بقلم: د. عبدالله المدني*
لم تكد ماليزيا تخرج من أزمتها السياسية باختيار إسماعيل صبري يعقوب في شهر أغسطس الفائت كرئيس جديد للحكومة، إلا ودخلت اليوم أزمة جديدة بسبب تضارب المواقف في أوساط حزبها التاريخي الحاكم (المنظمة الوطنية المتحدة لشعب الملايو، المعروفة اختصارا باسم أمنو) حول محاكمة رئيس الحكومة الأسبق نجيب رزاق، الذي شغل منصبه من أبريل 2009 حتى مايو 2018 وكان رئيسا لـ "أمنو" من عام 2008 وحتى تاريخه.
ففي أوائل ديسمبر المنصرم أيدت محكمة الاستئناف الماليزية برئاسة القاضي عبدالكريم عبدالجليل بالاجماع حكما سابقا بإدانة رزاق لاختلاسه مبلغ 42 مليون رينغيت (حوالي 9.9 مليون دولار أمريكي) من صندوق إم دي بي السيادي، رافضة بذلك كل المحاولات والدفوع القانونية لتبرئته. وكانت المحكمة العليا الماليزية قد أصدرت في يوليو 2021 حكما بسجن رزاق لمدة 12 عاما وتغريمه مبلغا يوازي نحو 45.7 مليون دولار أمريكي في سبع تهم شملت اساءة استخدام السلطة وخيانة الأمانة وغسيل الأموال والتحايل على القانون.
وعلى حين ينظر البعض إلى هذا القرار القضائي الجديد بأنه خطوة هامة على طريق مكافحة الفساد وترسيخ لإستقلالية السلطة القضائية، يتخوف البعض الآخر من انعكاساته السلبية على الأوضاع السياسية الهشة في البلاد، ويتخوف البعض الثالث من أن يشكل القرار سابقة تطبق على زعيم "أومنو" الحالي أحمد زاهد حميدي الذي يواجه اتهامات جنائية شبيهة.
فنجيب رزاق ليس بالشخصية الهامشية في الحياة السياسية الماليزية كي تدان بهذه السهولة، ويسدل الستار نهائيا على طموحاته في العودة إلى السلطة. ذلك أنه من الرموز الكبيرة في الحزب الذي قاد البلاد إلى الاستقلال عام 1957 عن بريطانيا وتولى قيادتها على مدى ستة عقود دون انقطاع، وهو سياسي متنفذ وله اتباع كثر وشغل العديد من الحقائب الوزارية في الحكومات الماليزية المتعاقبة منذ منتصف السبعينات، ناهيك عن أنه نجل "تنكو عبدالرزاق" ثاني زعماء البلاد (من بعد رئيس الوزراء الأول "تنكو عبدالرحمن") الذي شغل منصبه من 1970 إلى 1976 وعرف لدى الماليزيين بجهوده في تحرير أرياف البلاد من الفقر.
ولكل هذا، يقول محاموه بقيادة الحقوقي المعروف "محمد شافعي عبدالله" أن السبل لم تستنفذ كلها بعد لإستئناف الحكم الصادر ضد الرجل السبعيني. حيث قرروا أن ينقلوا القضية إلى المحكمة الفيدرالية التي تعتبر أعلى محكمة استئناف نهائية في ماليزيا، وبهذا تمّ إخلاء سبيل رزاق بكفالة مالية، ما سمح له بمزاولة عمله في البرلمان الاتحادي كنائب منتخب، انتظارا لقرار المحكمة الفيدرالية الذي قد يستغرق نحو عام.
لكن مؤيدو وأعوان رزاق داخل أجنحة الحزب الحاكم وخارجها يأملون أن يقوم العاهل الماليزي السلطان "عبدالله إبن السلطان أحمد شاه" قبل ذلك باصدار عفو ملكي عنه، خصوصا وأن ملك ماليزيا يملك صلاحية منح العفو الكامل عن جميع الجرائم المرتكبة على أراضي الإتحاد الماليزي وإلغاء أحكام الإدانة ذات الصلة، ناهيك عن أن هناك سوابق في هذا الشأن يمكن البناء عليها. فسلطان ماليزيا السابق محمد الخامس أصدر في عام 2018 عفوا ملكيا عن زعيم المعارضة المعتقل آنذاك السياسي أنور ابراهيم، ما حرر الأخير من سجنه وأسدل الستار على كافة التهم التي فبركها ضده الزعيم الماليزي الأسبق مهاتير محمد بدوافع سياسية، الأمر الذي مهد الطريق أمامه للعودة إلى حلبة السياسة وخوض الانتخابات العامة لسنة 2018.
وسادت في الأشهر القليلة الماضية مخاوف وتكهنات في أوساط المعارضة الماليزية من أن تؤدي عودة "أومنو" إلى السلطة، على رأس الحكومة الفيدرالية الجديدة برئاسة إسماعيل صبري يعقوب بتكليف من ملك البلاد، إلى استخدام الأخير لنفوذه وسلطاته للتأثير على السلطة القضائية بغية تبرئة رزاق، خصوصا وأن رزاق لعب دورا لجهة صعوده إلى قيادة البلاد، وذلك حينما قاد هو وصديقه "أحمد زاهد حميدي" تمردا داخل الحزب الحاكم للإطاحة برئيس الحكومة السابق محيي الدين إسماعيل.
لكن يبدو أن صبري يعقوب استوعب مخاطر التدخل في أحكام القضاء، رغم استيائه من حكم القاضي عبدالجليل المشار إليه، فقرر النأي بنفسه عن التدخل والضغط حفاظا على سمعته وتفاديا لسكاكين المعارضة المتربصة به وحملات مهاتير محمد التشهيرية المتوقعه. غير أن قراراه هذا قد يؤدي إلى اتساع شقة الخلاف داخل الحكومة والحزب الحاكم، وقد ينجم عنه وصفه بالقائد المتخاذل الذي يتخلى عن رجاله في أوقات الشدة والأزمات.
في غضون ذلك، يستمر رزاق في استغلال كل الأدوات المتاحة أمامه، ولاسيما وسائط التواصل الإجتماعي والمنصات الالكترونية، لحشد التأييد لشخصه ولتبييض صفحته وتصوير ما حدث له من اذلال ومهانة على أنه محاولة استهداف رخيصة قام بهاأتباع مهاتير محمد بالتعاون مع شخصيات من إدارته السابقة مثل محافظة بنك نيجارا ماليزيا "ستي أختر عزيز" وزوجها توفيق أيمن ورجل الأعمال الهارب "لو تايك جوهو"، الذين يتهمهم بتحويل أموال إلى حساباته البنكية دون علمه. ولعل ما شكل دفعة معنوية كبيرة لنجيب رزاق، وجعله أكثر اصرارا على المضي قدما في هذا التوجه هو نتائج الانتخابات المحلية في ولاية ملقا الجنوبية في نوفمبر الفائت. ففي انتخابات هذه الولاية الصغيرة، التي تعتبر جوهرة ماليزيا، قاد رزاق حزبه ــ رغم ما أحيط بصورته وشخصه من تشويه ــ إلى انتصار ساحق تمثل في سيطرة "أمنو" عبر تحالفاتها على 21 مقعدا من مقاعد برلمان الولاية البالغ عددها 28 مقعدا.
يقول المراقبون أن هذا الانتصار قد يشجع رزاق والجناح المؤيد له داخل الحزب الحاكم على الضغط على الحكومة الحالية لإجراء انتخابات عامة مبكرة في التاريخ المقرر وهو شهر يوليو 1923 أو قبل ذلك، كي يخوضها من أجل تأكيد شعبيته وثقة الناخبين به.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: ديسمبر 2021م
0 comments:
إرسال تعليق