بقلم" د. عبدالله المدني*
هل تتذكرون حركة عدم الإنحياز، التي ابتدع فكرتها في ستينات القرن الماضي الثلاثي عبدالناصر ونهرو وتيتو (زعماء مصر والهند ويوغسلافيا على التوالي)، قائلين أنها الطريقة المثلى للتعامل مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في حربهما الباردة ؟ بينما كان الواقع يقول أن الدول المنخرطة في الحركة توقع تحالفات استراتيجية مع أحد القطبين وتعيش على معوناته الاقتصادية وتحارب بسلاحه وتتبنى توجهاته ومواقفه في المحافل الدولية.
كنت أحسب أن الحركة وفكرتها ماتت وانتفت ضرورتها بانهيار الإتحاد السوفيتي وزوال الثنائية القطبية وانتهاء الحرب الباردة، فإذا بي أكتشف أن هناك من يريد إحياءها بصيغة جديدة ومصطلحات مختلفة، زاعما أن المتغيرات العالمية الكثيرة خلال السنوات الماضية منذ العام 2020 ثم الأحداث المستجدة التالية (مثل الحرب الأوكرانية وحرب حماس في غزة وسياسات ترامب العدائية والحمائية) تفرض التفكير ببعث فكرة عدم الانحياز من سباتها وطرحها بمضامين جديدة تلائم وتواكب الواقع الدولي في القرن الحادي والعشرين.
جاء ذلك في كتاب صدر بالأسبانية في العام 2020 تحت عنوان "عدم الإنحياز النشط" (Active Nonalignmen for Latin America) من تأليف خورخي هاين سفير تشيلي السابق في الصين وجنوب أفريقيا واستاذ الأبحاث الحالي بجامعة بوسطن الأمريكية بالإشتراك مع زميليه كارلوس فورتين وكارلوس أومينامي. فما الجديد في طرحهم يا ترى؟
استبدل المؤلفون الثلاثة مصطلح "الحياد الإيجابي" الذي شاع في الستينات بمصطلح "الحياد النشط"، وأزالوا الإتحاد السوفيتي ووضعوا مكانه الصين كقطب عالمي منافس للولايات المتحدة، وزعموا ان حركة عدم الانحياز القديمة التي تزعمتها دول فقيرة وضعيفة من العالم الثالث آنذاك، سوف تقودها في صيغتها الجديدة دول الجنوب الصاعدة التي أصبحث قوية وقادرة على اتخاذ قرارات من منطلق مصالحها الوطنية وليس من منطلق خوفها او رضوخها لهذا القطب أو ذاك، ضاربين المثل بدول مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا وتركيا وباكستان واندونيسيا ومصر واثيوبيا، التي باتت "في وضع أفضل بكثير من الماضي لجهة الثقل الاقتصادي والموارد المالية والنفوذ العالمي"، بحسب قولهم، ومستبعدين دولا عربية خليجية تملك النفوذ والموارد والثقل فعلا، بل أكثر من غيرها.
اصحاب فكرة بعث عدم الانحياز الجديد، قالوا أيضا أنها مختلفة عن الفكرة القديمة لأنها ليست عقيدة أيديولوجية، وبالتالي يمكن أن تتبناها وتنخرط فيها الحكومات اليمينية واليسارية والوسطية، مؤكدين أن النظام العالمي مفكك، الأمر الذي يسمح لدول الجنوب أن تنزل الى الملعب للبحث عن الفرص والمزايا المتاحة وتضع مصالحها الخاصة في مقدمة أولوياتها وترفض الإنحياز إلى أي طرف في صراع القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين.
ولم ينسوا، بطبيعة الحال، الإشارة إلى أن "عدم الانحياز النشط" يعني أن تحوط الدول رهاناتها من خلال استغلال قوة عظمى ضد الأخرى لجني المكاسب القصوى لنفسها، وبعبارة أخرىن أنْ تنحاز في بعض القضايا إلى الولايات المتحدة، وفي قضايا أخرى إلى الصين. وهذا بحسبهم لم يكن متاحا في الصيغة القديمة لفكرة عدم الانحياز، إذ كانت دول العالم الثالث مخيرة ما بين اتخاذ موقف قوي ضد إحدى القوتين العظميين (وهو ما لم تكن قادرة عليه بسبب ضعفها اقتصاديا وعسكريا) أو السير في ركاب أحدهما والاستقواء بها على الآخر (وهو ما فعلته مضطرة).
إن فكرة تقديم عدم الانحياز في ثوب جديد، طبقا لمروجيها، داعبت خيالهم خلال إدارة دونالد ترامب الأولى، وفي سياق ما تعرضت له أمريكا اللاتينية من ضغوط اقتصادية أمريكية، وما فرضته جائحة كورونا من مصاعب اقتصادية مضاعفة وانخفاضات حادة في حجم الناتج المحلي، الأمر الذي جعل أمريكا اللاتينية تشهد أكبر ركود اقتصادي منذ 120 عاما، ففكروا في طرح "عدم الانحياز النشط" كدليل عمل لأقطار أمريكا الاتينية لتجاوز تلك اللحظات الصعبة، وكبوصلة للإبحار في عالم مضطرب للغاية. أما ما شجعهم على المضي قدما في الترويج للفكرة فتمثل، طبقا لهم، في أربعة تطورات عالمية كانت "المواقف منها متباينة، وكشفت عن ازدواجية في المعايير الأخلاقية" وهي: الأزمة الأوكرانية، وحرب غزة، وبروز مجموعة بريكس كمنتدى عالمي للجنوب وتوسيع أطرها وأهدافها وعضويتها، وحروب ترامب التجارية "الخارقة لمباديء التجارة الحرة والقانون الدولي". كما قالوا.
الحقيقة، التي لا بد من التصريح بها، في ختام المقال هو أن هذه الصيغة لفكرة عدم الانحياز، منحازة لأوضاع امريكا اللاتينية وظروفها التي تختلف عن أوضاع وظروف مناطق أخرى في العالم، و إنْ قيل خلاف ذلك. وإذا كنا نتفق مع مؤلفي الكتاب في أن عالم اليوم تغير كثيرا عن عالم الخمسينات والستينات، فإن الأمر يستوجب طرح أفكار جديدة تخاطب الواقع الجديد، لا أن يُعاد طرح أفكار قديمة فاشلة في قوالب ومصطلحات مبتكرة للإيهام بأنها الدواء والعلاج.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أغسطس 2025م





0 comments:
إرسال تعليق