سريلانكا في قبضة اليسار الماركسي
بقلم: د. عبدالله المدني*
منذ الانهيار الاقتصادي وافلاس البلاد وما اعقبه من انتفاضة شعبية شارك فيها الشعب بمختلف توجهاته السياسية والعرقية والدينية، وأدت إلى استقالة رئيس البلاد آنذاك "غوتابا راجاباكسا" وهروبه مع بطانته الفاسدة في عام 2022، والشعب السريلاكي يترقب انتخابات رئاسية لاختيار رئيس جديد يخلف الرئيس "رانيل ويكريميسنغا" الذي انتخب استثناء من قبل البرلمان وليس من قبل الشعب. وخلال السنتين الماضيتين حاول الأخير دون جدوى أن يصلح الاقتصاد ويخرج االبلاد من عنق الزجاجة. وحينما أعيته الحيلة لجأ إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كان مقررا لها شهر مايو المنصرم. وبالتزامن لجأ إلى صندوق النقد الدولي عله يساعد البلاد على الخروج من كبوتها وافلاسها.
الصندوق الدولي، وكما هي عادته، تقدم بخطة تقشف. والخطة لئن أدت إلى استقرار اقتصادي نسبي وانهت أشهرا طويلة من نقص الغذاء والوقود والأدوية وأعادت الهدوء إلى الشارع المضطرب، إلا أنها انهكت المواطن البسيط بالضرائب ووضعت على كاهله ما لا يحتمل، الأمر الذي جعله لا يثق بوعود الرئيس ويكريميسينغا حول بناء اقتصاد قوي مقترن بنظام سياسي واجتماعي متطور.
وفي 21 سبتمبر المنصرم كانت سريلانكا على موعد مع إجراء أول انتخابات رئاسية بعد أحداث عام 2022. فجرت عملية التصويت بصورة سلمية وسلسلة بمشاركة نحو 75% من الناخبين المؤهلين البالغ تعدادهم 17 مليون نسمة، فيما بلغ عدد المترشحين للمنصب الرئاسي 39 شخصا يتقدمهم الرئيس ويكريميسينغا، وزعيم المعارضة "ساجيت بريماسادا" (نجل رئيس أسبق أغتيل عام 1993 أثناء حقبة الحرب الأهلية مع الانفصاليين التاميل)، الذي تعهد في حال فوزه بمكافحة الفساد وإعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول شروط الانقاذ. علاوة على "أنورا كومارا ديساناياكا" وهو زعيم "جبهة التحرير الشعبية" الماركسية التي قادت في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته انتفاضتين فاشلتين تسببتا في مقتل أكثر من 80 ألف شخص، قبل ان يتحول إلى جزء من التيار السياسي السائد دون أن يقدم اعتذارا للشعب عن ماضيه الأسود. هذا علما بأن حزبه نال أقل من 4% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية في عام 2019.
المفاجأة المدوية، وإنْ لم تكن مستبعدة، تمثلت في حصول الماركسي ديساناياكا على المركز الأول بنسبة 42.4% من الأصوات متفوقا على بريماسادا الذي حصل على المركز الثاني بنسبة 32.76%، وعلى ويكريميسنغا الذ حل ثالثا بنسبة 17.72%. وبطبيعة الحال فإن فوز ديساناياكا بهذه النسبة العالية، هو الذي لم ينل سوى 3% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية السابقة، يمثل تغييرا في سلوك الناخب السريلانكي، ويبعث برسالة مفادها أنه فاض به الكيل ويتوق إلى التغيير ويعكس مدى استيائه من الساسة النخوبيين والتقليديين.
في أسباب وعوامل فوز المرشح الماركسي، يمكن القول أنه ناجم عن حملاته المؤيدة للطبقة العاملة الفقيرة وطموحات الفئات الشبابية، ناهيك عن وعوده بالتحلل من شروط صندوق النقد الدولي القاسية، خصوصا وأنه ترشح باسم "أئتلاف قوة الشعب الوطنية" وهو مظلة تضم جماعات المجتمع المدني والمهنيين واتحادات الطلبة ورجال الدين البوذيين.
غير أن الواقع يقول بصعوبة إدارة الرئيس المنتخب للملف الاقتصادي. فمشاكل سريلانكا الاقتصادية صعبة وناجمة اساسا من إفراطها في الأقرتراض المحلي والخارجي والانفاق على مشاريع لا تدر ايرادات معتبرة حتى بلغ حجم ديون البلاد وقت توقفها عن السداد عام 2022 رقما قياسيا هو 83 مليار دولار. وبالتالي فإن الرئيس ديساناياكا، الكاره للغرب وصناديقه المانحة، ليس أمامه سوى القبول بمواصلة العمل مع صندوق النقد الدولي على مضض مع محاولة التفاوض على مسألة إعادة هيكلة الديون، وإلا فإن الصندوق سيتوقف عن تقديم الدفعة الرابعة من الأموال البالغ مقداره 3 مليارات دولار والضرورية للحفاظ على الاستقرار، وهو ما حذر منه الرئيس السابق ويكريميسينغا والعديد من المراقبين لأن ذلك سوف يؤدي إلى العودة إلى المربع الأول واحتمال قيام انتفاضة شعبية جديدة. اما فيما يتعلق بسياسة البلاد الخارجية في العهد الجديد، فإن المتوقع أن يقود ديساناياكا بلاده بعيدا عن الغرب وباتجاه اقوى نحو الصين التي تبدو منتشية بفوزه.
هذا علما بأن الغالبية الساحقة من السريلانكيين، وخصوصا الأغلبية السنهالية، ينظرون إلى اليابان كشريك أكثر تفضيلا مقارنة بالولايات المتحدة والصين والهند، وإنْ مالت نسبة كبيرة من الأقلية التاميلية إلى الهند باعتبارها الجارة التي هبت قبل غيرها لدعم بلادهم في أزمة الوقود والطعام والدواء عام 2022، وذلك طبقا لبحث أجرته مؤخرا مؤسسة "مركز البدائل السياسية" في كولومبو.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أكتوبر 2024م
إيران، وضياع رفاهية الخيارات
كتبت صبحة بغورة:
أكد الرئيس الإيراني بزشكيان في كلمته التي ألقاها في منظمة الأمم المتحدة على ما يلي :
" أن إيران لا تسعى إلى الحرب، وتعتبر الحرب ضد إسرائيل فخا لن تنزلق إليه "
إيران تهدد برد عملي على اسرائيل وتتوعد:
" لن نترك أيّا من أعمال اسرائيل الإجرامية تمضي دون رد "
وكان المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني قد صرح بأن :
" إيران لن ترسل مقاتلين لمواجهة اسرائيل في لبنان وغزة "
لقد تعرضت السيادة الإيرانية لانتهاكات سافرة وخطيرة داخل إيران عدة مرات راح ضحيتها العديد من كبار القيادات المحسوبة على الفصائل والحركات المسلحة الفلسطينية واللبنانية ، وجرى تصفية قيادات أخرى خارج التراب الإيران ولم يكن رد الفعل العملي الإيراني في مستوى الحدث ، بل كان أكثر لطفا من قولها ، لقد فقدت إيران رفاهية الخيارات أمام خطورة تصعيد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ، فهي إمّا أمام شبح الحرب الشاملة ، أو في مواجهة معضلة رسم معادلات ما بين منتصر وخاسر، لقد رسمت إيران الكثير من الخطوط الحمراء سرا وعلانية وكان لسان حالها يقول بصوت عال تلك خطوط لا ينبغي تجاوزها وإلاّ وجب التأديب .
