بقلم: د. عبدالله المدني
يبدو الرئيس الكوري الجنوبي المنتخب حديثا، والمعروف بتوجهاته اليسارية القديمة "لي جاي ميونغ" في حيرة من أمره. فمنذ انتخابه على خلفية عزل سلفه "يون سوك يول" تحاشى الإعلان عن سياساته الخارجية علنا، في عمل وصفه معارضوه بأنه مقلق في وقت تتعرض فيه كوريا الجنوبية لضغوط امنية واقتصادية خارجية عدة. وقد بدت حيرة الزعيم الكوري واضحة مؤخرا وهو يتوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لعقد قمة مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب. فقبيل سفره أعلن عن صعوبة رضوخ بلاده لمطالب واشنطن بمنح القوات الامريكية المتواجدة في كوريا الجنوبية مزيدا من المرونة في تعديل مواقعها وتدريباتها وتحركاتها دون قيود، متذرعا بالمسائل السيادية.
فعل ذلك، وهو يعلم جيدا أن مناكفة واشنطن في هذه المسألة قد يدخل بلاده في متاهات، كي لا نقول تخلي واشنطن عن إلتزاماتها التاريخية الطويلة بحماية كوريا الجنوبية من تغول النظام الشيوعي العنيد في بيونغيانغ. لكنه آثر أن يفجر الموضوع، رغبة منه في كسب شيء من رضا الجار الشمالي المشاغب، وتماشيا مع توجهاته اليسارية الدفينة بالتقرب من نظام بيونغيانغ بدلا من التصعيد ضده، والذي كان سائدا في عهد سلفه اليميني المعزول. غير أن رد كوريا الشمالية جاء في صورة مزيد من التهديدات واستعراضات القوة والمناورات العسكرية.
وهكذا، وجدناه في قمته مع ترامب، كسيرا حائرا، يتخلى عن تصريحاته السابقة بشأن التواجد الأمريكي على أرض بلاده، ويركز بدلا من ذلك على مسألتين أساسيتين: أولها أن كوريا الجنوبية معرضة لتهديدات غير مسبوقة في ظل مواصلة بيونغيانغ لبرامجها الصاروخية والنووية المثيرة للجدل بوتيرة اسرع من أي وقت سابق. حيث قال ميونغ أمام مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن أن أن كوريا الشمالية طورت صاروخا باليستيا عابرا للقارات وقادرا على بلوغ الأراضي الأمريكية، وهي تواصل تطوير قدراتها لإنتاج ما يقرب من 10 إلى 20 قنبلة نووية سنويا (يتطابق هذا الكلام تقريبا مع ما قاله معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، ومفاده أن ترسانة بيونغيانغ النووية تقدر بخمسين رأسا نوويا، وأن لديها ما يكفي من المواد الانشطارية لإنتاج ما يصل إلى 40 أخرى).
لكن الرئيس الكوري الزائر، حاول بالتزامن، الدفاع عن نفسه وتبرير خططه للتقارب مع بيونغيانغ بقوله أن سياسات التشدد والأعمال الإستفزازية التي انتهجها سلفه، وسياسة فرض العقوبات التي تبناها المجتمع الدولي فشلت جميعها في ردع كوريا الشمالية، بل دفعتها إلى المزيد من التعنت فيما يتعلق بتطوير قدراتها العسكرية ومواصلة إطلاق التهديدات، وبالتالي لا بد من انتهاج وسائل أخرى.
المسألة الأخرى التي أثارها الضيف الكوري وناقشها في واشنطن تمثلت في تعريفات ترامب الجمركية، وهي مسألة جرت حولها مفاوضات شاقة ومعقدة على مدى أشهر طويلة، وأثمرت أخيرا عن اتفاقية تجارية بين البلدين تقوم واشنطن بموجبها بفرض تعرفة جمركية على الواردات من كوريا الجنوبية بنسبة 15 بالمائة، بدلا من 25 بالمائة التي هدد بها ترامب سابقا. ومقابل ذلك تعهدت سيئول باستثمار 350 مليار دولار في مشاريع امريكية (بما فيها استثمار مبلغ 200 مليار دولار في مشاريع انتاج أشباه الموصلات، ومبلغ 150 مليار دولار في مشروع مشترك لبناء السفن)، وشراء طاقة (غاز طبيعي مسال وغاز بترول مسار وكمية من الفحم) من الولايات المتحدة بمبلغ 100 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث والنصف المقبلة.
أما الرئيس ترامب، الذي يعرف جيدا أوضاع كوريا الجنوبية المنقسمة على نفسها سياسيا وخياراتها المحدودة، وخلفية رئيسها الجديد الحائر ما بين ضغوط كوريا الشمالية وتهديداتها من جهة، وضغوط أنصاره اليساريين حول علاقات التحالف الأمريكية ــ الكورية الجنوبية، من جهة ثانية، وضغوط النفوذ الصيني الاقتصادي من جهة ثالثة، فقد رأيناه ينتقد ضيفه ــ قبل الالتقاء به ــ من خلال تغريدة كتبها على منصة "تروث سوشيال"، قائلا: "ما يحدث في كوريا الجنوبية يبدو وكأنه تطهير أو ثورة .. لا يمكننا أن نشهد ذلك ونواصل أعمالنا هناك"، وذلك في إشارة إلى صعود ميونغ ذو الخلفية اليسارية وتودده لزعماء بيونغيانغ، وما أثير حول مداهمة أتباعه لبعض الكنائس.
لكن ترامب نفسه عاد بعد اجتماعه بضيفه وكال له المديج وأعلن عن تسوية خلافاتهما. إذ يبدو أن ميونغ قبل ورضخ لوجهة نظر مضيفه القائلة أن إلتزامات واشنطن الأمنية في الشرق الأقصى مرتبطة بعلاقات تجارية واقتصادية متينة تصب في صالح الولايات المتحدة. وبعبارة أخرى فإن سيئول وافقت على نهج ترامب حول دمج المجالين الأمني والاقتصادي في أي علاقات ثنائية، على الرغم من شعورها بنوع من القلق حيال انتقال علاقتها بواشنطن من الشراكة القائمة على الثقة إلى مجال للمساومة على إلتزامات متبادلة.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: سبتمبر 2025م





0 comments:
إرسال تعليق