فوضى سياسية وتطهير حزبي في كوريا الجنوبية


 بقلم: د. عبدالله المدني*

للمرة الثالثة استخدم المشرعيون في كوريا الجنوبية صلاحياتهم وصوتوا مؤخرا لصالح عزل رئيس البلاد المنتخب. حدث ذلك من قبل في عام 2004 حينما قرروا عزل الرئيس الأسبق "روه مو هيون" (انتحر عام 2009) لإنتهاكه قانون الانتخاب، لكن المحكمة الدستورية قررت بعد 63 يوما رفض طلب العزل، ثم تكرر للمرة الثانية مع الرئيسة السابقة "بارك جيون هاي" في عام 2016 حينما وافقت المحكمة على عزلها بعد 93 يوما من تقديم المشرعين طلبا بذلك لتورطها في فضيحة فساد سياسي.


تواجه كوريا الجنوبية اليوم ما يمكن وصفه بأكبر تحد لنظامها الديمقراطي منذ عقود، فرئيس البلاد موقوف عن العمل وتنتظره محاكمة، والبلاد تدار بالإنابة من قبل رئيس وزراء تحوم حوله اتهامات لدوره في مرسوم اعلان الأحكام العرفية، و"حزب قوة الشعب" الحاكم منقسم على نفسه وتجري في اروقته عمليات تطهير، والمعارضة منتشية لكن زعيمها متورط في أكثر من قضية فساد، والسلطة القضائية المنوط بها الحسم غير مكتملة العدد.

هذا مختصر المشهد السياسي الفوضوي في كوريا الجنوبية وهي على أعتاب عام جديد، الأمر الذي لم يكن متوقعا لولا قيام رئيس البلاد "يون سوك يول" باعلان الأحكام العربية فجأة في 14 ديسمبر 2024، في عملية تحد للبرلمان المعرقل لخططه بسبب هيمنة المعارضة ذات التوجهات اليسارية على أغلبية المقاعد.

تكافح كوريا الجنوبية اليوم من اجل لملمة مشاكلها السياسية والدستورية والحزبية، لكن الأمور تبدو صعبة ومتشابكة وقد تطول عملية حلها. فإذا قررت المحكمة الدستورية المصادقة على قرار البرلمان بعزل يون، فإنه يجب الدعوة إلى اجراء انتخابات رئاسية مبكرة خلال 60 يوما. وترجح استطلاعات الرأي أنه في حالة إجراء تلك الانتخابات وترشح زعيم المعارضة "لي جاي ميونغ"، فإن الأخير سوف يصبح الرئيس القادم. غير أن ترشح الأخير تقف دونه عقبات كثيرة منها سلسلة قضايا فساد منظورة ضده حاليا أمام المحاكم المحلية، (في نوفمبر الماضي مثلا، أدين بانتهاك قوانين الانتخابات، كما أنه يواجه اتهاما بأنه طلب، حينما كان حاكما لمقاطعة "جيونغ جي"، من شركة ملابس كورية جنوبية تحويل 8 ملايين دولار إلى كوريا الشمالية لتسهيل زيارته للشطر الشمالي). هذا علما بأن ميونغ حاول طويلا التهرب من الإدانة عن طريق الطعن في الاحكام الصادرة ضدة أو تغيير عنوانه أو ايجاد تغرات قانونية، وقد يستمر في هذه الحيل إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية. لكن إذا أدين بتهمة الرشوة المذكورة فإن من شأن ذلك أن يوجه ضربة قوية لسمعته السياسية ويقوض فرص فوزه بالرئاسة، خصوصا وأنه لا يزال متهما بالتورط في ثلاث قضايا جنائية أخرى. 

ومن الأمور التي تزيد المشهد الكوري تعقيدا وتشابكا هو ما خص المحكمة الدستورية المنوط بها النظر في عزل الرئيس يون من عدمه. فالمحكمة المكونة من تسعة قضاة لم يعد بها سوى ستة قضاة (ثلاثة ليبراليون، وثلاثة يمينيون) بعد أن شغرت مقاعد ثلاثة منهم بالتقاعد، وعليه فإذا رفض قاض واحد موضوع عزل الرئيس فسيتم إعادة يون إلى منصبه المعلق مؤقتا. وتتخوف المعارضة من طريقة تصويت رئيس المحكمة الدستورية القاضي اليميني " تشيونغ هيونغسيك" الذي يدين بفضل تعيينه للرئيس يون. ولهذا تسابق المعارضة الزمن في سبيل ملء مقاعد القضاة الثلاثة الشاغرة وسط مزايدات ومساومات برلمانية ساخنة.

يردد مراقبو الشؤون الكورية عادة مقولة أنه من الصعب التنبوء باتجاهات الميول السياسية في كوريا الجنوبية، لكنهم يزعمون أنه كلما سقط رئيس يميني حل مكانه رئيس ذو توجهات يسارية، مشيرين إلى ما حدث في انتخابات مايو 2017 حينما حقق المرشح اليساري "مون جاي إن" فوزا ساحقا في الانتخابات الرئاسية المبكرة التي أجريت آنذاك بعد عزل الرئيسة اليمينية "بارك جيون هاي" بتهمة سوء استغلال منصبها.

وهناك من يتبنى فكرة "أن اليمين عادة يسقط بسبب الفساد، بينما يسقط اليسار بسبب الانقسام" في كوريا الجنوبية، غير أن ما يجري اليوم هو العكس تماما، فاليسار هو الذي يعاني من الفساد بدليل أن زعيم المعارضة اليساري "لي جاي ميونغ" يواجه نحو خمس محاكمات منفصلة بتهم تتراوح بين الرشوة وخيانة الأمانة وانتهاك قانون الانتخابات كما ذكرنا آنفا، دعك من فقدان زعيم يساري بارز آخر هو "تشو كوك" لمقعده البرلماني مؤخرا على خلفية حكم ضده بالفساد. إلى ذلك تمت إدانة زوجتي ميونغ و كوك وهما يساريتان بتهمة اساءة استخدام بطاقات الائتمان المصرفية والاحتيال الكاديمي. 

في مقابل هذا نجد أن اليمين، ممثلا بحزب قوة الشعب الحاكم، هو الذي يعاني من الانقسام بدليل انحراف 23 مشرعا من الحزب الحاكم اليميني المحافظ عن الموقف الرسمي للحزب بخصوص الوقوف مع الرئيس يون ضد المعارضة، وقيام كبار رموز الحزب بالضغط على رئيسهم "هان دونغ هون" لتقديم استقالته بسبب انتقاده لرئيس البلاد، واستبداله بوجه مألوف هو "كوون سيونغ دونغ"، ناهيك عن حملة تجري على قدم وساق لتطهير صفوف الحزب من الأعضاء والرموز غير المخلصة او المترددة في مواقفها السياسية. وبطبيعة الحال فإن هكذا وضع يجعله عاجزا عن لملمة صفوفه بسرعة لتقديم مرشح رئاسي جدير بالثقة وقادر على استقطاب الأصوات والفوز.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: ديسمبر 2024م



CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق