بقلم : د. عبدالله المدني*
كان السابع من أغسطس يوما استثنائيا عند نائبة الرئيس الفلبيني سارة دوتيرتي وأنصارها ومحازبيها. ففيه صوت مجلس الشيوخ والمحكمة العليا بصورة مفاجئة على تعليق اجراءات محاكمتها وعزلها على خلفية اتهامات وجهها لها مجلس النواب في وقت سابق بخرق الدستور، وسوء استخدام المال العام، والتهديد بقتل رئيس الجمهورية فرديناند ماركوس الإبن وعقيلته، انتقاما لقرار الأخير بإقالتها من موقعها في مجلس الأمن القومي، ثم قيامه بتسليم والدها (الرئيس السابق ريدريغو دوتيرتي) إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي لمحاكمته بتهم القتل خارج نطاق القانون إبان حملته المثيرة للجدل ضد المخدرات ومافياتها أثناء الفترة التي تولى فيها رئاسة البلاد ما بين عامي 2016 و2022م.
وبهذا القرار الذي اتخذ بتصويت 19 عضوا مقابل 4 أعضاء معارضين، لن يسلب من السيدة القوية دوتيرتي حقها في العمل السياسي وستستمر في عملها كنائبة لغريمها الرئيس ماركوس، بل وسيكون الطريق ممهدا أمامها لخوض معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2028، والتي لن يشارك فيها الرئيس الحالي ماركوس لأن الدستور لا يجيز لأي رئيس أن يحكم البلاد إلا لفترة رئاسية واحدة مدتها ست سنوات. غير أن بعض المراقبين لا يحبذون هذا الرأي قائلين أن قرار مجلس الشيوخ والمحكمة العليا لا يعني تبرئتها، وانما حفظ الإتهامات الموجهة ضدها إلى حين، وقد يعاد إثارتها في أوقات الضرورة السياسية.
هذا علما بأن قرار تعليق محاكمتها وُجدتْ لها تخريجة قانونية تمثلت في الاستناد إلى مادة في الدستور الفلبيني تقول أنه لا يحق لمجلس الشيوخ أكثر من طلب مساءلة واحد ضد نفس المسؤول خلال عام واحد. ويرد البعض الآخر من المراقبين قائلين أن ما جرى في مجلس الشيوخ يحمل رسالة واضحة مفادها أن دوتيرتي تملك نفوذا هائلا وشعبية سياسية كافية لخوض معركة 2028 الرئاسية من أجل الحفاظ على إرث والدها السياسي وتبرئته والضغط للإفراج عنه، وبذلك ترد بقوة على معسكر الرئيس ماركوس الذي كان حليفا لها ولوالدها في انتخابات عام 2022، وحققت معه فوزا انتخابيا ساحقا، قبل أن تختلف معه على جملة من القضايا، ويتبادلا الاتهامات داخل أروقة السلطة.
وما لاشك فيه أن أنصار آل دوتيرتي كثر ومنتشرين في جميع مفاصل الدولة الفلبينية بما في ذلك الأجهزة القضائية والأجهزة التشريعية، بل أن بعض القضاة والبرلمانيين بدأوا منذ الآن عملية الابتعاد عن آل ماركوس والإصطفاف خلف سارة دوتيرتي على أمل أن تمنحهم المكافآت والمناصب حينما تصبح زعيمة للفلبين بعد انتخابات 2028. ولعل ما يبرهن على مدى نفوذ آل دوتيرتي في مختلف الأوساط الرسمية هو أن الرئيس السبق تمكن، حتى وهو معتقل على بعد آلاف الأميال من بلاده، من التأثير في نتائج الانتخابات البرلمانية والبلدية النصفية التي جرت في مايو الماضي بدليل أنه فاز شخصيا بمنصب عمدة مدينته (دافاو سيتي)، وأوصل إبنه سباستيان إلى منصب نائب عمدة تلك المدينة، وأعاد إبنه الآخر باولو مرة أخرى إلى عضوية مجلس الشيوخ. ولعل ما يقوي موقع سارة دوتيرتي ويضعف في الوقت نفسه موقع الرئيس فرديناند ماركوس الإبن هو أن شقيقة الأخير السناتور إيمي ماركوس متحالفة معها ضد شقيقها، وصوتت لصالح تعليق مساءلتها، ودعت الفلبينيين من خلال بث تلفزيوني إلى قبول القرار القضائي قائلة أن صوت القضاء هو صوت الدستور، وعلى الجميع احترامه.
وأذا ما نجحت دوتيرتي في شق طريقها نحو قصر مالاقانيانغ الرئاسي، ولم تثر ضدها لائحة الاتهامات مجددا، فإن ذلك يعتبر أيضا فوزا لمعسكر المؤيدين للصين ضد معكسر المؤيدين للولايات المتحدة داخل مؤسسة الحكم في مانيلا. ذلك أن بكين نجحت بصورة غير مسبوقة في التغلغل إلى حرم السياسة الداخلية للفلبين خلال سنوات حكم الرئيس رودريغو دوتيرتي الذي أدار ظهره لواشنطن لصالح بكين، واحتضن المستثمرين الصينيين، وزار بكين خمس مرات خلال ستة أعوام، وتودد علنا لنظيره الصيني تشي جينبينغ، بل وتجاهل حكما أصدرته محكمة التحكيم الدولية في عام 2016 لصالح بلاده ضد الصين في نزاعهما حول جزر صغيرة في بحر الصين الجنوبي تدعيان ملكيتها. وبعد فوز ماركوس في 2022 وتسلمه قيادة الفلبين سارع إلى تحسين علاقات بلاده مع واشنطن والنأي بنفسه عن بكين، وذلك من خلال السماح للقوات الأمريكية باستخدام قواعد عسكرية فلبينية لمراقبة التحركات العسكرية الصينية بالقرب من مضيق تايوان، وغيرها من الإجراءات.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أغسطس 2025م





0 comments:
إرسال تعليق