لم تتناول إيران أمور وقضايا منطقة الشرق الأوسط في إطار معركة الوعي لتكون بحق كما تزعم الصوت المعتدل الحر، بل لم تكن مواقفها على القدر الكافي من الصراحة والمستوى المطلوب من الشفافية وذلك حتى لا تسهُل محاسبتها أو يفتح المجال لمساءلتها ، إنها تروّج أفكارا بالقول ثم تأتي بنقيضها في الفعل.
لقد اغتالت اسرائيل اسماعيل هنيه القيادي البارز في حركة " حماس" ورئيس المكتب السياسي للحركة الفلسطينية في مقرإقامته الآمنة داخل إيران، ثم قضت على كل أعضاء الصف الأول من القيادة العليا في حزب الله اللبناني وهي تواصل مسلسل الاغتيالات لقيادات الصف الثاني والثالث.. وقد أكدت إيران حينها وفي كل مرة احتفاظها بحق الرد ، وليتها ما فعلت . إن أذرع إيران المختلفة، الحركات والجماعات المرتبطة بها عقائديا وسياسيا في غزة وسوريا ولبنان واليمن والعراق.. كلها مهددة بالفناء بل إنها مدرجة في قوائم الأطراف المقرر زوالها من الوجود لضمان أمن اسرائيل التي تبدو حاليا في أفضل حال، إذ لا تقوى جيوش أيّ من هذه الدول المذكورة تحديدا على مواجهتها دفاعا عن نفسها وذودا عن ترابها بعدما انهكتها المؤامرات وأضعفتها الصراعات الداخلية المسلحة عسكريا واقتصاديا، ولا شك أن رؤساء هذه الدول وقيادات الحركات والفصائل المسلحة تدرك الآن جيدا أن الواقع الحالي في إيران التي ، ليس كما كان يبدو في إيران التي ، وقد لا تجدها يوما سندا مقنعا معها وظهيرا قويا لها، لقد رفعت إيران يدهاعن قضايا الشرق الأوسط ضعفا وتقصيراوأبانت عن موقفها سفورا، ملوحة في المقابل بملفها النووي، عساها تحصل من الغرب على بعض ما عجزت عن تقديمه لحلفائها في الشرق، فهامش خياراتها يضيق، ومكانتها الإقليمية تنحسر، إذ خلال إلقاء الرئيس الإيراني كلمته الأخيرة أمام الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة عبرت عدة اوساط إيرانية عن قناعتها بضرورة تحرك الرئيس الإيراني لوضع حد للعداء بين طهران وواشنطن حيث ترى ذات الأوساط أن الوقت مناسب للمصالحة بين البلدين، وهو مؤشر على احتمال فقدان محور المقاومة أحد أهم القوى الإقليمية الداعمة ، وبعدما أثبتت القوة العسكرية الأمريكية حضورها في قلب الأحداث أضاعت إيران في مياه الخليج مكانها ومكانتها.
ضرورة الحفاظ على الاستقرار ومكافحة ظاهرة انتشار رسائل التهديد
أشار رئيس المركز الدولي للملكية الفكرية والدراسات الحقوقية - فِكر المحامي شادي خليل أبو عيسى إلى ضرورة مكافحة ظاهرة انتشار رسائل التهديد بإخلاء مباني في العديد من المناطق وتوخي مختلف وسائل الإعلام وكل من يدير أي حساب على مواقع التواصل الاجتماعي إلى احترام المعايير المهنيّة الأخلاقية في نشر الأخبار. وأمِل أن يتم تخطّي المرحلة الصعبة. رحم الله الشهداء والشفاء للمتضررين ويحفظ لبنان.
ما بين الأحمر والأصفر، البرتقالي هو الأنسب لتايلاند
بقلم: د. عبدالله المدني
يتساءل الكثيرون عن أسباب صمت "حزب الشعب" التايلاندي وأنصاره، وابتعاده عن لعب دور في أحداث تايلاند السياسية التي كان آخرها تصويت البرلمان في 14 أغسطس على تسمية الشابة عديمة الخبرة "بيتونغتارن شيناواترا" (37 عاما)، المعروفة بإسم "أونغ إينغ" رئيسة للحكومة بدلا من "سريتا تافيسين" الذي تم اسقاطه قبل أن يكمل عامه الأول في السلطة بسبب صدور حكم قضائي ضده على خلفية قيامه بتعيين وزيرا مدان بالرشوة في حكومته.
وحزب الشعب، جسم جديد في الحياة السياسية التايلاندية، تأسس بهذا الإسم تيمنا بحزب عسكري قديم كان يحمل الإسم نفسه ونجح في وضع نهاية للملكية المطلقة في البلاد في عام 1932، بل هو في حقيقة الأمر بديل لحزب "التحرك إلى الأمام" الليبرالي الصغير الذي أسسه وقاده رجل الأعمال التقدمي وخريج جامعة هارفارد الأمريكية العريقة "بيتا ليمغارونرات وخاض به الانتخابات العامة الأخيرة في مايو 2024، ففاجأ الجميع بحلوله في المركز الأول وحصوله على 151 مقعدا من أصل 500 مقعد.
غير أن توجهاته الليبرالية والتقدمية ودعواته الصريحة لبرامج إصلاحية طموحة تتعلق بإعادة هيكلة النظام السياسي جذريا وتقليص صلاحيات الملك "ماها فاجيرالونغكورن"، جعل العسكر وأنصار الملكية يرتابون فيه، فحشدوا أعضاء البرلمان الموالين لهم كي يحولوا دون حصول زعيمه ليمغارونرات على الثقه البرلمانية اللازمة لتشكيل حكومة جديدة برئاسته، بل عملوا، فوق ذلك، على إقصائه من الحياة السياسية عبر دفع المحكمة الدستورية إلى رفع قضية ضده بدعوى أنه كان مساهما في شركة إعلامية وقت خوضه انتخابات مايو 2024. وعليه أبطلت المحكمة عضويته مع مجموعة من أنصاره، وحظرت حزبه (التحرك إلى الأمام). وعلى حين انضم عدد من قادة حزبه إلى أحزاب أخرى، شكل الآخرون حزبا جديدا باسم "المستقبل". وهنا أيضا ضغط العسكر مجددا على المحكمة الدستورية لإيجاد ثغرة قانونية تحول دون ممارسة الحزب الجديد للعمل السياسي، ونجحوا في ذلك، ليتحرك أنصار ليمغارونرات ويعيدوا تشكيل حزبهم تحت إسم "حزب الشعب" بقيادة جديدة لا تضم ليمغارونرات و11 شخصية قيادية أخرى، منعت جميعها من ممارسة السياسة لعقد من الزمن.
بعد إقصاء ليمغارونرات من البرلمان ومنعه من قيادة تايلاند، ذهب منصب رئيس الوزراء لغريمه ""سريتا تافيسين" زعيم حزب "بيوا تاي" الذي حل في المركز الثاني بعده، وذلك بموافقة العسكر وأنصارهم في البرلمان، لأنهم وجدوا في هذا الحزب أهون الشرين. فحزب "بيوا تاي"، أو الواجهة السياسية لرئيس الوزراء الأسبق المليادير الفاسد "تاكسين شيناواترا" ليس سوى كيان شعبوي مناهض للملكية سرا ويرتدي أنصاره القمصان الحمراء وأغلبهم من الريفيين الفقراء المغرر بهم، ممن تسببوا سابقا في قلاقل واضطرابات واصطدامات دموية مع أنصار مؤسستي القصر والجيش الذين يميزون أنفسهم بارتداء القمصان الصفراء.
