحزب العتيد خسارته الثالثة للأغلبية البرلمانية منذ عام 1955، خصوصا وأن هذه الإهانة للحزب، الذي أعتبر على الدوام الخيار المفضل للناخبين اليابانيين، جاءت في وقت عصيب تواجه فيه الأمة اليابانية مجموعة من التحديات والرياح المعاكسة الداخلية والخارجية.

فداخليا تشهد اليابان تباطؤ معدلات النمو، وتجاوز التضخم لمعدلات الأجور، وانخفاض الصادرات بسبب تباطؤ النمو في الصين (تعد الصين أكبر شريك تجاري لليابان على الاطلاق) وصورة ضبابية عما اذا كان بنك اليابان سيواصل رفع أسعار الفائدة. وخارجيا تواجه البلاد استفزازات كوريا الشمالية، وتعاظم القوة العسكرية للصين المجاورة، ومعهما حروب وضغوط تجارية متوقعة من الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب.

غير أن إيشيبا بدا محظوظا، رغم الإهانة التي تعرض لها هو وحزبه. ذلك أن الخلافات والانقسامات الشديدة في الرؤى والأجندات بين أحزاب المعارضة حالت دون اتفاقها على الإئتلاف لتشكيل حكومة بديلة لحكومة الحزب الحاكم. وعليه فقد عقد البرلمان جلسة خاصة في 28 أكتوبر المنصرم لإختيار رئيس الوزراء الجديد، فتغلب إيشيبا على زعيم المعارضة "يوشيهيكو نودا" بحصوله على 221 صوتا مقابل 160، ليستمر في منصبه زعيما للبلاد لفترة قد تطول أو تقصر. ونقول هذا لأن الضرر قد وقع، ومعه دخلت اليابان مرحلة عدم اليقين السياسي، ناهيك عن أن إيشيبا لن يستطيع تنفيذ سياساته وتطلعات حزبه وقيادة البلاد إلى حيثما يريد والبدء في الإصلاحات الاقتصادية الملحة بحرية، نظرا لإفتقاده التفويض الشعبي والدعم البرلماني القوي. 

ويتوقع المراقبون ألا تطول فترة بقائه في السلطة، وذلك استنادا إلى حقيقة أن معظم رؤساء الحكومات اليابانية المتعاقبة لم يستمروا في منصبهم القيادي أكثر من عام أو عامين، أو 3 أعوام على أبعد تقدير، باستثناء "شينزو أبي" و"إيساكو ساتو" (8 أعوام لكل منهما)، و"جونيتشيرو كايزومي" (5 أعوام).

وجملة القول أن هشاشة الوضع الذي يمر به إيشيبا وحزبه تلقي بظلال من الشك على قدرة اليابان لجهة الحفاظ على سياسة اقتصادية متماسكة، والاستجابة للتحولات الاقتصادية المفاجئة، وتوفير البيئة المستقرة التي يحتاجها المستثمرون. ومما لاشك فيه أن هذا بدوره يعطل الإصلاح الضريبي والسياسات التجارية البناءة والحوافز المالية وكلها أدوات حاسمة تؤثر على ثقة رجال الأعمال وتدفقات رأس المال. ومن ناحية أخرى فإن هشاشة الوضع السياسي يعني جمودا في حل قضية الشيخوخة السكانية التي تعاني منها اليابان والتي تسببت في إبطاء النمو وتدفق الاستثمارات الأجنبية.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: نوفمبر 2024م


الخميس، 14 نوفمبر 2024

ماذا تعني عودة الجمهوريين للرئاسة الأمريكية..؟


  كانت النتائج الأولية قد حسمت مبكرا مصير السباق الانتخابي للرئاسة الأمريكية قبل تمام الانتهاء من عملية الفرز ببعض المكاتب الانتخابية وقبل الإعلان عنها رسميا.  لم ينتظر الرئيس الأسبق دونالد ترامب طويلا ليعلن أمام أنصاره فوزه في انتخابات الرئاسة 2024  بمنصب الرئيس الـ 47  للولايات المتحدة الأمريكية أمام مرشحة التيار الديمقراطي كامالا هاريس . كان السباق الانتخابي شاقا وطويلا، وجسدت مجريات الحملة الانتخابية للمرشحين الإثنين أضخم الفعاليات لأكبر حدث سياسي في تاريخ أمريكا والعالم.

صبحة بغورة تكتب:   


لقد حقق ترامب فوزا تاريخيا عريضا على أربع مستويات دفعة واحدة : نتائج صندوق أصوات الناخبين ، أغلبية أصوات كل من  حكام الولايات، أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، ليحقق بذلك عودة مظفرة لم يكن يتوقعها أنها ستكون بهذا الحجم بعد مضي أربع سنوات على خسارته في الانتخابات الماضية أمام الرئيس الديمقراطي جو بايدن. فوز ترامب بمنصب رئاسة الولايات المتحدة يعني مباشرة ترقب تطبيق سياسته المعلنة عنها فورا وهي تلك التي كانت مصاغة في جملة وعود الانتخابية  تندرج تحت الشعار الشهيرلنجعل أمريكا عظيمة ثانية " بمعنى أنها كانت عظيمة في فترة رئاسته الأولى ، ثم تدحرجت في فترة الرئيس الديمقراطي السابق جو بايدن ، وينتظر أن يتوجه إلى دعم وتمكين الجبهة الاجتماعية حيث يريد تخليص المجتمع الأمريكي ممن وصفهم "بالمجرمين والإرهابيين " والمقصود المهاجرين ، إذن المنتظر أن تشهد الفترة القادمة عمليات ترحيل واسعة النطاق لفئات من المقيمين الأجانب من عديد الجنسيات ومنع التدفق الفوضوي للمهربين عبر الحدود، غلق الحدود أمامهم ومحاربة الهجرة غير الشرعية بتقوية الوضع الأمني   الحدودي،وفي المقابل اتخاذ إجراءات حكومية غير مسبوقة ولكن محفزة  للمواطنين على زيادة النمو الديمغرافي وتتمثل في صرف مبلغ 6 آلاف دولار فورا لكل مولود أمريكي جديد!  وخفض الضرائب، وعدم السعي للحرب.

تأسس الحزب الجمهوري في عام 1854 على يد معارضي قانون كانساس نبراسكا الذي سمح بانتشار العبودية في بعض الأراضي الأمريكية  ثم تبنى الحزب الليبرالية الكلاسيكية  ودعّم الإصلاح الاقتصادي وعارض انتشار العبودية في البلاد ،وكان أبراهام لينكولن أول رئيس أمريكي من الحزب الجمهوري.  وفي  عهد الرئيس لينكولن والكونغرس الجمهوري عام 1865 تم حظر العبودية في الولايات المتحدة. وبعد عام 1912 شهد الحزب تحولا أيديولوجيا نحو اليمين بعد سن قانون الحقوق المدنية لعام 1964 وقانون حقوق التصويت لعام 1965فتغير الجوهر الأساسي للحزب وأصبحت الولايات الجنوبية أكثر جدارة بالثقة في السياسة الرئاسية. تشمل قاعدة دعم الحزب في القرن الحادي والعشرين الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الريفية والرجال وأبناء الجيل الصامت،والأمريكيين البيض، والمسيحيين الإنجيليين.

هذه البسطة التاريخية الموجزة تعطي مؤشرات على طبيعة التوجهات الرئيسية المتوقعة للإدارة الأمريكية في الفترة القادمة وما سيكون عليه الوضع السياسي والاقتصادي،فالأغلبية المحققة للحزب الجمهوري في مجلسي الشيوخ والنواب تمنح ترامب مساندة المجلسين لسياسته داخل الولايات المتحدة وخارجها، والمتوقع ان تحدث العديد من التغيرات بما يناسب الظروف المستجدة، وأن يمضي قدما في تشكيل حكومته دون متاعب. وقد يستغل اعتبار مجلس الشيوخ أن حرب غزة من القضايا التي فشلت فيها الإدارة الأمريكية بقيادة الحزب الديمقراطي فكانت سببا في خسارة الحزب في الانتخابات الرئاسية 2024

لا يختلف موقف الرئيس الجمهوري الأمريكي عن الديمقراطي تجاه القضية الفلسطينية في شيء، إذ لا يؤمن الرئيس ترامب بحل الدولتين،  لذلك فليس من المتوقع أن يرفع الكيان المحتل قبضته على الشعب الفلسطيني قبل أن يتحقق له ما أراد من أهدافه العدوانية المعلنة بمباركة أمريكية .  أثار فوزالرئيس الجمهوري ترامب بمنصب الرئاسة الأمريكية تفاؤلا أوروبيا بإنعاش العلاقات الاقتصادية والتجارية وبفتح أبواب الأمل مشرعة نحو وضع حد للتدهور الاقتصادي العالمي،  حيث أكدت الصين أن سياستها ثابتة وواضحة تجاه الولايات المتحدة ولم تتغير مهما كان الرئيس ، وأن فوز ترامب لم يكن مفاجئا للصين بل كان متوقعا وأنها تحرص على العلاقات المبنية على الاحترام المتبادل بينهما . كما أكدت المفوضية الأوروبية على ضرورة الحفاظ على التحالف الدائم معا للولايات المتحدة.وقد يجوز الاعتقاد بوجود فرص حقيقية لإرساء الأمن والسلام العالميين، وأن يكون فوز دونالد ترامب مناسبة قوية للتعجيل بوقف الحرب ببين روسيا وأوكرانيا ، ولكن يخشى بعض المراقبين أن يساعد الرئيس الأمريكي الجديد اسرائيل على الإسراع في توسعها الاستيطاني بقطاع غزة والضفة الغربية،وأنه قد يلجأ إلى سياسة التخويف لكسب بعض الأنظمة العربية والإسلامية لتأمين المصالح الأمريكية  في العالم. وفي إيران يبدو أن الوقت ما زال مبكرا لبلورة موقف واضح تجاه فوز الرئيس الجمهوري  بالرئاسة الأمريكية حيث تراوحت ردود الفعل بين القلق والحذر والتفاؤل،وكانت فترة رئاسة ترامب الماضية قد شهدت تصعيدا غير مسبوق مع إيران بدءا من انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018ثم فرضها عقوبات اقتصادية عليها شديدة امتدت إلى المجتمع الدولي وسميت بـ"الضغوط القصوى"

يمكن أن تحفل الفترة القادمة من عهدة الرئيس ترامب بمؤشرات انفراج للعديد من القضايا الدولية الشائكة، كما قد تحمل مزيدا من التعقيد لأزمات قائمة فعلا باتجاه العمل المسلح ذات التصعيد المحدود. وتتلخص توجهات السياسة الخارجية الأمريكية في تقوية التحالفات السياسية والعسكرية ، ونشر مبادئ وقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتعظيم المصالح الأمريكية، مع الحرص على الحفاظ على درجة مقبولة من الواقعية تجاه الآخرين ،والجمع بين ضبط السياسة الخارجية على أسس براغماتية وأخلاقية في نفس الوقت ،وجعل العلاقات التجارية والتكنولوجية الأمريكية العابرة للحدود الوطنية كمحدد مهم للعلاقات السياسية وحتى الأمنية للبلاد.

الثلاثاء، 12 نوفمبر 2024

قمة الرياض .. لتأكيد وحدة المواقف وتوحيد القرارات

 


انعقدت في  11 نوفمبر الجاري بالعاصمة الرياض القمة العربية الإسلامية غير العادية لبحث وقف إطلاق النار في قطاع غزة ولبنان ، وإدخال المساعدات الإنسانية ، ومنع التهجير القسري للفلسطينيين ، وكانت الرياض قد احتضنت في 11 نوفمبر 2023 قمة طارئة مماثلة لبحث التطورات الخطيرة في قطاع غزة .

صبحة بغورة تكتب :

في ظروف استثنائية بالغة التعقيد وشديدة الحساسية احتضنت الرياض قمة العرب والمسلمين لبحث توحيد المواقف من أم قضايا العالمين العربي والإسلامي، القضية الفلسطينية، وعلى ذلك تميزت كلمات رؤساء الوفود المشاركة بقوة الطرح ووضوح الفكرة وجلاء الموضوع وتضمنت في معظمها التأكيد على عدالة قضية الشعب الفلسطيني وتجديد الالتزام الكامل بدعم قطاع غزة بكافة أشكال الدعم الإنساني وإدخال المساعدات الإغاثية إلى قطاع غزة في أسرع وقت ، والعمل على منع ومقاومة تهجير سكان القطاع ،وإدانة الاستيطان، كما تضمنت كلمات رؤساء الوفود تحذيرات جادة من عواقب استمرار عمليات التقتيل والإبادة الجماعية وتطبيق سياسة التجويع ومن خطر انعكاس أثر ذلك على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط .

جاءت كلمة محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية قوية إذ طالب منظمة الأمم المتحدة بإسقاط عضوية اسرائيل في المنظمة ما لم تتراجع عن حربها في فلسطين وتتراجع عن تحديها لأحكام للقانون الدولي، كما طالب في كلمات قوية بعودة منظمة " الأونروا" وتمكينها من استرجاع دورها الإنساني في قطاع غزة، وطالب مجلس الأمن الدولي بحصول فلسطين على العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتحدة كدولة تتمتع بكامل الحقوق، وشدّد على أن قطاع غزة جزء لا يتجزأ من فلسطين ، وعلى أن أي حل مستقبلي يجب ان يتضمن الضفة الغربية وغزة .


المتفق عليه أن قمة الرياض اخترقت  مجددا جدار الصمت الدولي ، وأعلنت رفض المجموعة العربية والإسلامية عمليات الإبادة الجماعية في غزة وانتهاك سيادة لبنان ، ودعت لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وتضمنت القمة تحذيرات من التصعيد المسلح المتواصل وخطر امتداده على المستوى الإقليمي وألحت على وقف العدوان على غزة والبنان, 

لقد سبق منذ عام تقريبا إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة ،ولكن فصول الجريمة بقيت متواصلة والتوسّع في العدوان مستمر بشكل أكثر عنفا وأوسع انتشارا، ولعل هذا ما دفع حركة حماس قبيل انعقاد القمة إلى توجيه الدعوة لتشكيل تحالف عربي وإسلامي لتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه كافة.

الملاحظ غياب أي استعداد لدى حركة حماس للاندماج مع السلطة الفلسطينية في العمل الوطني ، وأنها مازالت تستشعر القوة لمواصلة المقاومة بالرغم من ما لحق بقطاع غزة من مذابح  وإبادة جماعية وتهجير وهدم وتدمير ، وإذا كانت هناك مؤشرات على مواصلة المناطحة بين حركتي فتح وحماس لفرض الوجود فإنه لا يعدو أن يكون من أجل السيطرة على قطاع من أطلال وخرابات وقبور واقع تحت الهيمنة الإسرائيلية ولا توجد أدنى فرصة للفكاك من تلك الهيمنة ، وما يزيد مهمة المجموعة العربية صعوبة هو تفكك جبهة المقاومة إلى مجموعة فصائل متفرقة ،وذات انتماءات متباعدة ، ومن زاوية أخرى يتبين بغياب إيران عن القمة بعد أن فقدت حركة حماس لمعظم قادتها الموالين لها والمؤثرين فيها أنها لم تعد طرفا مؤهلا للتحكم في توجيه العمل الوطني الفلسطيني المصيري، وأنه سوف تبقى النظرة إليها كعقبة كؤود أمام توحيد الصف الفلسطيني تفعل فعلها في قصور الدعم وتقصير المساندة .

الوضع الحالي مفعم بالتناقضات ، المعنيون بالقضية أصحاب الأرض متفرقين شيعا، الدولة الفلسطينية منقسمة إلى كيانين متنافرين ، بقيادتين وحكومتين متباعدتين وتنظيمين مسلحين، السلطة الشرعية بعيدة عن الأحداث والتمويلات الخارجية لقطاع غزة تمر على البنوك الإسرائيلية ولا تعلم السلطة عنها شيئا إلا أماني فقط . دعوة القمة العربية والإسلامية لوقف إطلاق النار قوبلت باستهجان المجتمع الدولي لأنها لم تستقم مع توقف حزب الله عن إطلاق الصواريخ وتوجيه المسيرات نحو اسرائيل ، أي أن المقاومة تريد شيئا وتدعو إليه وهي تأتي بنقيضه! ومع كل ذلك بقيت القمم العربية والإسلامية تتقاسم نفس الرؤى وذات المواقف، متماسكة ومتمسكة بوحدة القرارات أمام عبث الفصائل الفلسطينية على حساب الأهداف الوطنية والمصلحة الحياتية لشعب أعزل.  



ماذا تنتظر اندونيسيا في عهد رئيسها الثامن؟


بقلم د. عبدالله المدني*

تم مؤخرا في جاكرتا تنصيب "برابوو سوبيانتو" رئيسا جديدا للبلاد، خلفا لجوكو ويدودو الذي حكم أندونيسيا لفترتين رئاسيتين متعاقبتين.، وبهذا حقق سوبيانتو حلما قديما داعبه ليقود هذه البلد الآسيوي الكبير منذ أن كان عسكريا وقائدا للقوات الخاصة في عهد عمه (والد زوجته) الديكتاتور سوهارتو، ومرورا بأكثر من محاولا فاشلة على مدى عقد من الزمن لدخول قصر مرديكا الرئاسي.

وعلى الرغم من كلمته في حفل تنصيبه في العشرين من أكتوبر الفائت، والتي دعا فيها الأمة والساسة والأحزاب إلى التحلي بالشجاعة في مواجهة التحديات، بوضع مصلحة أندونيسيا فوق أي اعتبار و أي مصلحة أخرى، فإن الكثيرون يتوقعون حدوث صدام، إنْ عاجلا أو آجلا، بين سوبيانتو (ثامن رئيس أندونيسي منتخب منذ انتهاء الديكتاتورية) وساسة البلاد فيما خص السياسات والتوجهات العامة. ولعل مرد هذا التخوف يكمن في ما عرف عن الرجل من عناد وطموحات وسطوة، دعك من سجله القديم الحافل بالعنف ضد خصومه إبان توليه مناصب عسكرية رفيعة في عهد سوهارتو.

في أول خطاب له أمام البرلمان بعد تقديم طاقمه الوزاري الجديد، لوحظ تركيزه على عدة مسائل رئيسية مثل: الحاجة إلى سياسة خارجية نشطة، والعمل من أجل الإكتفاء الذاتي، وضرورة الحد من الفقر في المجتمع، علاوة على اعتماد حكم قوي لتحقيق برامج الحكومة. لقد توقف مراقبون كثر أمام الجزئية الأخيرة قائلين أنها قد تقود إلى نوع من الإستبدادية والخروج عن النهج الديمقراطي الذي ميز عهود كل أسلافه منذ عام 1998. خصوصا وأنه قال بالحرف الواحد: "دعونا ندرك أن ديمقراطيتنا يجب أن تكون ديمقراطية فريدة من نوعها"، ناهيك عن أنه وصف الديمقراطية سابقا بأنها عادة سيئة يصعب التخلص منها مثل التدخين. 

فيما خص سياسات جاكرتا الخارجية، التي تميزت في عهد سلفه، بالهدوء والحذر والنأي بالنفس عن الصراعات الدولية إلا فيما ندر، يمكن القول أن سوبيانو سوف يلعب دورا نشطا على المسرح الدولي، من خلال تنشيط الدور الباهت لحركة عدم الإنحياز، والدفاع عن مصالح العالم الثالث باعتبار أن أندونيسيا جزء منه، ولعب دور الوسيط النزيه في الصراعات الدولية، ودعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية اسلامية يتعاطف معها مسلمو أندونيسيا (بالرغم من وجود تعاون عسكري صامت بين جاكرتا وتل أبيب)، ومحاولة الإنضمام إلى مجموعة بريكس الاقتصادية. 

ويتوقع أن يقود سوبيانتو بنفسه دفة الدبلوماسية الإندونيسية متجاوزا بذلك وزير خارجيته الجديد ومساعده المقرب "سوجيونو" الذي ربما عهد إليه بحقيبة الخارجية كي يضمن عدم الاعتراض على قراراته، خصوصا وأن سوجيونو ليس دبلوماسيا محترفا وقليل الصلة بالعلاقات الخارجية، بعكس سلفه الوزيرة رينتو مارسودي.

وتأكيدا على ما سبق، لابد من الإشارة إلى هوس سوبيانتو بالشان الخارجي الذي بدا واضحا إبان عمله وزيرا للدفاع في حكومة الرئيس المنتهية ولايته جوكو ويدودو، في الفترة ما بين عامي 2019 و2024. فوقتذاك تكررت زياراته الخارجية واشرف بنفسه على توثيق علاقات بلاده العسكرية مع واشنطن ووقع اتفاقية تعاون عسكري جديدة مع استراليا. إلى ذلك اختار أن تكون أول زيارة خارجية له، بعد الإعلان عن فوزه بالرئاسة في أبريل الماضي، إلى الصين وليس إلى الولايات المتحدة أو أوروبا اللتين ينظر إليهما كقطبي توازن مع الصين في منطقة المحيطين الهاديء والهندي. وعلى الرغم من أن سوبيانتو قام بعد ذلك بزيارة اليابان، إلا أن المراقبون فسروا منحه الألولوية للصين على أنه انعكاس لرغبته في التودد للصينيين من أجل استثماراتهم التنموية.

فإذا ما انتقلنا إلى موضوع الحد من الفقر، كأحد المواضيع الرئيسية ضمن أجندة سوبيانتو، نجد أنه كان على رأس برنامجه الانتخابي في السباق الرئاسي الأخير، حيث وعد الناخبين بتقديم وجبات مجانية لأطفال المدارس، ومساعدة غذائية للنساء الحوامل وبناء 3 ملايين منزل جديد. والمشكلة هنا أن تنفيذ هذه الوعود تحتاج إلى تكاليف باهضة (مثلا الوجبات المدرسية المجانية تكلف وحدها نحو 26 مليار دولار)، الأمر الذي يستدعي إجراء تخفيضات في الميزانيات المخصصة لمجالات أخرى أو السماح للدين العام بالإرتفاع. وقد لوحظ أن سوبيانتو أبقى على وزيرة المالية في حكومة سلفه السيدة "سري مولياني أندراواتي"، للإستفادة من خبرتها الطويلة والمتميزة في الشؤون المالية، لكنه في المقابل جدد تعيين إبن شقيقه في منصب نائب وزير المالية كي يكون عينا له.

أما موضوع الإكتفاء الذاتي في الغذاء والطاقة، فقد وعد سوبيانتو بتحقيقه أيضا من خلال برامج لتوسيع الرقعة الزراعية ودعم الأسر المنتجه وزيادة انتاج الفحم والديزل الحيوي (من قصب السكر وزيت النخيل)، وهذه الطموحات تصطدم أيضا بعقبة التمويل، علاوة على إصطدامها بالسياسة الخضراء والبيئية النظيفة.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: نوفمبر 2024م 




الثلاثاء، 5 نوفمبر 2024

الجفاء الهندي الصيني .. ما هي أسبابه الحقيقية؟


 

بقلم : د. عبدالله المدني*

الاجتماع الثنائي الذي جمع بين الزعيم الهندي ناريندرا مودي ونظيره الصيني شي جينبينغ على هامش قمة مجموعة بريكس التي انعقدت مؤخرا بمدينة قازان الروسية، والتي نجم عنها اتفاقهما على تسوية المواجهة الحدودية الطويلة بين بلديهما الجارين في القطاع الغربي من الهيمالايا، دفع المراقبين إلى إعادة فتح ملف العلاقات الباردة والمتقلبة بين القطبين الآسيويين الكبيرين.

يعتقد البعض أن خلافات البلدين أسبابها تاريخية وأيديولوجية، ويعتقد البعض الآخر أنها تعود إلى مشاكل جيواستراتيجية، ويعتقد البعض الثالث أن وراءها حرب صيف 1962 التي شنتها الصين على الهند وانتزعت من ورائها آلاف الكيلومترات المربعة من الأراضي الهندية زمن نظام ماو تسي تونغ، وهناك البعض الرابع الذي يعزي خلافاتهما إلى تنافسهما المتعاظم على النفوذ في منطقة المحيط الهندي وامتداداتها.

لكن المتتبع لمسار علاقات الطرفين البينية في العقود الأخيرة، يكتشف عاملا آخر يتمثل في تقارب نيودلهي المتزايد من واشنطن، وهو الأمر الذي أجج ويؤجج شكوك الصينيين ويعتبرونه مخططا هنديا ــ أمريكيا مشتركا لإحتواء بلادهم وإعاقة تطلعاتها السياسية والاقتصادية.

والمعروف أن التوترات بين نيودلهي وبكين بدأت في عام 2017 حينما اتهمت الأولى الثانية بالقيام بأعمال استفزازية متعمدة عبر الحدود المشتركة في هضبة دوكلام الجبلية في أعالي جبال الهيمالايا عند نقطة إلتقاء حدود الصين والهند ومملكة بوتان، نجم عنها مقتل 20 جنديا هنديا وعدد غير معروف من الجنود الصينيين ثم تصاعدت منذ منتصف يونيو 2020 حينما وقعت اشتباكات دامية بالعصي والهراوات والقضبان بين جنود البلدين في منطقة غالوان الجبلية المتنازع عليها. وقتها اعتبر الكثيرون أن الحادثتين افتعلهما الصينيون، اعرابا عن قلقهم من اتفاقات وقعتها حكومة مودي مع واشنطن، صارت الهند بموجبها شريكا وحليفا فعليا للولايات المتحدة في جنوب آسيا، لقد اعتبر الصين أن ما أقدمت عليه الهند جزءا مكملا للسياسة الأمريكية الرامية لإحتوائها والتي كانت العنصر الأساسي لتوجهات إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إبان ولايته الثانية. ولهذا قاموا بزيادة الضغط على حكومة مودي كي تتراجع وتغير انحيازها لواشنطن.

وتخفيفا للتوتر الذي حدث في علاقات البلدين بسبب حادثة هضبة دوكلام أرسل مودي وزير خارجيته "سوبرامانيام جايشنكار" إلى بكين كي يؤكد للصينيين أن الهند لا تريد التصعيد وأنها ملتزمة بحل أي خلافات بالطرق السلمية من خلال آليات رفيعة المستوى. مهدت تلك الزيارة عقد قمة غير رسمية بين زعيمي البلدين بمدينة "ووهان" الصينية في ابريل 2018، حيث تمت مناقشة الخلافات وكيفية إدارتها.

غير أن نيودلهي مضت قدما في تعزيز علاقاتها مع واشنطن، فوقعت في سبتمبر 2018 اتفاقية جديدة مع الولايات المتحدة خاصة بأمن المعلومات والاتصالات (CISMOA)، علما بأنها كانت قد وقعت في أغسطس 2016 اتفاقية مماثلة حول التبادل اللوجستي (LEMOA).

وعليه فإنه حينما انعقدت القمة غير الرسمية الثانية بين مودي وشي جينبيغ بمدينة "ماهاباليبورام" الهندية في أكتوبر 2019، لم يتمخض عنها شيئا، بل بدت فاشلة بكل المقاييس، بدليل أن الزعيم الصيني زار نيبال مباشرة بعد القمة، ومن هناك وجه تحذيرا شديدا قال فيه:"أي شخص يحاول تقسيم الصين في اي جزء من البلاد سوف ينتهي به الأمر إلى أجساد محروقة وعظام محطمة"، حيث أعتبر كلامه موجها إلى التعاون الهندي ــ الأمريكي المطرد، بل إلى الهند تحديدا لاسيما بعد إطلاق وسائل الإعلام الهندية الموالية لحزب مودي الحاكم حملة دعائية ضد الصين وسياساتها ومشرعها الإستراتيجي المعروف باسم "الحزام والطريق"، دعك من إقدام نيودلهي في أكتوبر 2020 على توقيع اتفاقية رابعة مع واشنطن حول التعاون والتبادل الاستخباراتي (BECA)، تكملة وتعزيزا لإتفاقية وقعت في عام 2002 حول امن المعلومات.

مضى مودي في توثيق علاقات بلاده مع الولايات المتحدة دونما اكتراث بملاحظات واعتراضات الصين، مشددا على أنه لا يحق لأي دولة أن تملي إرادتها على الهند وسياساتها وعلاقاتها الخارجية، وواثقا من أن علاقته الوثيقة مع الإدارة الأمريكية ستؤمن لبلاده وصولا تفضيليا إلى الأسواق والاستثمارات والتكنولوجيا الأمريكية.

ونختتم بالقول أن سياسات مودي هذه لها معارضون كثر داخل الهند، خصوصا من اليساريين والشيوعيين، وأتباع "حركة عدم الإنحياز" النهروية (نسبة إلى جواهر لال نهرو) وغيرهم ممن يزعمون اليوم أن مودي اكتشف مؤخرا أن التحالف والتعاون الهندي ــ الأمريكي لم يفد الهند بشيء، خلافا لتوقعاته، فاستدار إلى الصين، محاولا التفاهم والتعاون معها، في إشارة إلى اجتماعه بنظيره الصيني على هامش قمة بريكس الأخيرة.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2024م