الخميس، 29 فبراير 2024

مستشارٌ كبيرٌ لبايدن: أخطأنا في الردّ على السابع من تشرين ثانٍ، لا ثقةَ لي بحكومة إسرائيل


كتب أ. د. حسيب شحادة ـ جامعة هلسنكي


هذه ترجمة عربيّة لما ورد في صحيفة هآرتس الإسرائيليّة اليوميّة، العاشر من شباط 2024، عن نيويورك تايمز

”أوضح نائب رئيس مجلس الأمن القوميّ، جون فاينر، في لقاءٍ له بزعماء عرب أمريكيّين في مشيغان، بأنّ الإدارة الأمريكيّة امتنعت عن إدانة تصريحات كِبار المسؤولين الإسرائيليّين، لأنّه أراد التركيزَ على الحلّ، وليس على الجانب الخطابيّ. 

اِعترف أحدُ كِبار مُستشاري إدارة بايدن، جون فاينر، هذا الأسبوعَ في اجتماعٍ مغلق مع زعماء عرب أمريكيّين في ولاية ميشيغان، بأنّ الإدارة ”ارتكبت أخطاء“ في طريقة ردّها على الحرب في قطاع غزّة، منذ المراحل الأولى بعد السابع من تشرين ثانٍ. وأضاف: ”نحن نُدرك جيّدًا أنّنا اقترفنا أغلاطًا في الردّ على الأزمة التي نجمت. لقد ترك الردّ الأمريكيُّ انطباعًا سيّئًا للغاية، بكلّ ما يتعلّق بالقيمة الكبيرة التي يكنّها الرئيس، والإدارة، وكلّ الولايات المتّحدة لحياة الفلسطينيين“.

تطرّق فاينر، الذي يشغَل منصبَ نائب رئيس مجلس الأمن القوميّ، في حديثه بنحوٍ خاصّ، إلى بيان بايدن الصادر في الرابع عشر من شهر كانون الثاني، والذي صدر بمناسبة ذكرى المائة يوم لنشوب للحرب. وركّز البيان على وضع المخطوفين/الرهائن الأمريكيّين والإسرائيليّين المحتجَزين في غزّةَ، ولم يُشِر إلى الفلسطينيّين الذين قُتلوا منذ نُشوب الحرب. وأردف قائلًا:”لا يوجد أيُّ عُذر لهذا، هذا كان يجب ألّا يحدث، وأُومن أنّه لن يحدُثَ مرّةً أخرى. نحن نعلم أنّ ضررًا فادحًا قد حصل“. 

وأضاف فاينر في اجتماعه، أنّه كان على الإدارة الأمريكيّة، أن تُدين بشكلٍ علنيّ وفي مرحلة أقدم، تصريحاتِ كِبار المسؤولين الإسرائيليّين، الذين، على حدّ قوله، شبّهوا ”سكّان غزّة بالحيوانات“. وأوضح أنّ الإدارة امتنعت عن القيام بذلك، لأنّها كانت تُحاول العمل مع الحكومة في إسرائيل وأرادت ”التركيز على حلّ المشكلة وعدم الانخراط في الخطابات“. ولم يوضح فاينر من يقصِد، لكن وزير الدفاع، يوآف غالانت، قال في الأيّام الأولى للحرب: ”نحن نقاتل حيواناتٍ بشريّةً ونتصرّف على هذا الأساس“.

لا ريب أنّ القارىء يودّ أن يعرف ما كان ردّ أولئك الزعماء العرب الأمريكيّين؟  ثمّ هل ما ورد أعلاه يُقنع الأمريكيّ من جهة، والعربيّ من الجهة الأُخرى؟ هلِ الأقوال تغيّر أمِ ----عال؟


الأربعاء، 28 فبراير 2024

جبهة عالمية تتشكل ضد الهيمنة الأمريكية والعنصرية الإسرائيلية

 


بقلم راسم عبيدات

ما لمسناه من الموقف القوي الذي اتخذه الرئيس البرازيلي لولا دي سلفيا  ضد دولة الإحتلال" الإسرائيلي"،حيث وصف ما يرتكب من جرائم من قبلها  بحق الأطفال والنساء والمدنيين  الفلسطينيين في قطاع غزة بالإبادة الجماعية،هذه الأقوال دفعت بحكومة الإحتلال لشن حملة على الرئيس البرازيلي واصفةتصريحاته تلك بالوقحة والحقيرة،والتي في نهايتها أدت الى قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين،وكذلك التبدلات الملحوظة  في المواقف الصينية والروسية على صعيد قضية أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر وبحر العرب،رغم تضرر الصين إقتصادياً من إغلاق اليمن " جماعة انصار الله" للبحر الأحمر في وجه السفن التي تحمل البضائع الى "اسرائيل" ولتطال العقوبات لاحقاً السفن الإمريكية والبريطانية، لقيامها بالعدوان المستمر على اليمن،حيث أكد وزير الدفاع اليمني في حكومة تصريف الأعمال محمد العاطفي، بأن اختزال الجغرافيا وادعاء الوصاية الأمريكية والبريطانية و"الإسرائيلية" على البحر الأحمر أصًبح أمراً غير مرغوب وغير مرحب به،وبان الأمن البحري للبحرين الأحمر والعربي أُعيدت صياغته بشكل سليم،وكذلك موقف المندوب الصيني في المرافعات التي جرت في محكمة العدل الدولية،والتي قال فيها بأن من حق الشعب الفلسطيني استناداً  الى قرارات الشرعية الدولية ، إستخدام كل أشكال وأسالب النضال بما فيها الكفاح المسلح من أجل استعادة حقوقه،وبأن "اسرائيل" دولة محتلة لا يحق لها الدفاع عن نفسها،وكذلك قيام روسيا بإهانة احد الدبلوماسيين " الإسرائيليين" في مطار موسكو وتفتيشه بطريقة مذلة،وأيضاً تزويد ايران لروسيا بمئات الصواريخ الباليستية،وكذلك الزيارات التي قامت بها وفود من حركة حماس والجهاد الإسلامي،أكثر من زيارة لموسكو،ولقاء القادة الروس،والدعوة الروسية ل 14 فصيلاً فلسطينياً الى موسكو،من أجل العمل على تحقيق مصالحة فلسطينية شاملة عبر حوار وطني شامل،تمتد من 29 شباط الحالي وحتى الثاني من آذار القادم، وهذا يؤكد  على أن روسيا باتت لاعب أساسي في الساحة الفلسطينية،وفي أية حلول سياسية .

وكذلك سبق ذلك قيام دولة جنوب افريقيا في أواخر عام 2023 برفع قضية  ضد " اسرائيل"  أمام محكمة العدل الدولية،بتهم إرتكاب ابادة جماعية بحق سكان قطاع غزة  ....وتوسع مفاعيل هذه الجبهة العالمية على المستوى العالمي،لتطال الكثير من شعوب دول العالم ،حتى التي تشكل دولها جزء من التحالف مع "اسرائيل" في الحرب العدوانية المستمرة على الشعب الفلسطيني،وهي المرة الأولى التي تخسر فيها " اسرائيل" الرأي العام الأوروبي،وربما الشبابي الأمريكي.

هذه الجبهة التي إنطلقت شرارتها ،نتيجة إنكشاف حجم ما ارتكبته " اسرائيل" من مجازر وجرائم بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة،ولعل العامل الحازم في هذه الجبهة هو  حالة الصمود الإسطوري  للمقاومة الفلسطينية في وجه اعتى آلة حرب عسكرية في المنطقة...كل هذه الأمور  وسعت من دائرة الجبهة العالمية  المناصرة للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني  ،حيث تشمل العديد من دول امريكا اللاتينية مثل بوليفيا وتشيلي وكولومبيا وفنزويلا  يضاف لها كوبا والبرازيل وايرلندا ...ولتمتد هذه الجبهة الى الإقليم حيث تقف في المقدمة ايران  وهناك عربياً الجزائر والعراق وسوريا .


الحادثة التي شهدناها أول أمس الأحد 25/2/2024 بقيام أحد الجنود الأمريكان بإحراق نفسه أمام السفارة "الإسرائيلية" في واشنطن ،إحتجاجاً على ما قاله  الشراكة الأمريكية مع " اسرائيل" بإرتكاب جرائم الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة،حيث كان يهتف "فلسطين حرة"...هذه العملية التي أقدم عليها هذا الجندي الأمريكي ذو البشرة البيضاء ،نخب أول وشعر اشقر وعيون زرقاء،وليس "سحنة" سمراء او حمراء، عرت أمريكا وفضحتها اخلاقياً وإنسانياً وسياسياً،وهي التي تدعي التمسك بقيم الإنسانية والدفاع عن حقوق الأطفال والنساء،والتمسك بقيم العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان،أمريكا التي زادت عزلتها وإنكشاف دورها المشارك في الحرب العدوانية "الإسرائيلية" ،وعدم منعها لإرتكاب المزيد من الجرائم بحق المدنيين، بإستخدامها لحق  النقض" الفيتو" ثلاث مرات ضد قرارات تدعو لوقف إطلاق النار في قطاع غزة لدواعي إنسانية،وكذلك تزويدها ل" اسرائيل بالمساعدات العسكرية وبأحدث الأسلحة والذخائر،بما في ذلك صواريخ موجهة وقنابل ذكية زنة 2000 رطل خارقة للتحصينات،وأيضا الدعم المالي بمليارات الدولارات والغطاء السياسي والإعلامي و المساعدات الإستخبارية واللوجستية،وتبني الرواية والسردية " الإسرائيلية"،الجندي الأمريكي أورون بوشنل،هو استشهد دفاعاً عن الإنسانية،في صحوة ضميرية عبر عنها بحرق نفسه.

وايضاً في هذا الإطار قام المزارعون في بلجيكا بحرق اطارات قرب مقر المجلس الأوروبي في بروكسل احتجاجاً على السياسات الإقتصادية والإجتماعية  الأوروبية ودعمهم للحرب العدوانية على الشعب الفلسطيني وللجرائم التي يتعرض لها.

وحتى داخل دولة الإحتلال نفسها وجدنا الفتاة صوفيا أور (18 عاماً) ،أول فتاة إسرائيلية تدخل السجن لرفضها الخدمة العسكرية بسبب معتقداتها السياسية،وفي تصريحات سابقة لها،قالت صوفيا "في 25 فبراير/شباط تاريخ تجنيدها،سأرفض التجنيد وسأدخل السجن العسكري بسبب ذلك، فأنا أرفض المشاركة في سياسات القمع والفصل العنصري العنيفة التي فرضتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، وخاصة الآن مع الحرب".

وعلى خلفية هذا الموقف تلقت صوفيا بعد إعلانها موقفها تهديدات بالقتل والاغتصاب واتهامها في مواقع التواصل بالخيانة، ووصفها أصدقاؤها بأنها يهودية كارهة لذاتها.

وسبق أن حُكم على الشاب تال ميتنيك، البالغ من العمر 18 عاما من تل أبيب، بالسجن 30 يوما لرفضه التجنيد في الجيش بعد أن أدان العدوان على غزة، ووصفه بأنه "حملة انتقامية.. ليست فقط ضد حركة حماس، بل ضد الشعب الفلسطيني".

لأول مرة  دولة الإحتلال تهزم على صعيد الرواية والسردية،وكذلك على صعيد الرأي العام العالمي،حيث كانت الشعوب الأوروبية الغربية والشعب الأمريكي،في ظل غياب الرواية والسردية الفلسطينية،والسيطرة المطلقة "الإسرائيلية" على الفضائين الإعلامي والثقافي في تلك الدول، بفضل قوة لوبياتها الصهيونية وتغلغلها في المراكز القيادية وصناعة القرار في تلك الدول ،والسيطرة المالية والإقتصادية،ينحازون ويتبنون الرواية والسردية " الإسرائيلية" ،وكل من ينتقد دولة الإحتلال، يتعرض الى حملة شرسة ،تفقده وظيفته او موقعه ،ف"اسرائيل" كانت بمثابة " البقرة المقدسة"،التي لا يجوز الإقتراب منها بالإنتقاد  او الإدانة،وكل من يقدم على ذلك يتهم باللاسامية والعنصرية والحقد على اليهود.

الجبهة العالمية تتسع وتتمدد لتطال مؤسسات أكاديمة وجامعات،تدعو لمقاطعة الجامعات " الإسرائيلية" وفك علاقات التعاون والتبادل الثقافي والعلمي  معها،وكذلك وجدنا على خلفية الجرائم " الإسرائيلية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني ،بأن هناك مئات المحامين من مختلف دول العالم تجندوا من أجل رفع قضايا على قادة دولة الإحتلال في محكمة الجنايات الدولية،بتهم إرتكاب جرائم حرب ، إستناداً الى ما تخلص اليه محكمة العدل الدولية من قرارات، يبنى عليها ويسترشد بها في محكمة الجنايات الدولية في توجيه الإتهامات لهؤلاء القادة "الإسرائيليين" .

في الوقت الذي تتوسع فيه هذه الجبهة العالمية ضد دولة الإحتلال، ضد الهيمنة الأمريكية والعنصرية "  الإسرائيلية" ،وفي ظل أزدياد حملات المقاطعة لها والدعوة لفرض عقوبات عليها،نجد ان دول النظام الرسمي العربي والعديد من الدول الإسلامية،بدلاً من أن تسهم في هذا الجهد وان تكون السباقة في هذا الجانب من منطلقات الأخوة والإنتماء الوطني والقومي والعقائدي والديني، لم تقم بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع " اسرائيل"،بل وجدنا بان العديد منها تقدم بالإلتفاف على الحصار الإقتصادي التي تفرضه جماعة " انصار الله "  اليمنية على السفن التي تحمل البضائع الى "اسرائيل" بمنعها من المرور عبر البحر الأحمر،من خلال قيامها  بإقامة جسر بري ينقل البضائع الى " اسرائيل" عبر الشاحنات،بعد ان تقوم السفن بإفراغ حمولتها في الموانىء الإماراتية والبحرانية.

الجمعة، 23 فبراير 2024

انتخابات المجالس المحلية في اسرائيل بين حربين : غزة وصناديق الاقتراع




كتب جواد بولس:

من المقرر ان تجري انتخابات السلطات البلدية والمحلية في اسرائيل في السابع والعشرين من شهر شباط فبراير الجاري؛ بعد أن تم تأجيلها، بسبب ظروف الحرب على غزة، من تاريخ 31/10/2023 الى الثلاثين من يناير/ كانون الثاني الماضي؛ وتأجيلها، لنفس الاسباب، مرة ثانية وتثبيتها نهائيا يوم الثلاثاء القادم. 

يناهز عدد المواطنين العرب في اسرائيل المليوني شخص؛ وهذا الرقم يشمل مواطني البلدات العربية في الجولان المحتل وكذلك مواطني القدس الشرقية الفلسطينيين، علمًا بأن الأغلبية الساحقة من هاتين الفئتين لا تشارك في الانتخابات البلدية، بالرغم من أن القانون الاسرائيلي يسمح لهم بذلك.  

يعلق بعض المحللين الاسرائيليين أهمية كبيرة على نتائج الانتخابات المحلية المقبلة، وبعضهم يأمل ان تحمل مؤشرًا هامًا حول تحفظ المواطنين في المجتمع اليهودي من حكومة نتنياهو والأحزاب الشريكة بها، خاصة في واقع يتمسك فيه نتنياهو وائتلافه بالحكم ويرفض الالتزام بتعيين موعد محدد لانتخابات الكنيست، في حين تطالب جهات عديدة بضرورة اجرائها بعد ما تعرضت له اسرائيل في السابع من اكتوبر وتداعيات الحرب على غزة وتدهور الاوضاع الأمنية والاقتصادية داخل اسرائيل وزعزعة مكانتها الدولية، كما يدعي هؤلاء. 

يبدو أن رهان معارضي حكومة نتنياهو وشركائه على نتائج الانتخابات سيكون خاسرًا؛ فوفق معظم استطلاعات الرأي تبدي الأكثرية الساحقة من المواطنين الاسرائيليين اليهود تعاطفًا مع العمليات العسكرية وأملا بأن ينجح الجيش "بإلحاق الهزيمة الساحقة بحماس"، ولا يهمهم أن تسبب هذه الهزيمة التي يصرون على تحقيقها حرفيا، قتل المزيد من آلاف المواطنين المدنيين، وبضمنهم الاطفال والنساء، وتحويل المناطق التي اعاد الجيش الاسرائيلي احتلالها الى "أرض يباب" والى أكوام من الركام. 

قد يكون السبب الرئيسي لتشاؤمي مما ستفضي اليه نتائج الانتخابات البلدية بشكل عام، وليس في البلدات اليهودية فحسب ، هو نجاح اقطاب حكومة نتنياهو في السنوات الماضية باشاعة قيم سلوكية جديدة داخل المجتمع الاسرائيلي عامة، وترسيخها، عبر السنين، داخل المجتمعات العربية،  كثقافات مهيمنة في تحديد وشائج العلاقات بين المواطن البسيط العادي أو "الطموح" وبين مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسات "الحكم المحلي". فشيوع ظواهر الفساد السلطوي، سواء داخل اروقة السلطة المركزية او السلطة المحلية، وهدم معظم آليات الرقابة والمحاسبة، ووضوح العلاقة بين اصحاب القوة والمال وبين رجالات السلطة، كلها عوامل أدت الى نشوء حالة من النكوص الاجتماعي الخطير والى نشوء انماط من الشخصيات السلبية، مثل شخصية العربيد والبلطجي أو المهزوم أو الانتهازي أو المساوم او المهادن ؛ وأدت كذلك، الى تخلص أكثرية الأفراد من شعورهم بالمسؤولية تجاه مجتمعهم وبلدهم وبحثهم عن فرص لخلاصهم ولسلامة أبناء عائلاتهم، والى لهاث بعضهم، في نفس الوقت، وراء منفعتهم ومكاسبهم حتى لو كان عليهم "ان يبوسوا الكلب من تمه ليأخذوا حاجتهم منه" أو ان "يمشوا الحيط الحيط ويقولوا يا ربي السترة". 

لقد حصلت عملية التفكك في اسرائيل على مراحل، وكانت تداعياتها داخل البلدات العربية واضحة ونتائجها الكارثية ملموسة، لا سيما في حالة المجالس المحلية وانتخاباتها. وقد تزامنت العملية مع خلخلة البنى السياسية الفاعلة داخل مجتمعاتنا واندثار معظمها بشكل تام أو تحوّل ما تبقى منها الى مجرد هياكل لا تستطيع الذود بنجاعة عن مصالح المواطنين، وفي بعض الحالات الى عامل مساعد يقف الى جانب القوى الهدامة والفاسدة ويكون حليفًا لها، أو تحولها الى عثرات في وجه أي تغيير سياسي ايجابي مرغوب أو مرتجى.  

تعاني سلطاتنا المحلية العربية من أوضاع اقتصادية صعبة ومزرية، تقف وراءها بالاساس سياسات حكومات اسرائيل العنصرية المتعاقبة وتمييزها الممنهج ضد مواطنيها العرب، سواء في شح الميزانيات العامة، او في استبعاد مجتمعاتنا من مخططات التطوير والبناء واهمال قضية امن المجتمع وسلامة أفراده. وقد كانت تلك السياسات العنصرية محاور صدام مستديم مع مؤسسات الدولة، أو ميادين للمواجهات البرلمانية والقضائية حينًا أو الشعبية عندما وقفت فيها الجماهير وراء قياداتها السياسية والاجتماعية وطالبت بحقوقها العامة والفردية، واهمها الحق بالعيش بكرامة وبأمن وبحرية وبمساواة. لقد ظل هذا الحال الى ان وقع الانهيار السياسي وبدأ السقوط السريع نحو الهاوية.  


وتعاني سلطاتنا المحلية أيضًا من أوضاع ادارية مختلة، لا يصعب على أي فرد وأية جهة تشخيص معالمها او تحديد مسببيها ولا من المنتفعين من استمرارها. فلن يختلف اثنان على أن المستفيدين مما وصلت اليه احوال مجالسنا المحلية هم من لا يخافون على مستقبل أولادنا ولا يريدون لنا التقدم ولا العيش بكرامة من دون خوف وباستقرار في وطننا. هؤلاء هم من رسموا سياسات التمييز والقمع والعنصرية ونفذوها بحق اهلنا وحقنا؛ وهم من سعوا الى زرع بذور الفساد والافساد داخل مجتمعنا، وهم من قوضوا اسس قلاعنا وهدموها . لكنهم ما كانوا لينجحوا ويحققوا ما حصدوه لولا مساعدة أعوانهم المحليين وزمر المتآمرين معهم والمستفيدين من اشاعة حالات الفوضى والخلل والشك وترسيخها داخل ادارات المجالس ومن ثم نقلها كسلوكيات سائدة على اشكال من العنف والانتهازية والنفعية والفردانية الى داخل مجتمعاتنا.

لقد حصل هذا بعد  انحسار دور الاحزاب والحركات السياسية وغيابها الكامل عن تأدية دور المرشد المركزي والبوصلة في الانتخابات البلدية أو ، على الاقل، دور المؤثر على سيروراتها كما كان لعقود. وحصل ذلك بسبب ضعف منظمات وجمعيات المجتمع المدني، ذات العلاقة في المحافظة على وعي المجتمع ولحمته وسلامته وحقوقه، وانغماس عناصرها في تأدية وظائف مؤسساتهم بروتينية تكنوقراطية هادئة وغير مؤذية او غير متحدية لعناصر الشر المنتشرة داخل مجتمعاتنا. وحصل كذلك بعد ان كثرت ظواهر التدين السياسي المهادن الذرائعي، او الصدامي المتزمت، او الطائفي المفرق، وقلّ دور الدين وقيمه السامية.  

يعاني مجتمعنا من عدة آفات، بيد ان اخطرها هي، من دون شك، ظاهرة تفشي العنف واعمال القتل على انواعه، والتي باتت تهدد استقرار المواطنين وتدفعهم لأعادة حسابات البقاء والرحيل حتى اصبحت قضية "مسقط الرأس" مسألة ملتبسة المعنى والمقصد، فأي مسقط تعنيه وأي رأس تحميه؟

لقد توحدت معظم الأصوات العربية المحلية وحمّلت اجهزة الدولة جميعها وخاصة الشرطة، كامل المسؤولية عن ولادة ظواهر العنف والقتل، وبعضهم اتهم الشرطة بالتواطؤ مع الظاهرة وبغض نظرها عن المتورطين فيها، والا لما وصلت اعداد ضحايا العنف لما وصلت اليه اليوم .

 لا يمكن، وفق قواعد المنطق وامتحان النتائج، الاختلاف مع هذه المشاعر ومساءلة هذا الافتراض؛ لكنني ارى الآن كما رأيت قبل سنوات ان الاكتفاء بهذه الاتهامات وتأكيدها بعد كل جريمة قتل، لم ولا يكفي ولن ينقذ مجتمعنا من استمرار سقوطه في بحور الدم ونحو الهاوية. فقد لاحظ الكثيرون منذ ما يقارب العشرين عامًا اهمية ومكانة المجالس المحلية، وكونها بمثابة "الدجاج البياض، او مناجم الذهب" ونوهوا بدورها المحتمل في تأجيج ظواهر العنف وتسعير شهيات الطامعين بخيرها وبمقدّراتها؛ وحذر هولاء من الاكتفاء باللجوء الى اتهام الشرطة وحسب، اذ انه مهما كان الاتهام صائبًا يجب ألا يعفينا من تحمل مسؤولياتنا في مواجهة ما يصيبنا من آفات، خاصة آفة العنف المستشري بيننا، فكثير من الحق يقع على مؤسسات مجتمعنا ونخبه وقياداته.  

سوف تجري الانتخابات بعد ثلاثة أيام وسنرى كيف ازداد سوء احوال بلداتنا سوءًا، وكيف تمادى العنف طول عنقين وأكثر؛  فكيف لنا ان ننتظر غير هذا الممكن في زمن تجري فيه حربان، واحدة دامية في غزة واخرى نازفة في مجالس بلداتنا وشوارعها، وما قلناه عنها  قبل دهر ما زال اليوم صحيحًا، لأن أي " رئيس ينتخب على ظهر صفقات انتخابية مشبوهة ويمارس بعدئذ رئاسته ستبقى هذه الصفقات نيرًا على رقبته وستمنعه من ان يقف حرا في وجه هذه الممارسات ومن يمارسونها. ورئيس يمارس او يستعين بحاشية من البلطجية قبل وخلال انتخابه لا يحق له ان يشكو البلطجية اذا عاثوا خرابا ورعبا في شوارع بلدته واعتدوا على حرمات اهل البلد. ورئيس يمارس سياسة المحسوبيات والتفرقة "العنصرية " وفق من معه ومن ضده من أبناء بلدته، لا يستطيع ان يدّعي جدية في مقارعة سياسة الشرطة العنصرية. ورئيس يعبث وادارته في موارد مجلسهم ويوزعها وفق مصالحه ومصلحة كتل ائتلافه، لا يستطيع ان يتحدى بأهلية بيكار ومساطر لجان التنظيم الاسرائيلية، اللوائية والقطرية، ولا قرارات وزارت الدولة العنصرية. ورئيس أو نائب يقومان بتقسيم راتبيهما كي يشتريا ذممًا لن يستطيعا ان يشكوا او يستهجنا صمت وتواطؤ الشرطة، واذا تجرأ قد يأتيه من يقول له  :"لقد دفناه سويًا" .  

سوف يشارك ما يقرب من المائة وثلاثين بلدة عربية ومدينة مختلطة في الانتخابات المقبلة. لن نجني عسلا من هذه الانتخابات؛ فالزمن زمن الحربين والشرطة هي الشرطة، بل انها أسوأ. والمجالس ما زالت تعامل كمناجم للفضة وللرصاص، والكراسي ما زالت من جاه ومن خشب، والمواطنون عربًا من قبائل وأحلاف وايلافات يؤمن رجالها بالغيب وبالجيب وبالسيف وبالمقبرة . هكذا كان؛ والآتي سوف يكون أعظم وأخطر !

الأربعاء، 21 فبراير 2024

الذكاء الاصطناعي في القمة العالمية للحكومات


 

بقلم: د. عبدالله المدني*

منذ انطلاقتها قبل عقد من الزمن، تحولت "القمة العالمية للحكومات" إلى واحدة من أبرز المنصات الدولية تأثيرا وقدرة في مجال استشراف المستقبل وملامسة فرصه وتوجهاته وتحدياته، ومكانا راسخا لتوقيع الكثير من اتفاقات التعاون والابتكار بين الحكومات والمؤسسات الدولية والإقليمية والمراكز والجهات البحثية الخاصة المشاركة، وهو ما جعلها قصة نجاح أخرى تضاف إلى قصص النجاح الكثيرة لإمارة دبي، أو كما قال سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي/ رئيس المجلس التنفيذي عبر منصة "إكس": "القمة العالمية للحكومات قصة نجاح بدأت من دبي وأصبحت اليوم الحدث الأهم في استشراف مستقبل العمل الحكومي دوليا".

وفي دورتها الجديدة، التي عقدت في مدينة الجميرة بدبي في الفترة من 12 إلى 14 فبراير الجاري، وكان لي شرف حضورها، ضمن نحو 4000 مشارك من النخب الفكرية من قادة الحكومات والوزراء وكبار المسؤولين وصناع القرار ورواد الأفكار والمختصين في الشؤون السياسية والتنموية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية من مختلف دول العالم، يتقدمهم رؤساء تركيا وراواندا وسيشيل وزيمباوي وموريشوس ومدغشقر والمالديف وقيرغيزستان، ورؤساء حكومات مصر والعراق وليبيا والهند وألبانيا، والأمناء العامون لمجلس التعاون وجامعة الدول العربية ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة التعاون والتنمية الإقتصادية ومدير صندوق النقد الدولي، اختصر رئيس القمة/ وزير شؤون مجلس الوزراء بدولة الإمارات معالي محمد عبدالله القرقاوي في كلمته الإفتتاحية، أوضاع العالم قائلا ما مفاده أنه على الرغم من الظروف والتحديات العالمية الصعبة، فإن العالم يعيش حقبة بشرية هي الأفضل والأكثر أمنا ورفاها وصحة وفرصا في تاريخه، ومستعرضا بعضا من هذه الايجابيات مثل تضاعف عمر الإنسان، وامكانية الحصول على العلاج والدواء خلال وقت قصير، ووجود علاجات مبتكرة لأمراض كثيرة، وتقلص عدد الدول الفقيرة إلى النصف خلال العقدين الماضيين، وانخفاض معدلات الفقر بنسبة 50 بالمائة، ومحو أمية 86% من البشر، وظهور أكبر طفرة معرفية من آياتها نشر 120 ألف كتاب جديد كل شهر، وكتابة 6 ملايين مقال على المدونات يوميا، وتسجيل 33 مليون براءة اختراع خلال عقد واحد. 

وأشار معاليه إلى أن نحو 17 تريليون دولار أنفقت خلال الفترة على الحروب والصراعات والنزاعات (لو أنها انفقت على مجالات التنمية والعلوم والابتكارات لتخلصت البشرية اليوم من الجوع والفقر والأوبئة والأمراض المستعصية)، وإلى أن 50% من النمو العالمي يأتي من الصين والهند وحدهما، و7% من الناتج المحلي العالمي يذهب لسد تكاليف التجارة، وأن قدرة الذكاء الإصطناعي تضاعف 1000 مرة خلال عام واحد. 

وكما جرت العادة، كل عام، ازدحم جدول أعمال القمة بعشرات الجلسات والحوارات لتقديم رؤى مستقبلية في مجالات الابتكار والاستثمار والأسواق والتبادل المعرفي والتكنولوجي والنقل والطيران وحماية الطبيعة والاقتصاديات الرقمية والمدن الذكية والتحول الأخضر والتخطيط العمراني والطاقة والفضاء والتعليم والشباب والرياضة والوقاية الصحية، إلا أن قمة هذا العام تميزت بجلسات عدة كان محورها "الذكاء الإصطناعي"، وهو موضوع بات يستحوذ على إهتمام العالم ويثير الكثير من الجدل والنقاش والتساؤل بسبب كثرة تطبيقاته ومهامه ومعالجاته من جهة ومنافسته للذكاء البشري في التعلم والابداع والتعرف على المشكلات المعقدة وحلها من جهة أخرى.

ولا أدل على ذلك من تخصيص أكثر من 8 جلسات متفرقة لموضوع الذكاء الإصطناعي، حملت عناوين عكست التساؤلات التي تدور حوله مثل: "من سيقود مستقبل الذكاء الإصطناعي؟"، و"كيف سيشكل الذكاء الإصطناعي المشهد الاقتصادي العالمي؟"، و"هل يمكن للذكاء الإصطناعي الاستغناء عن البشر؟"، و"في عصر الذكاء الإصطناعي .. كيف نصمم الهوية؟"، و"كيف تنمي الحكومات المواهب في عصر الذكاء الإصطناعي؟"، و"هل سيقود الذكاء الإصطناعي إلى نهاية العالم؟" و"كيف نقرب المسافات بين الذكاء الإصطناعي والمجتمعات؟"، علاوة على جلسة خاصة في صورة طاولة مستديرة حملت عنوان "إعادة الخدمات الحكومية والخاصة في عصر الذكاء الإصطناعي".

والحقيقة أن الانقسام حول الذكاء الإصطناعي، بين من يدافع عنه ويتحمس له ويعتبره ثورة في عالم الابتكار والحلول، وبين من يحذر من مخاطره ويناشد بوضع ضوابط تنظيمية له كيلا يلغي دور البشر في الابتكار، هو انقسام لا يمكن التوافق حوله بين المعسكرين، خصوصا وأن هناك من يحمل لواء المعارضة من منطلقات ايديولوجية مناهضة لشركات الأعمال وأرباب الصناعة ومحابية للطبقة العاملة، بمعنى أن الذكاء الإصطناعي يوفر ذريعة لأصحاب الأعمال للإستغناء عن العمال أو تهميشهم أو إجبارهم على قبول شروط مجحفة.



د. عبدالله المدني

أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: فبراير 2024م



الثلاثاء، 20 فبراير 2024

جو بعيني رئيس المجلس العالمي لثورة الارز يوجه رسالة مفتوحة من أجل إنقاذ لبنان


واشنطن في   20 شباط 2024

من المعروف بأن "كثرة الطباخين يفسد الطبخة". وللأسف فهناك نواب تائهون في عالم سياسي يفوق قدرتهم على الفهم، ناهيك عن المشاركة الفعلية. كما أن هناك منظمات تتأرجح في دعمها الكلامي والعاطفي بما يتوافق مع ضياعها بين ادعاء المعرفة المفبركة وعدم فهم الحقائق التاريخية. وهناك أيضا رجال وسيدات أعمال مستقلون أنشأوا منصاتهم الخاصة لتجديد تلك الممارسة الفينيقية القديمة المتمثلة في بيع أي شيء وكل شيء بما في ذلك أنفسهم من أجل تحقيق مكاسب شخصية؛ والجميع يعرف من نقصد، ومنهم الذين يزعمون أنهم مؤيدون لسيادة لبنان ومع ذلك يتعاطفون مع إرهاب حزب الله الذي يسيطر على وطنهم ويدمره.

إن العالم اللبناني في الداخل وبلاد الانتشار يعرف كل ما ينشر عن الانتماء اللبناني وانتماءات مختلف المجموعات اللبنانية حول العالم. 

ولكننا وفي كل مناسبة أصدرنا فيها بياناً أو مقالاً، دافعنا عن مستفيد واحد فقط وهو الشعب اللبناني.

لقد أعربنا بكل تأكيد عن تأييدنا غير المشروط لدعوة غبطة البطريرك الكاردينال بشارة بطرس الراعي، لأن يصبح لبنان دولة محايدة تحظى بحماية الأمم المتحدة.

إننا نمقت أعمال الحرب الشاملة التي تذبح الأطفال الأبرياء، وتدمر الأسر الكريمة وتخرب مناطق ودول بأكملها من أجل إرضاء أهواء الطغاة المهووسين الذين يجسدون الدكتاتورية. لكننا نتردد في تقديم الدعم لأي طرف في الصراع، عندما نبدأ في قراءة مقالات لأشخاص يفترض أنهم أذكياء يسعون إلى سحب لبنان من جانب إلى آخر، وهؤلاء الكتاب أنفسهم يغيرون الدعم والانتماءات لصالحهم ولتحقيق مكاسب شخصية فردية، فقد حان الوقت لدق ناقوس الخطر وإضفاء المصداقية على القضايا والأهداف الحقيقية.

على الرغم من حيادنا والتزامنا تجاه لبنان حصرا، فإننا نود أن نذكر الجميع أنه ومنذ وقت ليس ببعيد، كانت هناك حركة عدوانية واسعة النطاق سياسيا وعسكريا من جانب منظمة التحرير الفلسطينية للسيطرة على لبناننا الحبيب. لقد فقد آلاف الأشخاص أرواحهم دفاعاً عن سيادة لبنان واستقلاله.

كل دول العالم اليوم تعرف بأن إيران، ومن خلال وكيلها منظمة حزب الله الإرهابية، تعمل بشكل واضح وحقيقي لضم لبنان بالكامل إلى محور الشر الخاص بها، والتخلص من المسيحيين في لبنان أو إخضاعهم واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثالثة في بلدهم. 

إننا ننصح جميع الأطراف المهتمة والتي تدعي الولاء للبنان أن تتأكد من أن كل مقال مكتوب وكل بيان يتم الإدلاء به موجه حصراً لحماية سيادة لبنان واستقلال ومجد شعبه.


جو بعيني  رئيس المجلس العالمي لثورة الارز


السبت، 17 فبراير 2024

سياسة.. أصدقاء للجميع ولا أعداء لأحد

 


 بقلم: د. عبدالله المدني*

هناك ثمة كيانات مستقلة في شكل جزر متناهية الصغر في المحيد الهاديء مثل: بالاو، ميكرونيسيا المتحدة، ، جزر سليمان، نارو، جزر مارشال، فانواتو، توفالو، فيجي، كيريباتي، تونغا، ساموا، نييوي، جزر كوك، علاوة "بابوا غينيا الجديدة" التي تعد أكبرها مساحة. هذه الكيانات، التي تتمتع بعضوية الأمم المتحدة ولها نفس حقوق الدول الكبرى في الجمعية العامة للأمم المتحدة لجهة التصويت، تجد نفسها اليوم واقعة تحت ضغوط مصدرها الحرب الباردة الجديدة بين العملاقين الأمريكي والصيني، والتي تفرض تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية عليها أن تتخذ موقفا حذرا كيلا تتحول إلى وقود للحرب المشتعلة بين واشنطن وبكين، أو ساحة شد وجذب بينهما.

مؤخرا، لوحظ بروز توجه لدى معظم هذه الدول نحو تبني شعار "أصدقاء للجميع ولا أعداء لأحد"، (Friends to all and enemies to none) إيثارا للسلامة. ويذكرنا هذا الشعار بشعار "لا شرقية ولا غربية" الذي تبنته في ستينات القرن العشرين مجموعة الدول الأفريقية والآسيوية المستقلة المؤسسة لما عرف وقتذاك بـ "حركة الحياة الإيجابي" أو "حركة عدم الانحياز" من أجل تفادي تأثيرات الحرب الباردة بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وإنْ أفرغ بعضها الشعار من محتواه بانحيازها إلى سياسات واستراتيجيات أحد الطرفين.

تبلور هذا التوجه في الإجتماع الثاني والخمسين لمنتدى جزر المحيط الهاديء الذي انعقد مؤخرا في "رارو تونغا" بجزر كوك، بحضور أستراليا ونيوزيلندا، (بحكم عضويتهما في المنتدى كونهما أقرب جارتين كبيرتين جغرافيا للدول الصغيرة الأعضاء)، حيث أكد معظم القادة المجتمعين أن دولهم باتت تنزلق على نحو متزايد إلى ملعب جيوسياسي لإستعراض القوة بين بكين وواشنطن، وأن الوضع المعقد يتطلب تبني سياسة "أصدقاء للجميع ولا أعداء لأحد"، إزاء القطبين الصيني والأمريكي وكل الشركاء الثنائيين ضمانا للمصالح الوطنية القصيرة والطويلة، وتأكيدا "لحيادنا خلال هذه الفترة من التنافس الشديد"، علما بأن أستراليا ونيوزيلندا ليستا في وارد تبني مثل هذا التوجه كونهما حليفتين للولايات المتحدة.

والمعروف أن هذا المنتدى تأسس في عام 1971، بهدف التعاون وبناء السلام والتصدي للتحديات الفريدة التي تواجهها الدول الأعضاء مثل الأمنين البحري والسيبراني والتنمية المستدامة والحوكمة وتغير المناخ والمساواة بين الجنسين وتمكين الشباب وغيرها. لكن يبدو أن أعضاء المنتدى ليسوا متشابهين في مواقفهم من الصين والولايات المتحدة، فإذا ما تركنا استراليا ونيوزيلندا جانبا، نجد أن بعض دول جزر المحيط الهاديء أقرب إلى بكين منها إلى واشنطن، والعكس صحيح.

وسبب هذا التباين في المواقف هو أن كل دول المنتدى ضعيفة القدرات والإمكانيات، وبالتالي فهي بحاجة ماسة للمساعدات التنموية الأجنبية. ولهذا تسابق الصينيون والأمريكيون على تقديم الدعم، كل لأغراضه الجيوسياسية الخاصة. فالصين مثلا تركت بصمتها في المنطقة من خلال "مبادرة الحزام والطريق" وما يتضمنها من مشاريع للبنية التحتية بتمويل من بنك التصدير والإستيراد الصيني في شكل قروض لدول المنطقة الصغيرة. وعلى حين لوحظ عدم تحمس عدد من دول المنطقة للمبادرة الصينية وقروضها بسبب مخاطر الديون، فإن دولا أخرى مثل "جزر سليمان" و"كيريباتي" رحبت بها وراحت توثق علاقاتها الإستراتيجية مع بكين. ولعل أقوى دليل على ميل هاتين الدولتين نحو الصين قطعهما لعلاقاتهما الدبلوماسية مع تايوان، وهي الخطوة التي ثمنتها بكين، فضاعفت مساعداتها لهما ومنها مساعدات امنية وشرطية لجزر سليمان في عام 2022.

قرعت هذه التطورات جرس الإنذار في واشنطن، فسارعت إلى دعوة قادة المنتدى إلى البيت الأبيض العام الماضي، واستضافت مؤتمرهم في واشنطن لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كما قامت بمشاركة حليفتها الاسترالية بضخ المزيد من الأموال من صناديق الإستثمار العامة لصالح دول المنتدى الصغيرة، تفاديا لسقوطها بيد الصينيين، واستغلالا لإنخفاض الموارد الصينية الرسمية المخصصة لتنمية جزر المحيط الهاديء بشكل ملحوظ منذ عام 2016.

في التفاصيل نجد أن واشنطن تعهدت في قمة المنتدى في عامي 2022 و2023 بضخ أكثر من نصف مليار دولار لمعالجة تغير المناخ في الدول الأعضاء، باعتبارها من القضايا الرئيسية في المنطقة، كما أنها أعربت على لسان سفيرتها لدى الأمم المتحدة " ليندا غرينفيد" عن استعدادها للإستمرار في دعم أولويات دول المنطقة.  وفي مايو 2023 وقعت واشنطن اتفاقية تعاون دفاعي مع بابوا غينيا الجديدة تسمح الأخيرة بموجبها للجيش الأمريكي باستخدام ستة من موانئها البحرية والجوية.

ومن جهة أخرى، أعلنت واشنطن بالتعاون مع كانبرا عن تمويل مبادرة جديدة لكابلات الإنترنت تحت البحر لصالح دول المنتدى الصغيرة، موكلة تنفيذها إلى شركة غوغل الأمريكية العملاقة، ومستهدفة ضمان نظام حر ومفتوح في المنطقة.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: فبراير 2024م




السبت، 10 فبراير 2024

آدم صباغ من واشنطن: طالبنا الرئيس بايدن بالضغط لوقف الحرب


قال المبعوث الخاص للمجلس الأميركي لسياسات الشرق الأوسط، آدم صباغ، إن المجلس يسعى للضغط من أجل معالجة مسألة الصراع بين إسرائيل وحماس، معبراً عن قلقه إزاء التوترات المتصاعدة والعواقب المدمرة لهذا الصراع.

كما أكد صباغ على ضرورة توحيد الجهود للبحث عن طريق نحو السلام والاستقرار والعدالة في المنطقة. واستعرض صباغ التقدم الحالي وعمل المجلس في حل هذه القضية، وتعزيز الحوار، والعمل من أجل التوصل إلى حل دائم.


وأشار صباغ أن المجلس الأميركي لسياسات الشرق الأوسط عقد عدة مشاورات مع المعنيين بالسياسة الأميركية الخارجية, تناولت الوضع القائم في المنطقة لا سيما الحرب الدائرة في غزة.

وناشد الرئيس جو بايدن من أجل الضغط على جميع الأطراف لتحقيق وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة وإدخال المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني في القطاع، والعمل على تسوية القضية الفلسطينية من خلال إحياء مفاوضات السلام بين الأطراف المعنية على أساس حل الدولتين وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.

ورأى صباغ أن مصلحة الولايات المتحدة الأميركية تكمن في سيادة السلام لضمان خط العبور.

للاطلاع على كلمة آدم صباغ على الرابط التالي:


https://www.instagram.com/reel/C3Kdiknr3s9/?igsh=MTB1YmFzazdlaWlzMg==

الخميس، 8 فبراير 2024

من المنتصر الحقيقي في انتخابات تايوان الأخيرة؟


 

بقلم: د. عبدالله المدني*

كان الأسبوع قبل الماضي، من أصعب الأوقات في تاريخ تايوان، حيث حبس التايوانيون ومعهم بكين وواشنطن أنفاسهم انتظارا لما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية في تايوان التي تعتبرها بكين إقليما متمردا يجب استعادته، بينما تدعم واشنطن مبدأ عدم المساس بوضعها الحالي وترفض أي عملية صينية عسكرية لإستردادها بالقوة. وكان سبب الترقب وحبس الانفاس هو أن النتائج ستحدد مستقبل العلاقات بين بكين وتايبيه من جهة ومستقبل العلاقات بين بكين وواشنطن فيما خص تايوان من جهة أخرى، دعك مما سيترتب عليها من آثار استراتيجية عميقة على الجغرافيا السياسية لمنطقة المحيطين الهندي والهاديء.

اجريت الانتخابات في 13 ينايرالجاري، بمشاركة 19.5 مليون ناخب يحق لهم التصويت من بين عدد السكان البالغ تعداده 23.8 مليون نسمة تقريبا، وذلك لاختيار رئيس جديد للبلاد خلفا للرئيسة المنتهية ولايتها "تساي إنغ وين" والمنتمية للحزب الديمقراطي التقدمي  (DDP)، وانتخاب مجلس تشريعي جديد، فيما كان العنوان الأبرز للحملات الانتخابية هو المفاضلة بين التحرك نحو الإستقلال بكل ما يترتب عليه من الدخول في حرب مع الصين الشيوعية أو الإبقاء على الوضع الراهن بهدف الانتقال مستقبلا نحو الوحدة مع البر الصيني.

تنافس على المنصب مرشحو الأحزاب الرئيسية الثلاث وهي:  حزب DDP الحاكم المعادي لبكين والمتبني  لفكرة إعلان الإستقلال رسميا عن البر الصيني، وحزب الكومينتانغ (KMT)  الداعي للتفاهم مع بكين مع الحفاظ على الوضع الراهن، وحزب الشعب (TPP) الذي يتاخذ موقفا وسطا ويركز برنامجه على قضايا محلية مثل تمكين المراة وتكاليف المعيشة.

جاءت النتيجة كما كانت متوقعه، بل مطابقة لمعظم استطلاعات الرأي التي جرت العام الماضي  وقالت ان الكفة تميل نحو مرشح الحزب الحاكم "لاي تشينغ تي" الذي فاز برئاسة البلاد بالفعل وصار اليوم رئيسا جديدا لمواصلة ما بدأته سلفه منذ عام 2016. غير أن المفاجأة كانت في انتخاب مجلس تشريعي يسيطر عليه نواب منتمون لحزب المعارضة الرئيسي (KMT)، وهو ما سيعقد مهمة الرئيس الجديد ويجعله مقيدا لجهة اتخاذ قرارات انفصالية.

ومن هنا قيل أن المنتصر الحقيقي في هذه الانتخابات هو "الديمقراطية" التي تتمتع بها تايوان منذ تخليها عن ديكتاتورية مؤسسها الماريشال "تشاينغ كاي شيك" وإبنه وخليفته "تشيانغ تشينغ" في أوائل التسعينات، هذه الديمقراطية التي أمنت لها مركزا متقدما في قائمة منظمة فريدوم هاوس للحريات (93 من أصل 100) وهو ثاني أعلى مركز في آسيا بعد اليابان، كما أمنت لها السلام والإستقرار اللذين لولاهما لما تمكنت من مواصلة تحقيق خطوات جبارة في مجالات النمو الاقتصادي والتكنولوجي كافة والتربع على عرش "أشباه الموصلات" عالميا.

يرى المراقبون في ما حدث أنه أفضل نتيجة ممكنة لشعب يفتخر بانجازاته وله أسلوب حياة خاص مختلف عن حياة أقرانه في البر الصيني ولا يريد أن يكون خاضعا لنظام شمولي، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد الدخول في مواجهة حربية مع بكين بشأن الإستقلال فيتحول بلده الجميل المتقدم إلى أوكرانيا أخرى. كما أن هؤلاء المراقبين يعزون أسباب فشل الحزب الحاكم (DDP) في السيطرة على البرلمان لصالح غريمه (KMT) إلى سياساته الداخلية غير المرغوب فيها شعبيا حول  تخفيض المعاشات التقاعدية وتقليص العطلات الرسمية مثلا، علاوة على ذهاب قادته بعيدا في استفزاز بكين، ما دفع الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات صارمة أدت إلى عزل تايوان دبلوماسيا (لا تتمتع تايبيه اليوم إلا بعلاقات دبلوماسية مع 13 دولة صغيرة هامشية) وترهيبها عسكريا (من خلال مناورات يومية عبر المضيق) ومعاقبتها إقتصاديا (بمحاصرتها وانتزاع الأسواق العالمية منها).

وعلى حين أعربت واشنطن عن سعادتها بهذه النتيجة (على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن)، معزية إياها إلى تمسك التايوانيين بنظامهم السياسي التعددي "الذي اكتسبوه بشق الأنفس ويصلح مثالا لمنطقة المحيطين الهندي والهاديء"، وعشقهم لنمط حياتهم القائم على الحرية والشفافية والإقتصاد الحر، نجد أن بكين فسرت النتيجة من وجهة نظرها على أنها هزيمة مرة لدعاة الإنفصال ورافضي مبدأ "الصين الواحدة"، وأنها تعكس إرادة غالبية التايوانيين ورغبتهم في "مواصلة المشاركة في فوائد التنمية السلمية في العلاقات عبر المضيق".



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يناير 2024م