ماذا يجري خلف الجدار الحديدي في شمال كوريا؟


 بقلم: د. عبدالله المدني*

تظل كوريا الشمالية على الدوام مادة دسمة للقيل والقال والتكهنات والافتراضات بسبب انغلاقها على نفسها الذي هو سمة من سمات نظامها الديكتاتوري الشيوعي، ناهيك عن عزلتها جراء العقوبات الدولية المفروضة عليها بسبب برامجها النووية والباليستية المهددة لجاراتها. 

ولا حاجة لنا للتذكير كيف أن وسائل الاعلام الاجنبية تنافست، خلال فترة انتشار جائحة كورونا في العالم، لمعرفة مدى تعرضها للوباء والآثار التي تركته على أحوال سكانها المعيشية والصحية. ولعل ما أغرى الاعلام الغربي والآسيوي أكثر هو الشعارات التي أطلقتها بيونغيانغ بفخر آنذاك من أن كوريا الشمالية هي البلد الوحيد في العالم العصي على فيروس الوباء بسبب "السياسات الحكيمة للقائد العظيم وزعيم الأمة كيم جونغ أون"، وكان المقصود، بطبيعة الحال، هي سياسته في غلق الأبواب باحكام أمام كل من يطرقها.

والحقيقة لئن كانت أخبار الداخل الكوري الشمالي غير متاحة في الأحوال العادية، فإنها في زمن انتشار الوباء تحولت إلى مادة نادرة جدا بسبب قيام السلطات باغلاق الحدود باحكام حتى مع جارتها وحليفتها الوحيدة، الصين، التي ظلت دائما منفذها الوحيد للإطلالة على الخارج ولإستيراد بعض السلع والبضائع ومنفذ مواطنيها اليتيم للهرب والتهريب.

اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات على انقشاع أخطر وباء في العصر الحديث، ومع عودة الحياة إلى طبيعتها في مختلف دول العالم واستعادة الناس حرياتهم في التنقل والسفر والتبضع والترفيه، تظل هذه البلاد هي الإستثناء الوحيد.

والجدير بالذكر هنا أن زعيم البلاد الأوحد و"شمسها المشرقة" و"ملهم أجيالها"، قرر في يناير 2020 عزل كوريا الشمالية بشكل مطلق عن العالم الخارجي وبصورة أكثر تشددا من أي وقت مضى في تاريخها البائس كرد على جائحة كورونا، وهو قرار لا يزال ساريا إلى اليوم باستثناء بعض التجارة مع الصين. وقتها، تراجع "كيم جون أون" عن تصريحه السابق وحذر من احتمال أن تشهد البلاد "مسيرة شاقة" ثانية، بل وطالب مواطنيه بضرورة الإستعداد لذلك، في إشارة إلى المجاعة التي قتلت ما لا يقل عن 600 ألف شخص أو أكثر في عقد التسعينات، وهي حقبة سوداء تركت ظلالا قاتمة على حياة السكان بإستثناء أولئك الذين كانوا يعيشون في مناطق الحدود الشمالية الملاصقة للصين، ممن لجأوا إلى تهريب المواد الغذائية والتموينية والأدوية والضروريات من الصين، وتداولها بطرق غير مشروعة من خلال السوق السوداء.

ومما يذكر أيضا، في السياق نفسه، أنه بحلول شهر يونيو 2021م تسربت أنباء من الداخل الكوري الشمالي تفيد بوجود نقص حاد في الغذاء والمواد التموينية كنتيجة لخلق الحدود مع الصين، ولكن بدلا من أن تخفف السلطات إجراءاتها جزئيا لإنقاذ مواطنيها من الهلاك، راح الزعيم يحث شعبه على الصمود والبقاء أقوياء لمواجهة تبعات الجائحة، علما بأن التبادل التجاري بين بيونغيانغ وبكين لم يستأنف حتى اليوم بالشكل الذي كان عليه سابقا. ولعل هذا ما دعا الأمم المتحدة إلى نشر تقرير في مارس 2023، طالبت فيه سلطات كوريا الشمالية بانهاء ما وصفته بـ "العزلة الذاتية التي لا مثيل لها"، رأفة بمواطنيها. حيث قالت البروفسورة البيروفية "إليزابيث سالمون"، وهي مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الانسان في "جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية": أنها تشعر بقلق بالغ إزاء تأثير ثلاث سنوات من اغلاق الحدود على الشعب الكوري الشمالي، ولاسيما "النساء العاملات في الأسواق غير الرسمية والأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع وكبار السن والمشردين والأطفال". كما سلطت الضوء في تقريرها، بشكل خاص، على محنة الزوجات اللواتي يتعرضن لعنف متزايد بسبب عدم قدرتهن على توفير الطعام لأسرهن.

وعلى الرغم من أن ما جاء في التقرير الأممي متوقع وغير مستبعد، إلا أن البعض من غلاة اليساريين وأيتام الشيوعية ممن يزعجهم سماع مثل هذه التقارير التي تدين نظام بيونغيانغ "الصامد أمام الغرب وقوى الشر الامبريالية" بحسب وصفهم، لا يصدقون ويكابرون ويطالبون بدليل مادي.

والحقيقة أن الأدلة على أوضاع كوريا الشمالية البائسة، لم تكن يوما متوفرة، وهي اليوم أكثر ندرة كما قلنا. فقد كان مصدر أخبار هذه البلاد من الداخل هو الدبلوماسيون وعمال الإغاثة الأجانب والمنشقون الهاربون إلى الشطر الجنوبي، لكن مع إحكام اغلاق الحدود منذ عام 2020 باتت حتى هذه المصادر معدومة، خصوصا مع انخفاض حالات الانشقاق والهرب خوفا من الإعدام الفوري بالرصاص من قبل حرس الحدود التابع لجيش الشعب الأحمر.

وهكذا صار الاعتماد فقط على ما تنقله مصادر المخابرات الكورية الجنوبية، علاوة على ما ينشره أقارب الكوريين الشماليين المتواجدين في الشطر الجنوبي. ومثال ذلك ما أعلنه جهاز المخابرات الوطني في كوريا الجنوبية في مايو 2023 من أن عشرة أشخاص من مواطني الشمال غامروا بالهرب عن طريق البحر ونجحوا في الوصول إلى الشطر الجنوبي وأنهم أفادوا في التحقيقات أن نظام بيونغيانغ يفرض ضوابط أكثر صرامة من أي وقت مضى وأن المواطنيين العاديين، يعانون المجاعة وبالكاد يحصلون عن جزء بسيط من احتياجاتهم الأساسية، فيما يعيش أفراد العائلة الحاكمة والمقربون منه في بحبوحة.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يوليو 2023م


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق