د. عبدالله المدني*
تعد أندونيسيا الشريك التجاري الأكبر للصين في جنوب شرق آسيا، خصوصا منذ تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة بين دول الآسيان والصين أوائل العام 2010، حيث راح حجم التبادل التجاري بينهما يتضاعف شيئا فشيئا حتى بلغ قيمته اليوم حوالي 36.1 مليار دولار أمريكي. كما أن الصين هي ثاني أكبر مانح للمساعدات الخارجية لأندونيسيا بعد سنغافورة.
وتشير الاحصائيات الرسمية إلى أن أندونيسيا استوردت من الصين في عام 2024 ما قيمته 72.7 مليار دولار من البضائع الصينية المتنوعة (أجهزة إليكترونية وكهربائية، أدوات منزلية وزراعية، مركبات، منسوجات، أثاث، سيراميك)، وصدرت لها ما قيمته 62.4 مليار دولار من الفحم وزيت النخيل والسبائك الحديدية والنيكل والخشب والمواد الغذائية).
لقد وجدت بكين في أندونيسيا مكانا ملائما لتصريف منتجاتها الرخيصة، لأسباب عوامل كثيرة منها: قربها الجغرافي النسبي لموانيء التصدير الصينية، عدد المستهلكين الهائل في أندونيسيا التي يبلغ عدد سكانها نحو 282.5 مليون نسمة وبالتالي وجود كتلة شرائية ضخمة (من حيث العدد) مقارنة بدول آسيان الأخرى، بحث المستهلك الأندونيسي عن سلع رخيصة تناسب دخله المنخفض، ووجود شريحة ضخمة من الأندونيسيين من ذوي الأصول الصينية التي تميل عاطفيا نحو المنتج الصيني وتشجعه. غير أن أصواتا اندونيسية كثيرة في البرلمان والإعلام ارتفعت منذ سنوات تحذر من تدفق المنتجات الرخيصة من الصين، قائلة أنها تشكل ضررا بالصناعة المحلية، ومطالبة بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة، أو إعادة التفاوض حولها.
هذه الأصوات عادت اليوم بقوة، بعد الإعلان عن الرسوم الجمركية الترامبية الكبيرة على الصادرات الصينية. حيث يخشى قطاع الأعمال المحلي في أندونيسيا من قيام بكين بتوجيه ما تفشل في تصديره إلى الولايات المتحدة نحو أندونيسيا على اعتبار أن الأخيرة من أكبر وأقرب الأسواق الآسيوية إليها.
ولأن أكثر قطاع اندونيسي سيتضرر من ذلك هو قطاع المنسوجات الذي يعد من قطاعات البلاد الرئيسية، فقد كانت أصوات أربابه هي الأعلى والأكثر قلقا. بل اتخذت من معرض "إندو انتيرتيكس Indo Intertex" التجاري الضخم للمنسوجات والملابس، الذي أقيم هذا الشهر في جاكرتا، مكانا للتعبير عن مخاوفها، خصوصا وأن الصين كانت حاضرة في المعرض بقوة من خلال آلاف الأكشاش المروجة لمنسوجاتها من القطن والحرير والبوليستر، والمروجة أيضا لصناعاتها من الآلات المستخدمة في الغزل والصباغة والطباعة والتشطيب.
والحقيقة أن أرباب الأعمال، من الأندونيسيين العاملين في قطاع المنسوجات وغيرها من القطاعات، لا يشتكون فقط من إغراق الصينيين لأسواقهم بالسلع الرخيصة، وإنما يشتكون أيضا من قيام شركات صينية بتهريب منتجاتها إلى أندونيسيا، عبر استغلال طبيعة البلاد الجغرافية كأرخبيل مكون من آلاف الجزر الصغيرة المنتشرة على مسطح مائي واسع، وذلك تفاديا للرسوم الجمركية المرتفعة (100 ــ 200%) التي فرضتها جاكرتا بهدف حماية صناعاتها الوطنية. وهذا ليس تجنيا على الصين، وإنما هو أمر واقع يسنده تصريح الرئيس الأندونيسي "سوبيانتو برابوو" في ديسمبر من العام الماضي، حينما قال بحزم ووضوح، تعقيبا على إفلاس شركة سريتكس الأندونيسية لصناعة المنسوجات بسبب التهريب والمنافسة الصينية: "يهدد تهريب المنسوجات من الخارج صناعة النسيج لدينا، ويهدد حياة مئات الآلاف من عمالنا، ولكن إذا هددت حياة الشعب الأندونيسي واقتصاده فسنغرق سفن التهريب تلك".
والجدير بالذكر في هذا السياق أن الحكومة الصينية وبعض المستثمرين الصينيين حاولوا في عهد الرئيس الأندونيسي السابق "جوكو ويدودو" أن يسيطروا على صناعة المنسوجات في أندونيسيا بالكامل من خلال عروض ومقترحات حول استعدادهم لإنشاء سلسلة من مصانع النسيج الصينية في مناطق متفرقة مثل "كيرتاجاتي"، و"ماجالينكا" و"سوبانغ" و"كاراوانت" و"سوكوهارغو" و"بريبيس"، وغيرها، مع إغراءات بتوظيف نحو 150 ألف عامل.
وإذا كانت المخاوف السابقة حقيقية ومبررة، ومن ضمن التداعيات السلبية المحتملة للأزمة الأمريكية ــ الصينية الراهنة على أندونيسيا، فإن بعض الاندونيسيين يقف عند تداعياتها الإيجابية، ومنها أن قرار الرئيس ترامب برفع الرسوم على الصادرات الصينية إلى نحو 145% على جميع السلع يفتح المجال أمام أندونيسيا لزيادة حجم صادراتها إلى الولايات المتحدة، لتعويض المستهلك الأمريكي بسلع بديلة عن الصينية (بلغت قيمة الصادرات الأندونيسية إلى الولايات المتحدة في العام الماضي 26.3 مليار دولار، وتكونت تحديدا من الملابس والمنسوجات والأحذية الرياضية والأجهزة الإلكترونية). ومنها أيضا أن أندونيسيا قد تستفيد من الحرب التجارية بين بكين وواشنطن من خلال تشجيع الشركات الأمريكية المستثمرة في الصين على الأنتقال منها إلى أندونيسيا.
د. عبدالله المدني
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أبريل 2025م





0 comments:
إرسال تعليق