الإمارات وكوريا .. من شراكة عامة إلى شراكة استراتيجية خاصة


 

بقلم: د. عبدالله المدني*


لا يمكن لاي قائد طموح يسعى لنهضة ورخاء وتقدم شعبه تجاوز تجارب الأمم الاسيوية الناهضة بصفة عامة وتجارب اليابان وكوريا الجنوبية والصين بصفة خاصة. فإذا كانت التجربة اليابانية في النهوض كالمارد من تحت رماد هزيمتها المرة في الحرب العالمية الثانية قد عرفت على نطاق واسع وكتب فيها الكثير بعد أن تفوقت اليابان على نفسها صناعيا وتجاريا وعلميا وتكنولوجيا، وبنية تحتية، فإن تجربة كوريا الجنوبية لا تقل عنها أهمية. فحتى ستينات القرن العشرين لم تكن هذه البلاد شيئا يذكر بسبب اعتماد اقتصادها على الزراعة وانطوائها على نفسها، لكنها سرعان ما خلقت لنفسها تجربتها التنموية الرائدة فتحولت خلال السنوات الاربعين الماضية إلى رابع أكبر اقتصاد آسيوي من بعد اليابان والصين والهند بقيمة 1.6 تريليون دولار امريكي، بل نجحت في التحول إلى مركز اقليمي للمال والنقل والتكنولوجيا وصناعة المعرفة وانتاج الاجيال الجديدة من الوسائط الالكترونية واجهزة الاتصالات والمركبات الكهربائية، من بعد أن نجحت في أواخر القرن المضي في البروز كدولة رائدة في بناء السفن وكثاني اكبر مصنع في العالم للأدوات الكهربائية المنزلية وخامس أكبر منتج عالمي للسيارات والبتروكيماويات وسادس اكبر منتج للصلب.

وبما أن دولة الإمارات العربية المتحدة إحدى النماذج العربية الوضاءة في التنمية والخلق والابتكار والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة في رفد خططها ومشاريعها بكل ما يحقق رفعتها ومكانتها في موازين القوى العالمية والاقليمية، فقد جاءت زيارة الدولة هذا الشهر لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لكل من كوريا الجنوبية وجمهورية الصين الشعبية ضمن هذا الأطار، ولتجسد على أرض الواقع سياسة دولة الإمارات القائمة على مد جسور التواصل والشراكة في كل اتجاه وعدم تقييدها في اتجاه شركاء المنطقة التاريخيين في اوروبا والولايات المتحدة.

ولو قصرنا هنا حديثنا على زيارة سموه الناجحة إلى كوريا الجنوبية لوجدنا انها لم تأت لبناء شراكة من العدم وانما جاءت لتعزيز وترسيخ ما هو قائم من  شراكات بينية منذ سنوات وتطعيمها بالمزيد من الدعائم وادوات القوة  ومجالات التنوع والتوسع، خصوصا


دعونا نقرب الصورة بلغة الحقائق والأرقام:

كانت كوريا الجنوبية من أوائل الدول الأجنبية التي اعترفت بدولة الإمارات العربية المتحدة بعيد قيامها سنة 1971. وفي عام 1980 دشن البلدان علاقاتهما الدبلوماسية البينية على مستوى السفراء. حدث ذلك في وقت كان التواجد الكوري في المنطقة قد بدأ من خلال قيام الإمارات وبعض الدول الشقيقة المجاورة بإرساء عقود انشائية ضخمة بقيمة اجمالية بلغت نحو 56 مليار دولار على الشركات الهندسية الكورية العملاقة، مثل هيونداي وسامسونغ ودايوو، لبناء الطرق والمطارات والموانيء واحواض السفن والمجمعات الصناعية والسكنية. نجحت هذه الشركات في تنفيذ المهام المطلوبة منها على أكمل وجه، وغادرت المنطقة تاركة وراءها سمعة طيبة في الأداء المتقن والجدية والانضباط وسرعة الانجاز.

في عام 2009، وبينما كانت العلاقات الإماراتية ــ الكورية تشهد تطورا ملحوظا في العديد من المجالات، قررت قيادة البلدين الصديقين رفعها إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية لتتحول في العام 2018 إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الخاصة شاملة مختلف أوجه التعاون السياسي والإقتصادي والعسكري والأمني والثقافي والتعليمي والصحي والسياحي والتكنولوجي، ولتصبح الإمارات أول بلد في الشرق الأوسط ترتبط بشراكة استراتيجية خاصة مع كوريا.

توطدت تلك الشراكة، وأضحت نموذجا للعلاقات بين بلدين ينشدان التعاون من أجل السلام والرخاء والإزدهار، لاسيما بعد الزيارات التي قام بها  صاحب السمو الشيخ محـمد بن زايد آل نهيان لكوريا الجنوبية  في يونيو 2006م، ومايو 2010م، ومارس 2012م، وفبراير 2014م، وفبراير 2019م، ناهيك عن زيارات قادة كوريا الجنوبية إلى الإمارت مثل زيارة الرئيس الأسبق «روه مو هيون» في مايو 2006م، وزيارات الرئيس الأسبق «لي ميونغ باك» في ديسمبر 2009م ومارس 2011م وفبراير 2012م ونوفمبر 2012م، وزيارات الرئيسة الكورية السابقة «بارك كون هيه» في مايو 2014م ومارس 2015م، وزيارة الرئيس الحالي «مون جيه إن» في مارس 2018م.

تفيد احصائيات 2023 بأن الإمارات هي الشريك التجاري الثاني على المستوى الخليجي والعربي والرابع عشر على المستوى العالمي لكوريا، بحجم يصل إلى 5.3 مليار دولار، بينما تأت كوريا في المرتبة العاشرة لتجارة الإمارات غير النفطية مع بلدان آسيا غير العربية، والشريك الثلاثين لتجارة الإمارات مع العالم، ويتمتع البلدان بعلاقات استثمارية وطيدة نجد تجلياتها في قرار الإمارات في العام الماضي بضخ استثمارات تقدر ب30 مليار دولار في كوريا الجنوبية خلال السنوات القادمة، في حين بلغت قيمة الاستثمارات الكورية المباشرة في الإمارات حتى مطلع 2021 نحو 2.2 مليار دولار، معظمها في قطاعات المال والتأمين والتعدين وتجارة التجزئة والعقارات والنقل والطاقة والتكنولوجيا. وبهذا تحتل كوريا الجنوبية المرتبة الخامسة في قائمة دول آسيا غير العربية المستثمرة في الإمارات (بنسبة 7%) والمرتبة 17 في قائمة الدول الأجنبية المستثمرة مباشرة في الإمارات. أما أهم الاستثمارات المشتركة بين البلدين فتتمثل في مشاريع محطة براكة للطاقة النووية السلمية في أبوظبي بكلفة 20 مليار دولار، والتي تندرج ضمن برامج التعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا النووية والطاقة الآمنة النظيفة. 



د. عبدالله المدني*

أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: يونيو 2024م



CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق