قناة بنما وعلاقتها بالتنافس الامريكس الصيني
بقلم د. عبدالله المدني*
عاد موضوع استعادة سيطرة الولايات المتحدة على قناة بنما إلى الواجهة منذ أن هدد به الرئيس الامريكي المنتخب دونالد ترامب في تصريحاته قبيل وقت قصير من نهاية العام الماضي، بحجة إرتفاع رسوم المرور في القارة. والمفارقة هنا أن هذا التهديد تزامن مع حلول الذكرى الـ 25 لإستكمال عودة قناة بنما إلى السيادة البنمية بدلا من السيادة الأمريكية في 31 ديسمبر 1999 بموجب معاهدة وقعها الرئيس البنمي عمر تريخوس سنة 1977 مع نظيره الامريكي جيمي كارتر، والذي للمفارقة ايضا، توفي قبل يوم واحد من تلك الذكرى.
يعود تاريخ التفكير في إنشاء هذا الرابط المائي الاستراتيجي بين المحيطين الاطلسي والهادي إلى القرن 16 زمن الغزو الأسباني لأمريكا الوسطى وذلك من أجل تحويل طرق التجارة العالمية. غير أن الفكرة لم تجد حماسا آنذاك لأسباب وعوامل كثيرة مالية ولوجستية وتقنية وتضاريسية ومناخية كانت جميعها تقف عقبة. وهكذا تأجل المشروع إلى ان اهتم به الفرنسيون في اواخر القرن 19، لكنهم تكبدوا خسائر فادحة دون تحقيق المراد.
في أوائل القرن العشرين أعرب الأمريكيون عن اهتمامهم ببناء القناة بهدف تقصير وتسهيل الطرق التجارية والعسكرية، ولهذا الغرض تفاوضوا مع حكومة كولومبيا التي كانت تسيطر وقتذاك على بنما بغية تأجيرهم الأرض كي يقيموا عليها مشروع القناة المنشودة، لكن المفاوضات لم تثمر عن شيء بسبب رفض الكولومبيين فكرة تأجير أراضيهم. وعليه فإن الولايات المتحدة لم تحصل على مبتغاها إلا بعد استقلال بنما عن كولومبيا سنة 1903، حيث عقدت الحكومتان البنمية والامريكية في السنة ذاتها اتفاقية تتيح للأمريكيين استئجار منطقة بعرض 16 كيلومترا لبناء القناة وتشغيلها وإدارتها وحمايتها عسكريا مقابل 200 مليون دولار سنويا. وفي 15 أغسطس 1914 اكتمل المشروع وافتتح رسميا لتصبح القناة واحدة من أبرز الانجازات الهندسية للبشرية في القرن العشرين.، ولتبدأ حقبة جديدة في تاريخ التجارة العالمية، عنوانها "تجارة أوسع في زمن أقصر ومخاطر أقل".
في العقود التالية شهدت العلاقات الامريكية البنمية توترات بسبب القناة، بلغت ذروتها في الستينات وانتهت في عام 1977 باتفاقية تريخوس ــ كارتر المشار إليها آنفا والتي نصت على نقل ادارة القناة على مراحل إلى بنما على أن تستكمل في 31 ديسمبر 1999، مع فقرة مثيرة للجدل تشير إلى حق واشنطن في التدخل عسكريا في حال تعرض حياد القناة أو وظيفتها للتهديد.
والسؤال المطروح هو ما هي الأهداف التي يسعى إليها من وراء التلويح بالسيطرة على القناة مجددا؟ خصوصا وأنه رفض في تصريحات لاحقة استبعاد استخدام القوة العسكرية في استعادة القناة، على الرغم من أن استخدام القوة هنا سوف يورط الولايات المتحدة في حرب عدوانية غير قانونية لأن قناة بنما لم تكن قط ملكية أمريكية وانما كانت مؤجرة فقط للولايات المتحدة.
في اعتقادنا أن ترامب الذي يدخل البيت الأبيض يسبقه شعاره المعروف "لنجعل أمريكا عظيمة" استخدم موضوع قناة بنما وهو يعلم جيدا أنها قضية عاطفية عند الامريكيين وتمس مشاعر الكثيرين منهم، وخصوصا أولئك الذين يجدون أن قيام بلادهم بإنشاء هذا الصرح الهندسي الجبار مفخرة ودليلا على عظمتها التكنولوجية والسياسية والاقتصادية، وأن عملية إعادتها كانت بمثابة خيانة أدت إلى تضرر نفوذ واشنطن وقوتها على الصعيد العالمي.
من ناحية أخرى، يبدو أن ترامب لم يكن ليثير هذا الموضوع إلا للطعن في إدارات خصومه الديمقراطيين التي كثيرا ما وصفها (ضمن سردياته الشعبوية)، بالضعيفة والمترددة والمفرطة بمصالح البلاد العليا، والمفتقدة لمهارات التفاوض. فالرئيس الذي تخلى عن القناة وأعادها إلى السيادة البنمية ففرط في عامل قوة إضافي للبلاد هو الرئيس الديمقراطي الفاشل كارتر وليس أي رئيس جمهوري.
ومن ناحية ثالثة، اراد ترامب أن يقول للأمريكيين أن قناة بنما ليست مجرد طريق تجاري مهم، وإنما أيضا مصدر قوة كونها تسهل حركة أساطيلهم التجارية والعسكرية بين المحيطات وبالتالي فهي مصدر أمن لهم إن بقيت في يد بلادهم، ومصدر قلق إنْ سيطر عليها الأعداء.
وهنا نأتي إلى مربط الفرس. ذلك أن بنما ليست دولة معادية للولايات المتحدة الآن، إنما قد تصبح كذلك إنْ سقطت قناتها في يد الصين التي لا يخفي ترامب قلقه من صعودها وتمددها في المحيطات ومنافستها لبلاده تجاريا وتكنولوجيا. والصين، من جانبها، لا تخفي سعيها لإستقطاب المزيد من الدول إلى مجال نفوذها من خلال مبادرتها المعروفة باسم "الحزام والطريق".
والمعروف أن الصين تلعب دورا اقتصاديا مؤثرا في أمريكا اللاتينية (الحديقة الخلفية للولايات المتحدة)، بل ساهمت في مشروع توسعة قناة بنما الذي اكتمل في عام 2016 وبالتالي تعززت قدرة القناة على استقبال سفن الشحن الضخمة، وهذا أدى بدوره إلى زيادة تدفق السلع بين الاسواق الآسيوية والغربية واللاتينية، ولا سيما السلع الصينية. وتعد الصين اليوم واحدة من أكبر الشركاء الإقتصاديين لبنما، وإحدى الدول الأكثر استثمارا في البنية التحتية حول القناة بما في ذلك الموانيء والمراكز اللوجستية، ما يجعلها فعلا مصدر قلق لواشنطن، خصوصا إذا ما عرفنا أن 60% من السلع المنقولة عبر القناة قادمة من الولايات المتحدة أو متجهة إليها، ناهيك عن أهمية القناة في التجارة الدولية كونها معبرا لما يقرب من 5% من اجمالي التجارة البحرية العالمية.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يناير 2025م