بقلم: د. عبدالله المدني*
على غرار ما حدث في سريلانكا في عام 2022، حينما انتفض شعبها وأحزابها المعارضة وشبابها ضد الحكومة لفسادها وسوء ادارتها الإقتصادية للبلاد، فخرج الأمر عن السيطرة، وهرب رئيس البلاد، واقتحم المتظاهرون البرلمان والقصر الرئاسي، وعلى غرار ما حدث في بنغلاديش العام الماضي من احتجاجات جماهيرية واسعة أدت إلى استقالة رئيسة الحكومة ومغادرتها البلاد، شهدت النيبال مؤخرا شيئا مشابها بقيادة من أطلقوا على أنفسهم "جيل زد" أو Gen-Z وهم مجموعة شبابية قررت التظاهر في العاصمة كاتمندو ضد حكومة رئيس الوزراء "شارما أولي" (يتزعم الحزب الماركسي النيبالي الموحد، وانتخب رئيسا للحكومة في 15 يوليو من العام الماضي بدعم من حزب المؤتمر وغيره من الأحزاب المشاركة في البرلمان)، متهمة إياها بمحاولة إسكات الطلبة وشباب الجامعات والتضييق على حرياتهم، وذلك في إشارة إلى قرار الحكومة بحظر 26 منصة من منصات التواصل الاجتماعي المعروفة مثل فيسبوك وإكس ويوتيوب وواتساب وانستغرام، بحجة "إعادة تنظيم الفضاء الرقمي".
وسرعان ما تطور الأمر، بعد مقتل 19 متظاهرا ووقوع مئات الإصابات على يد قوات الأمن، فشملت التظاهرات والاحتجاجات مختلف فئات الشعب بمختلف المدن، وتحولت المطالب من رفع الحظر عن وسائل التواصل إلى اجتثاث الفساد ومحاسية رموزه، ثم أخذ المشهد بعدا أخطر بقيام المحتجين بحرق البرلمان والمجمع الحكومي المعروف باسم "سينغا دربار" واشعال حرائق في ميادين العاصمة، وهو ما اضطر معه رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته، بعد تحمل وزير الداخلية للمسئولية الاخلاقية واستقالته، ليتبعهما عدد من الوزراء وكبار المسؤولين، وليعلن الجيش استلامه زمام الأمور مؤقتا.
بحكم موقعها الجغرافي الصعب بين الهند والصين، وفقرها وقلة مواردها، تعيش نيبال في عزلة، ونادرا ما تشغل نفسها بالأحداث والأزمات الدولية والاقليمية. وعليه لم تستقطب اهتمام العالم إلا في مرات قليلة، منها في عام 2001 حينما شهد قصرها الملكي مجزرة دموية جماعية راح ضحيتها الملك بيراندرا وزوجته الملكة وعشرة آخرين من أفراد الأسرة المالكة، على يد ولي العهد. ومنها في عام 2008 حينما ألغت جمعية تأسيسية منتخبة النظام الملكي الذي دام حوالي 240 عاما لصالح قيام نظام جمهوري فيدرالي علماني. ومنها في عام 2006، حينما تم التوصل إلى اتفاق سلام بين الحكومة والمتمردين الماويين المدعومين من الصين. وها هي تعود اليوم إلى الأضواء لسبب مختلف عنوانه العريض "انتفاضة الشعب ضد الفساد والمحسوبية".
وعلى خلاف ما جرى في سريلانكا وبنغلاديش من احتجاجات فوضوية، تميز احتجاج النيباليين بدرجة عالية من التنظيم، إذ شكل المتظاهرون سلاسل بشرية لحماية المنشآت الحكومية والعسكرية، مؤكدين بذلك أنهم ضد الفساد السياسي وليس ضد مؤسسات الدولة وهياكلها. كما أنهم إلتزموا برفع العلم الوطني دون أي أعلام أجنبية أو فئوية أو حزبية.
بهذه التطورات باتت نيبال في حالة عدم يقين، وبات مستقبلها السياسي مفتوحا للنقاش، كما أن قواها الناشطة دشنت حقبة جديدة من النشاط المدني مختلفة تماما عن التحركات السابقة التي هيمنت عليها فصائل سياسية معينة أو جماعات عمالية قديمة، أو قادة حزبيون متطرفون. فالتحركات الجديدة يقودها شباب متعلم يعرف كيفية استغلال وسائل السوشيال ميديا في إيصال رسالته، وفضح تجاوزات النخب السياسية واستئثار عائلاتهم وأقربائهم بثروات البلاد المتواضعة، وهو ما ساعد "جيل زد" في تشكيل وإدارة حملة استياء لدى الرأي العام ضد حكومة "شارما أولي"، خصوصا بعدما تصدت الأخيرة للاحتجاجات بحملة قمع شملت استخدام الذخيرة الحية والرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع ومنع التجول، قبل أن تكتشف الحكومة نفسها عبثية المواجهة وتلغي قراراتها حول منع وسائل التواصل الاجتماعي، أملا في تهدئة المحتجين الذين وجدوها فرصة لرفع سقف مطالبهم.
والحقيقة أن ما جرى حتى الآن في سريلانكا وينغلاديش ونيبال يؤكد جملة من الأمور المترابطة، أولها أن وعود الإصلاح التي تطلقها الحكومات المنتخبة دون أن تنفذها سريعا تؤدي إلى خيبات أمل لدى الجماهير، فتنتفض ضدها، وثانيها أن تمكين المواطنين رقميا بات إحدى وسائل تحدي وفضح ممارسات النخب السياسية، وتعبئة الجماهير وإدارتها، بل وتوثيق أي انتهاكات سلطوية غير إنسانية. وثالثها أن الشباب هم الوقود الأقوى لأي تحرك ضد اخفاقات الحكومة واستشراء الفساد والممارسات غير الدستورية، وأنهم باتوا ــ بفضل تمكنهم من الرقابة الرقمية ــ قادرين على ممارسة تأثير على السلطة. وأخيرا فإن وسائل التواصل والاتصال الرقمية الحديثة صارت قوة فاعلة وضاغطة في المشهد السياسي في عموم منطقة جنوب آسيا.
ونختتم بالقول أن ما حدث في نيبال مؤخرا ليس الأول من نوعه. فمنذ إلغاء الملكية، تعيش البلاد حالة عدم استقرار سياسي، بدليل أنها جربت 16 حكومة تزعمها نفس الساسة الثلاثة: "شارما أولي" و"بوشبا كمال دال" و"شير بهادور ديوبا.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: سبتمبر 2025م





0 comments:
إرسال تعليق