أولمبياد ناجحة رغم كل الظروف القاهرة


بقلم: د. عبدالله المدني ـ

لم يحدث قط في تاريخ الدورات الأولمبية الصيفية منذ البدء فيها في عام 1896 بأثينا أنْ قوبلت أي دورة بمظاهرات تطالب بإلغائها كما حدث للدورة الحالية التي انطلقت في طوكيو في الثالث والعشرين من يوليو 2021 من بعد تأجيلها عدة مرات. والحقيقة أن كل الدورات السابقة، سواء الصيفية منها أو الشتوية كانت موضع ترحيب وإشادة، بل أن الدول كانت تتنافس حول إستضافتها بشراسة وتعمل المستحيل لنجاحها بمشاركة أكبر عدد من الوفود والجماهير، وترتجي من وراءها فوائد اقتصادية وسياحية جمة. كما أن الشركات التجارية العملاقة من مختلف دول العالم كانت دوما تنتظر مثل هذه المناسبة للترويج لسلعها ومنتجاتها من خلال رعاية هذه المسابقة أو تلك، أو من خلال حجز مكان ليافطاتها الدعائية في الملاعب المخصصة لبطولات الدورة، كون الفضائيات تنقل صورها إلى أقاصي المعمورة على مدار الساعة.

لكن الأولمبياد الحالي بدا مختلفا، بطبيعة الحال. والسبب أنه ينعقد لأول مرة في ظل جائحة عالمية مخيفة أهلكت البشرية جمعاء بتداعياتها الاقتصادية والنفسية والاجتماعية. وهو ما دعا بعض الدول إلى التردد في ارسال فرقها الرياضية للمشاركة، أو خفض أعدادها إلى أقصى حد.


هواجس فشل الدورة الحالية طغت على اليابانيين وعلى زعيمهم رئيس الوزراء "يوشيهيدي سوغا" الذي سجل عنه قوله في أكثر من مناسبة أن المسألة تمثل تحديا كبيرا لبلاده، وأن اليابان ــ بالرغم من ذلك ــ  ستثبت للعالم أنها قادرة على مواجهة التحدي وتحقيق ميدالية الفوز على الوباء قبل أي ميدالية أخرى. وفي موازاة ذلك صرح رئيس اللجنة الدولية الأولمبية "توماس باخ" بأن احتمالات انتشار الوباء بين الرياضيين في القرية الاولمبية تبدو معدومة تماما. غير أن ما حدث كان خلاف ذلك، إذ شهدت طوكيو خلال الاسبوع الأول من الدورة الموجة الخامسة من اصابات كوفيد ــ 19. وقبل أن تبدأ الدورة ثبت اصابة نحو 80 رياضيا بالفيروس القاتل داخل القرية الأولمبية التي تضم 11 ألف رياضي وآلاف من المساعدين وفرق الدعم، الأمر الذي تسبب في ارتفاع درجة القلق والهواجس.

وفي استطلاع للرأي أجرته صحيفة "أساهي شيمبون"، كبرى الصحف اليابانية اليومية، حول مشاعر اليابانيين تجاه الأولمبياد الحالي ورأيهم في طريقة إدارة حكومتهم للمسائل ذات الصلة بالدورة، تبين أن نسبة المعارضين لإقامة الدورة بلغت 55 بالمائة مقابل 33 بالمائة من المؤيدين، كما تبين من نتائج الاستطلاع أن الفارق بين المؤيدين والمعارضين لإجراءات حكومة سوغا وطريقة إدارتها للدورة ضئيل ولا يتعدى نسبة 5 يالمائة. على أن النتيجة الأهم في الاستطلاع كانت انحدار مستوى التأييد الشعبي العام لشخص رئيس الوزراء يوشيهيدي سوغا من 65 بالمائة في سبتمبر 2020 إلى 31 بالمائة في يوليو 2021. ومثل هذه النسبة المتدنية لم تكن معروفة زمن سلفه رئيس الوزراء السابق "شينزو أبي".


من جانب آخر لوحظ أن افتتاحيات الصحف اليابانية كانت جميعها غير متفائلة وتدعو إلى الحذر، وتبرز أنشطة دعاة مقاطعة الدورة ومظاهراتهم أمام مقر إقامة "توماس باخ"،  بل كانت ساخطة أيضا من عدم استجابة الحكومة لمطالبات شعبية بتأجيل الدورة عدة أشهر أخرى، حفاظا على حياة المواطنين وصحتهم، وحرصا على سلامة الأطقم والهياكل الطبية.

ولعل من أهم مظاهر عدم الرضا الشعبي عن الدورة الحالية، والتي لم تــُعرف من قبل في الدورات السابقة، هو انكفاء الرعاة الرسميين لمختلف الألعاب على أنفسهم، وتجنبهم الظهور أمام وسائل الاعلام، بل رفض بعضهم (مثل رؤساء شركات "باناسونيك" و"إن إي سي" و"فوجي" الالكترونية) حضور حفل الافتتاح. هذا ناهيك عن أن الأجواء الشعبية المعارضة للدورة ضغطت على شركة يابانية عملاقة مثل شركة تويوتا للمركبات كي توقف بث الاعلانات المتلفزة ذات العلاقة بألعاب الدورة، وسحب اعلاناتها من ملاعب الأولمبياد.

لقد جندت طوكيو كل امكانياتها الدبلوماسية والاعلامية والبشرية والعلمية واللوجستية لإنجاح الأولمبياد الحالي، لكن كل العوامل، للأسف، وقفت ضدها، بما في ذلك عامل المناخ وارتفاع درجة الحرارة فوق معدلاتها المعروفة في شهر يوليو. على أنه في المحصلة العامة، لا يمكن للمتابع إلا أن يشهد للحكومة اليابانية نجاحها في إقامة الدورة في الموعد الذي حددته دون تقديم أو تأخير، وفي اقناع الغالبية العظمى من دول العالم بالمشاركة الرسمية، وفي عملية التنظيم والاستضافة على أكمل وجه وأعلى مستوى. 


وفي اعتقادنا أن الدورة لو كانت قد انعقدت في مثل هذه الظروف الوبائية الصعبة في بلد آخر غير اليابان، المعروفة بتقدمها العلمي وتقاليدها العريقة وانضباط شعبها وسخاء حكومتها في الانفاق، لكان نصيبها من النجاح أقل بكثير. نقول هذا على الرغم من أن الدولة المستضيفة لم تجن من وراء الأولمبياد ما تمنته من مردود اقتصادي وسياحي ضخم، على نحو ما جنته في دورة طوكيو الصيفية لعام 1964 ودورة سابورو الشتوية لعام 1972.

ونختتم بالقول أن دورة طوكيو 2020 الصيفية، رغم كل شيء ستدخل التاريخ وستبقى حية في الذاكرة، لأنها انعقدت في ظل ظروف غير طبيعية أولا، ثم لأنها شهدت إدارج 4 رياضات جديدة في الأولمبياد للمرة الأولى (الكاراتيه، التزلج على الألواح، التسلق الرياضي، وركوب الأمواج). 



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أغسطس 2021م


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق