أثر التغيير في دكا على علاقاتها بإسلام آباد
بقلم: د. عبدالله المدني
تغير المشهد السياسي في بنغلاديش في اوائل أغسطس 2024 باستقالة حكومة الشيخة حسينة واجد وفرارها إلى الهند تحت ضغط الشارع، وقيام الجيش بتنصيب حكومة مدنية مؤقتة برئاسة النوبلي الموثوق به محليا وعالميا البروفسور محمد يونس.
هذا الحدث وما احاط به من ظروف وملابسات معروف، والمعروف أيضا أن هناك صراع نفوذ بين الهند وباكستان على بنغلاديش منذ قيام الأخيرة كدولة مستقلة عن باكستان سنة 1971 من بعد حرب وحشية ارتكبت خلالها الكثير من الجرائم والانتهاكات الفظيعة بشهادة الجهات الدولية والأممية المحايدة.
اضف إلى ذلك أمرا آخر غير خاف على مراقبي شؤون جنوب آسيا وهو أن دكا كانت بصفة عامة خلال العقود الماضية أوثق علاقة بنيودلهي التي ساعدتها في حرب التحرير والإستقلال عن باكستان ماديا ودبلوماسيا وحربيا، فيما ظلت علاقاتها مع اسلام آباد باردة وتطغى عليها الشكوك وعدم الثقة والحذر بسبب رواسب الماضي والنظرة الدونية لساسة ومواطني باكستان الغربية تجاه نظرائهم في ما كان يعرف بالجناح الشرقي للدولة الباكستانية.
ولا حاجة لنا للقول أنه في الفترات التي حكم فيها بنغلاديش حزب رابطة عوامي بقيادة الشيخة حسينة، تميزت العلاقات البنغلاديشية ــ الهندية بالحرارة والتوافق والتعاون، الذي شمل اتفاقيات معتبرة للربط الحديدي والتنمية الزراعية وتقسيم مياه نهر تيستا، على العكس من حالة العلاقات بين دكا وإسلام آباد. ولعل ما تسبب أكثر في برودة وتوتر العلاقات بين الأخيرتين هو أمران: الأول هو أن دكا لم تطالب باعتذار رسمي من إسلام آباد عن أعمال "الإبادة الجماعية" خلال حرب الإستقلال إلى أن تولت الشيخة حسينة السلطة آخر مرة في عام 1996، علما بأن باكستان لم تعتذر قط من جانبها واكتفت بوصف ما حدث بـ "الأعمال المؤسفة" خلال زيارة زعيمها الأسبق الجنرال برويز مشرف لدكا في يوليو 2003. والأمر الثاني هو قرار حكومة حسينة في عام 2016 بتنفيذ حكم الاعدام في عدد من قادة "الجماعة الإسلامية" الموالية لباكستان بتهم تتعلق بجرائم الحرب سنة 1971، علما بأن الأمر الأخير أغضب الحكومة الباكستانية وتسبب في تبادل طرد الدبلوماسيين في العام نفسه (2016).
كل هذا، علاوة على حالة العداء المزمنة بين الهند وباكستان منذ تقسيم الهند البريطانية في عام 1947، انعكس سلبا على أعمال منظمة سارك "الجنوب آسيوية" للتعاون الاقتصادي، ما جعل مهامها صعبة وتحقيق أهدافها مستحيلة.
إن المشهد السياسي الجديد في بنغلاديش، يمهد الطريق اليوم أمام بث نوع من الدفء في العلاقات الباكستانية ــ البنغلاديشية، ودليلنا أن محادثات دافئة ونادرة جرت مرتين في غضون بضعة أشهر بين البروفسور محمد يونس ونظيره الباكستاني شهباز شريف، كانت أولاها في نيويورك في سبتمبر 2024 على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بينما كانت الثانية على هامش مؤتمر مجموعة الثماني الاسلامية في القاهرة في ديسمبر 2024. وكان من نتائج هذه المحادثات بيان نادر لرئيس وزراء باكستان أعرب فيه عن رغبته الشديدة في تطوير وتعزيز التعاون الثنائي بين بلاده وبنغلاديش، خصوصا في مجالات الاقتصاد وتجارة المواد الكيميائية والاسمنت والسلع الطبية والبضائع الجلدية وقطاع تكنولوجيا المعلومات، وبيان مماثل من البروفسور يونس قال فيه: "دعونا نسوي كل قضايا الماضي دفعة واحدة وإلى الأبد حتى نتمكن من المضي قدما من أجل الأجيال القادمة"، مع تأكيده على ضرورة إحياء أعمال منظمة سارك التي لم تعقد قمة منذ قمتها الأخيرة في نيبال عام 2014. تلت هذه التصريحات قرارات من جانب بنغلاديش بإلغاء مكتب أمني خاص في مطار دكا لفحص وتفتيش القادمين من باكستان والترحيب بسفن الشحن الباكستانية في ميناء شيتاغونغ.
وبطبيعة الحال، فإن كل هذه المبادرات جيدة وتبشر بعهد جديد من التعاون بين البلدين اللذين كانا في يوم الأيام دولة واحدة، لكن من يضمن استمرارها في حال قدوم حكومة جديدة إلى السلطة في دكا بديلا عن الحكومة المؤقتة الحالية بعد إجراء الانتخابات العامة المقبلة الموعود بها؟. ثم هل تنجح النوايا الطيبة في طي صفحة ماض مثقل بالدماء والآلام والجراح؟ فباكستان لن تنسى أن جزءا غاليا من ترابها انفصل عنها بالقوة؟ وبنغلاديش لن تنسى ما حل بشعبها من إهانة وإذلال واضطهاد على يد الأخيرة، والهند لن تسكت عن خسارة نفوذها الجيوسياسي في دولة مجاورة لها لصالح عدوتها التاريخية، خصوصا وأن تعاون دكا واسلام آباد يصب في صالح بكين التي ما برحت تسعى إلى تعزيز نفوذها السياسي في بنغلاديش من خلال المساعدات العسكرية للجيش البنغلاديشي الذي بات 72% من عتاده مصدره الصين.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يناير 2025م