اليابان في عهدة إمرأة لأول مرة في تاريخها


ِ 

بقلم: د. عبدالله المدني*

فاجأ رئيس الحكومة اليابانية "شيغيرو ايشيبا" العالم في السابع من سبتمبر المنصرم بتقديم استقالته من منصبه كزعيم لليابان قبل أن يكمل عامه الأول في المنصب، معززا بذلك حالة عدم الإستقرار السياسي في بلاده التي شهدت تغير 3 حكومات خلال 5 سنوات.

وعلى خلفية هذا الحدث المفاجيء عانت اليابان خلال الأسابيع الماضية من انقسامات في الشارع التواق إلى حكومة جديدة قادرة على إصلاح الاقتصاد الذي يعاني من تراجع قيمة الين، وتفاقم معدلات التضخم، ناهيك عن ضغوط التعريفات الجمركية الجديدة من قبل الحليف الأمريكي على صادرات اليابان، وقادرة في الوقت نفسه على معالجة ملفات داخلية شائكة مثل الضرائب والهجرة والعمالة الأجنبية ومعدلات الشيخوخة، وغيرها. 

كان من الطبيعي أن يلقي انقسام الشارع بظلاله على أروقة "الحزب الليبرالي الديمقراطي"، الذي حكم البلاد في معظم سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية عدا فترة قصيرة. إذ شهد الحزب إنقساما خطيرا حول كيفية تطويق تدهور شعبيته، ومعالجة إستقالة زعيمه "ايشيبا" واختيار بديل عنه لتولي قيادة اليابان في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها داخليا وخارجبا. فالبعض من قيادات الحزب رأى ضرورة إجراء انتخابات عامة جديدة، والبعض الآخر كان من مؤيدي الاستمرارية تحت قيادة شابة جديدة، والبعض الثالث وجد أن الظروف والتحديات الراهنة تستدعي إختيار شخصية قيادية من ذوي الخبرة السياسية والتاريخ الحزبي الطويل. وبموازاة ذلك شهدت أروقة الحزب إنقساما من نوع آخر تمثل في دعوة بعض أعضائه إلى أن يشارك كافة منتسبي الحزب في عملية التصويت لإختيار الزعيم الجديد وليس فقط الأعضاء القياديون والأعضاء الممثلون في البرلمان.

أدت هذه الانقسامات إلى تقدم أكثر من مرشح للمنصب الأعلى في البلاد، كان أولهم وزير الخارجية السابق "توشيميتسو موتيغي"، غير أن المنافسة انحصرت في نهاية المطاف بين شخصيتين هما: السيدة القومية المتشددة "ساناي تاكائيتشي" (64 سنة) والسياسي المعتدل الشاب شينجيرو كويزومي (44 عاما)، وبمعنى آخر كان الإختيار بين أول سيدة لتولي قيادة الحزب والحكومة، التي ظلت حكرا على الرجال طوال تاريخ اليابان السياسي، وبين أصغر سياسي لتولي المنصبين منذ نحو 140. هذا علما بان كويزومي، على الرغم من صغر سنه نسبيا، فإنه يتمتع بخبرة سياسية رفيعة وموقع حزبي بارز كونه وريث سلالة سياسية عريقة (والده هو جونيتشيرو كويزومي رئيس الوزراء من 2001 إلى 2006، وجده هو جونيا كويزومي المدير العام الأسبق لوكالة الدفاع اليابانية، وجده الأكبر هو ماتاجيرو كويزومي أحد وزراء البريد والإتصالات السابقين).

على الرغم من أن معظم استطلاعات الرأي رجحت فوز كويزومي، إلا أن الفوز كان من نصيب السيدة تاكائيتشي، التي تدخل التاريخ اليوم كأول إمرأة تقود اليابان في تاريخها، وتتحمل إدارة رابع أكبر اقتصاد في العالم، بخلفية محافظة، ورؤى اقتصادية نابعة من نهج رئيس الوزراء الراحل "شينزو أبي" القائم على التحفيز المالي والسياسة النقدية المرنة. وهناك شبه اجماع على أن مهمتها لن تكون سهلة كون المسؤوليات الملقاة على عاتقها تتطلب سياسة خارجية مرنه من أجل الحفاظ على موقع طوكيو في التحالفات الغربية وبصورة يعزز حضورها الدولي ودورها الاقليمي في آسيا، ويمنحها في الوقت نفسه القدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية الراهنة، خصوصا وإننا نتحدث عن بيئة عالمية تتفاقم فيها التوترات من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وبيئة اقليمية تشهد منافسات ومناورات وخطط للهيمنة من قبل الصين وكوريا الشمالية.

وفي راينا ورأي العديد من المراقبين أن زعيمة اليابان الجديدة عازمة على أن تثبت لليابانيين أن المرأة اليابانية قادرة على قيادة البلاد بصورة أفضل من الرجال، وبالتالي فإنها سوف تعمل بقوة من أجل ترجمة وعودها إلى أفعال. وتشتمل وعودها على: استعادة هيبة اليابان، وإطلاق آلية جديدة للخصومات الضريبية النقدية لدعم الفئات الأقل دخلا، ومقاومة قرارات البنك المركزي برفع أسعار الفائدة (لأنها تخنق النمو وتعرقل التصدير، بحسب رؤيتها)، وتخفيض الضريبة المؤقتة على الوقود، والتشدد مع الصين وكوريا الشمالية، وتعزيز القدرات العسكرية للبلاد ضمن تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، وتمتين التعاون الإقليمي مع سيئول ومانيلا ونيودلهي لموازنة النفوذ الصيني في المحيطين الهندي والهادي، والحفاظ على الهوية والخصوصية اليابانية عبر تبني مواقف متشددة من الهجرة والعمالة الاجنبية اللتين كانتا علاجا للشيخوخة المتسارعة للسكان.

وفي رأينا أيضا أن تاكائيتشي، ستدخل نفسها وبلادها في توترات ومواجهات لا طائل من ورائها مع واشنطن إنْ قررت التفاوض مجددا مع إدارة الرئيس ترامب حول بنود اتفاقية التعرفة الجمركية التي أبرمها سلفها إيشيبا.



د. عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أكتوبر 2025م


 


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق