بقلم: د. عبدالله المدني*
مع اقتراب موعد انتخابات رئاسية مبكرة محتملة في كوريا الجنوبية، في حال إدانة رئيسها الموقوف عن العمل "يون سوك يول"، تسود البلاد موجة من النقاشات بين أحزابها السياسية حول الهوية السياسية والايديولوجية لكل منها، في بيئة اعتادت منذ الإستقلال في 15 أغسطس 1948 على ترجيح اليمين على اليسار، بل ظلت تنظر إلى القوى اليسارية والتقدمية والعمالية بعين الشك والريبة وتتهمها بالعمالة أو الانحياز للنظام الشيوعي في كوريا الشمالية.
وبعبارة أخرى فإن القيود التاريخية في كوريا الجنوبية على "اليسار" و"التقدمية"، بعد الحرب العالمية الثانية وطوال حقبة الحرب الباردة، في صورة قمع ومطاردة قادتها وأنصارها بموجب قانون الأمن الوطني، مفابل التركيز على التنمية الاقتصادية وفق المفاهيم الرأسمالية، لم تترك مجالا لنمو أحزاب اليسار، بل أن التقارب الأيديولوجي بينها وبين النظام الماركسي اللينيني الحاكم في كوريا الشمالية جعلها أهدافا سهلة للقمع.
وبسقوط الديكتاتورية وتدشين الديمقراطية التعددية في عقد التسعينات من القرن العشرين، لبس اليساريون ثوب الديمقراطية، وأطلقوا أحزابهم السياسية تحت مسميات مختلفة، وراحوا يشاركون في الانتخابات على قدم المساواة مع القوى اليمينية والمحافظة (أول حزب تقدمي حقيقي حصل على مقاعد برلمانية كان في انتخابات عام 2004)، بل راحت السلطة في سيئول تتداول بينهما، فكلما سقط رئيس يميني حل مكانه رئيس ذو توجهات يسارية، والعكس صحيح، وهكذا.
وعلى الرغم من نجاح ممثلي اليسار في الوصول إلى السلطة أكثر من مرة، إلا أن طائفة واسعة من الكوريين الجنوبيين لم تستطع نسيان ماضيهم وسلوكهم المتطرف ومغامراتهم مع كوريا الشمالية، على الرغم من محاولاتهم الدؤوبة تبرأة أنفسهم عبر الإدعاء بأن ما بدر منهم لم يكن سوى تصرفات شبابية طائشة. ولهذا كثيرا ما تخفى اليساريون وراء أسماء وعناوين وتصنيفات لا تمثل توجهاتهم الحقيقية على أمل الوصول إلى السلطة، على نحو ما يفعله الإخوان المسلمون في البلاد العربية والإسلامية مثلا.
واليوم، ونحن في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لا يزال اليسار الكوري يواجه انعدام الثقة على نطاق واسع، ونجد أن حزب المعارضة الرئيسي (الحزب الديمقراطي)، والذي تأسس في مارس 2014 تحت إسم "تحالف السياسة الجديدة من أجل الديمقراطية"، والمصنف عموما كحزب يساري تقدمي يحاول أن يميز نفسه عن اليساريين التقدميين الملتزمين ويلبس عباءة الأحزاب الليبرالية اليمينية أو الوسطية، بدليل أن زعيمه "لي جاي ميونغ"، عامل المصنع والناشط الحقوقي السابق، خرج على إحدى القنوات المؤيدة له في 19 فبراير المنصرم ليقول علانية "أن الحزي الديمقراطي ليس تقدميا"، مضيفا: "في الواقع، نحن نتمسك بموقف يتعلق بيمين الوسط"، (الحقيقة أنه حزب يتحرك من يسار الوسط إلى يمين الوسط).
أثار حديث ميونغ المفاجيء حول تحوله إلى اليمين موجة من الانتقادات من أكثر من طرف. فقد ندد به المتحدث باسم الحزب اليميني الحاكم (حزب سلطة الشعب)، واصفا ميونغ بأنه يذرف دموع التماسيح، وما تقليده لنا إلا محاولة لجذب الناخبين المترددين لأنه يعرف جيدا أنه لا يوجد مستقبل كبير للكتلة التقدمية.
ومن جانب آخر صرح النائب المخضرم عن الحزب الديمقراطي في البرلمان "لي إن يونغ" قائلا: "لا أدري أي جزء في هوية حزبنا، الذي تأسس كتراكم للنضال السياسي من أجل تحقيق القيم التقدمية، يمكن أن أسميه يمينا محافظا".
والحقيقة، أن متابعتنا المستمرة والطويلة للشأن الكوري الجنوبي، تجلعنا نتبنى رأيا مفاده أن هوية معظم الأحزاب السياسية في هذه البلاد غير واضحة بدقة، بل أنها متقلبة ومتغيرة وفقا للظروف والمصالح الإنتخابية. فمثلا تحت قيادة الرئيس اليساري الأسبق "كيم داي جونغ"، قبلت سيئول برامج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي، وهو قرار سياسي لا يمكن لزعيم حزب تقدمي يساري حقيقي أن يتخذه.
وفي السياق نفسه، يجب ألا ننسى أن بعض المطالب والشعارات التي كانت تحدد هوية أصحابها على أنهم يساريون وتقدميون، مثل المطالبة بتحسين الأجور وتحديد ساعات العمل وتوفير الرعاية الصحية الشاملة وفرض نظام ضريبة الثروة، أصبحت اليوم مطالب وشعارات عالمية غير مقتصرة على اليساريين ومن يسمون أنفسهم بالتقدميين.
ووسط النقاشات المحتدمة اليوم على الساحة الكورية الجنوبية، ارتفعت أصوات تطالب بتغيير النظام الانتخابي الحالي إلى نظام جديد يضمن انبثاق مجلس تشريعي يعكس التوزيع الأيديولوجي للناخبين بصورة أفضل. ويبرر أصحاب هذه الأصوات مطلبهم بالقول أن معظم المشرعين محامون سابقون وأكاديميون وصحفيون ومديرون تنفيذيون للتكتلات الإقتصادية الكبيرة، وليس بينهم ممثلين للطبقة العاملة في بلد يضم أكثر من 20 مليون عامل ونحو مليون مزارع.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: مارس 2025م
0 comments:
إرسال تعليق