ومن هنا صارت مقولة "البرتقالي هو الأنسب لتايلاند" تتردد على ألسنة الكثيرين كخيار سياسي وسط بين "الأحمر" الذي يمثل شيناواترا وزمرته الذين أفسدوا الحياة السياسية، و"الأصفر" الذي يمثل العسكر وأنصارهم من المحافظين ممن تسببوا أكثر من مرة في انقلابات عسكرية، فأجهضوا التجربة الديمقراطية وحالوا دون استقرار سياسي طويل.
ولكي نجيب على أسباب عدم خروج أنصار حزب الشعب، الذين يقدرون بعشرات الآلاف، إلى الشوارع للإحتجاج على الظلم الذي لحق بزعيمهم المحظور من العمل السياسي حاليا، وعلى التطورات التي أعادت أسرة شيناواترا المعروفة بفسادها وطموحاتها اللامحدودة إلى السلطة، نستعين بمقابلة صحفية أجرتها صحيفة "آسيا تايمز" الصادرة في هونغ كونغ مع "ثاناثورن"، أحد قادة البرتقاليين، قالها فيها ما مفاده أن أنصاره المنضوين تحت راية حزب الشعب سوف يواصلون حملاتهم الحثيثة من أجل إصلاح النظام الملكي، لكن الوضع الحالي غير مناسب للتحرك في الشارع بسبب السيف المسلط عليهم والمتمثل في قانون "العيب في الذات الملكية" الذي يمكن أن يؤدي إلى سجن المنتقدين لمدة 15 عاما، ناهيك عن أن "هدفنا التغيير السلمي والابتعاد عن العنف"، مشيرا في هذا السياق إلى سهولة تحشييد أنصاره، ولاسيما من طلبة جامعة تاماسات في بانكوك التي لطالما لعبت أدوارا تاريخية كمعقل للتجمع ومنطلق للتظاهرات التي أسقطت أكثر من حكومة زمن الملك الراحل "بهوميبول أدولياديت". ومن الأمور الأخرى التي تطرق لها أن حزب الشعب يعد نفسه وأنصاره بتأن من أجل الفوز في انتخايات عام 2027، وأن أي فوز له وقتذاك دون تسليمه قيادة البلاد سوف يفجر الأوضاع.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: سبتمبر 2024م
بنغلاديش .. تسليح الجيش والسياسة الدفاعية
بقلم: د. عبدالله المدني*
بينما تسابق حكومة البروفيسور محمد يونس المؤقتة في دكا الزمن لترتيب أوضاع البلاد بعد سقوط حكومة الشيخة حسينة واجد، تجري أحاديث ومناقشات واسعة في أوساط جنرالات المؤسسة العسكرية حول التحديات التي يواجهها الجيش البنغلاديشي لجهة التسليح والسياسات الدفاعية في مواجهة الخصوم الإقليميين، ولاسيما الجارة الميانمارية ذات السياسات العدوانية والتي اصطدم جيشها بالجيش البنغلاديشي أكثر من مرة على خلفية أزمة المسلمين الروهينغا سنة 2017.
يتساءل قادة الجيش اليوم عن مصير خطة وضعتها الحكومة السابقة لتنويع مصادر السلاح وتطوير كفاءة الجيش خلال السنوات القادمة حتى عام 2030، وعما إذا كانت الحكومة المؤقتة الحالية أو خليفتها ستلتزم بها.
والمعروف أن الجيش البنغلاديشي، الذي تأسس غداة انفصال البلاد عن باكستان سنة 1971 من بقايا ضباط وجنود الجيش الباكستاني الذين حاربو إلى جانب فكرة قيام بنغلاديش حرة ومستقلة، ومن بقايا الأسلحة الغربية للجيش الباكستاني المهزوم ومن الأسلحة السوفياتية التي زودته بها الهند، لم يجد في العقود الأخيرة مصدرا للتسليح سوى الصين لأسباب متعلقة برخص أسعار السلاح الصيني، من جهة، وعدم ارتباط تصديرها بشروط تعجيزية حول طرق السداد والإستخدام من جهة ثانية، واستعداد بكين لتلبية طلبات السلاح أملا في توسيع نطاق نفوذها في شبه القارة الهندية وخليج البنغال والمحيط الهندي من جهة ثالثة. ولهذه صارت بنغلاديش ثاني أكبر وجهة للأسلحة الصينية على مستوى العالم، وصار ثلثا أسلحة البلاد مصدرها بكين، طبقا لأحدث بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI).
ولعل ما يثار اليوم من تساؤلات يرتبط ارتباطا مباشرا برداءة الأسلحة الصينية وعدم كفاءتها العملية في تمكين البلاد من الدفاع عن نفسها ضد الاخطار الأمنية الحالية او المستقبلية في عالم يسوده الإضطراب وعدم اليقين وفي منطقة استراتيجية يتنازع عليها الكبار، لاسيما وأن بكين تزود ميانمار بنفس الأسلحة وربما بعتاد أكثر تطورا كون الأخيرة من أقرب حليفاتها الآسيويات. ومن هنا تزايدت الدعوات بضرورة تنويع مصادر سلاح الجيش عبر الإستيراد من خارج مستودعات أسلحة التنين الصيني، أي اللجوء إلى دول كبرى معروفة بصناعة السلاح المتقدم مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، أو الاعتماد على دول اقليمية تصنع السلاح المتطور بتكنولوجيات غربية مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا والهند، أو على الأقل إعادة النظر في السياسات الدفاعية من خلال الإلتحاق بالتحالفات العسكرية الناشئة في النطاق الآسيوي.
إلى ما سبق، هناك فكرة الإعتماد على الذات في تصنيع مستلزمات دفاعية أوسع نطاقا وأكثر تنوعا. والجدير بالذكر في هذا السياق أن بنغلاديش تفتقر إلى قاعدة صناعية دفاعية فعالة أو كبيرة، وبالتالي فإن انتاجها ظل طيلة العقود الماضية محدودا للغاية ومقتصرا على انتاج الأسلحة الصغيرة والمتفجرات والمركبات متعددة الإستخدامات بترخيص صيني. وبعبارة أخرى لم يلاحظ قيامها بتصنيع أسلحة ثقيلة مثل الدبابات وأنظمة المدفعية والطائرات الإعتراضية والطرادات او الفرقاطات. وإن سجل لها سابقا قيامها بتطوير بعض سفن الدورية المزودة باسلحة خفيفة، من خلال أحواض بناء السفن في ميناء شيتاغونغ.
والحقيقة أن أول الأفرع العسكرية التي على صناع القرار في دكا إيلائه اهتماما خاصا، في حال البدء بتحديث وتطوير الجيش هو السلاح البحري المسنود بالطائرات القاذفة الحديثة والمروحات الهجومية. ذلك أن لبنغلاديش حدود بحرية متنازع عليها مع كل من ميانمار والهند، وهي لئن انتزعت من المحاكم الدولية المختصة في عامي 2012 و2014 أحكاما لصالحها في مواجهة هاتين الجارتين، إلا أنها تخشى حدود تطورات سلبية في المستقبل، خصوصا وأن المناطق المتنازع عليها تسيل لها لعاب قوى دولية وإقليمية أخرى بسبب ثرائها بالغاز الطبيعي والمعادن ومصائد الأسماك، هذا ناهيك عن احتضان تلك المنطقة المعقدة جغرافيا لجزيرة "سانت مارتن" ذات الأهمية الإستراتيجية الكبيرة، خصوصا مع تردد أنباء بأن واشنطن ترغب في أن تكون لها قاعدة عسكرية في سانت مارتن لمراقبة التحركات الصينية. والمعروف أن سانت مارتن تعرضت ذلت مرة لقصف من جانب ميانمار أدى إلى فصلها عن بنغلاديش، ولم تستطع الأخيرة استردادها إلا بعد عدة أسابيع حينما وصلت سفن البحرية البنغلاديشية من قواعدها البعيدة معززة بطائرات سلاح الجو العتيقة من الصناعة الروسية.
إن هذه الأمثلة والمبررات وغيرها هي التي تلح على ضرورة تحديث الجيش بسرعة مع خلق قوة بحرية متطورة قادرة على تأمين الدفاع عن أمن وإستقرار وسيادة البلاد، وهي نفسها التي دفعت بالحكومة السابقة إلى القيام بمبادرات لتنويع مصادر السلاح، شملت تسريع بعض المشتريات الدفاعية من الهند، وتوقيع خطاب نوايا مع فرنسا حول التعاون الدفاعي، والحصول من تركيا على طائرات بدون طيار وصواريخ ومدافع صاروخية، واستلام فرقاطة حديثة ومتطورة من كوريا الجنوبية، والاتفاق مع طوكيو على شراء أسلحة متنوعة من المخزون الياباني.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: سبتمبر 2024م
تحديات التعليم المهني والتعليم الجامعي .. نموذج الصين
بقلم : د. عبدالله المدني
تشهد دول العالم، ولاسيما الدول النامية كثيفة السكان، تحديات تعليمية تتمثل في إزدياد أعداد خريجي الجامعات والأكاديميات العالية مقابل انخفاضات مضطردة في أعداد خريجي المدارس والكليات المهنية. وفي عالم يسوده عدم اليقين واضطراب أسواق العمل وعدم تطابق مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، تشكل هذه الظاهرة المتمثلة في وجود فائض في المعروض من خريجي الجامعات ونقص في المعروض من العمالة الماهرة، خطرا على الاقتصاد الوطني واستقرار الدولة ونموها، ناهيك عن خطر تدني مستويات التعليم الأكاديمي بسبب كثافة أعداد الملتحقين بالجامعات وإزدحام الكليات بهم.
وعليه يجب على خريجي المدارس الثانوية أي يعوا ويستوعبوا حقيقة أن التعليم الجامعي لم يعد يضمن الرفاهية والحصول على وظائف مجزية وتحقيق الأحلام الوردية، وأن التعليم الصناعي والمهني هو البديل لمستقبل مشرق.
وأمامنا مثال الصين التي تفيد بياناتها التعليمية الرسمية للأعوام من 2015 إلى 2017 مثلا أن أعداد خريجي الجامعات فاقت أعداد خريجي المدارس الإعدادية والثانوية. وهذا لئن دل على وجود زيادات مضطردة لجهة أعداد الملتحقين بالتعليم العالي والمتخرجين من الجامعات، فإنه يشير في الوقت نفسه إلى تدهور نظام التعليم العالي وجودته وتضرر خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ويزداد الأمر سوءا عندما يعتقد خريجو الجامعات أن "التعليم العالي هو تعليم النخبة" فيمتنعون عن القيام بوظائف "الياقات الزرقاء" التي توفر أكثر الفرص حيوية في الصين، أو يرفضون فكرة تأهيلهم مهنيا، حتى وإنْ ضمنوا وظائف تزيد عوائدها على عوائد الوظائف الإدارية والمكتبية المريحة.
وللعلم فإن الصين شرعت منذ عام 1996 في اصدار قوانين خاصة بالتعليم المهني، حددت فيها مكانة التعليم المهني ودوره في التنمية والجهات المسؤولة عنه وطرق تمويله. وهكذا ظهرت في البلاد مدارس ومعاهد التعليم المهني على المستوى العالي (بعد الثانوية) والمستوى المتوسط (بعد الابتدائية) إلى جانب المدارس الفنية. ويعتبر التعليم المهني العالي هو أعلى درجات التعليم المهني الصيني ويضم اليوم 87 معهدا لتعليم فنون مهنية قصيرة المدة واخرى تخصصية ذات مدة أطول. أما المدارس الفنية التي يمكن الالتحاق بها بعد أي مستوى دراسي فمن مسؤولياتها اعداد الأكفاء من العاملين في الجبهة الأمامية للإقتصاد الوطني في المجالين التطبيقي والتكنولوجي. وفي عام 2022 أصدرت الحكومة الصينية نسخة جديدة من دليل تخصصات التعليم المهني، ضمت 19 فئة رئيسية و1349 تخصصا متنوعا.
غير أن التحولات التنموية والاقتصادية التي شهدتها الصين خلال العقود الماضية والتي أدت في مجملها إلى تغير في المفاهيم والقيم والتطلعات على المستوى الفردي، نجم عنها ميل رافض من قبل خريجي المراحل الثانوية للإلتحاق بالتعليم المهني، وميل رافض آخر من قبل خريجي الجامعات للإلتحاق بالوظائف المهنية. وتظهر بيانات عام 2022 أنه من بين جميع الصينيين ممن هم في سن العمل، أكمل حوالي 30 بالمائة منهم تعليمهم الثانوي، و14 بالمائة تعليمهم الثانوي الأكاديمي، و9 بالمائة فقط أكملوا تعليمهم الثانوي المهني، والسبب هو الفكرة السائدة بأن عوائد التعليم الأكاديمي العالي هناك تزيد بأكثر من 20 بالمائة مقارنة بعوائد التعليم المهني، مما يفقد التعليم المهني الجاذبية عند الشباب لصالح نيل الدرجات العلمية الجامعية.
ومن هنا قيل أن الصين ومشاريعها التنموية تواجه وضعا خطيرا بسبب النقص في العمالة الماهرة المطلوبة من جهة، ورفض خريجي الجامعات من الصينيين الالتحاق بالوظائف المهنية من جهة أخرى. ولهذا عمدت بكين في عام 2022 إلى تخصصيص نحو 3.68 مليار دولار لدعم التعليم المهني بزيادة نحو 8.5% عن العام 2021.
وبطبيعة الحال فإن عوائق كثيرة تحول دول هجرة الصينيين من حملة الشهادات الجامعية إلى الخارج للبحث عن الوظائف التي حلموا بها ولم يعثروا عليها في وطنهم، وعلى رأس هذه العوائق عامل إجادة اللغة الإنجليزية كتابة وتحدثا وقراءة ونطقا سليما، وعامل اختلاف الثقافة وقابلية التكيف السريع مع الثقافات الأخرى. ولهذا فإن السبيل الوحيد أمامهم هو القبول بالانخراط في برامج التأهيل المهني لمدد تتراوح ما بين عام أو عامين.
يمكن للصين أن تتجاوز مأزق عدم تطابق مخرجات التعليم فيها مع متطلبات السوق عبر اعتماد سياسات تعليمية وتدريبية مشابهة للمطبق في جارتها الهندية، ومنها على سبيل المثال معالجة فجوة الأجور بين الجنسين من جهة، وبين المتزوجات والعازبات من جهة أخرى، وبين الخريجين المهنيين والخريجين الجامعيين من جهة ثالثة. ومنها ايضا العمل على تغيير التصور التقليدي الشائع للتعليم المهني كخيار أدنى، بمعنى الإعلان عن التعليم المهني بشكل أكثر إيجابية وتقديم حوافز للملتحقين به مع تحسين شامل لجهة جودة المناهج وجودة بيئات التدريب ذات الصلة.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: سبتمبر 2024م
عودة آل شيناواترا إلى السلطة في بانكوك
بقلم: د. عبدالله المدني*
مرة أخرى تقدم عائلة شيناواترا المعروفة بطموحاتها السلطوية غير المحدودة على دفع تايلاند نحو الفوضى وعدم الإستقرار. فوصول السيدة الشابة "بيتونغتارن شينا واترا" (37 عاما)، المعروفة بإسم "أونغ إينغ" إلى رئاسة الحكومة، لا يعنى سوى أن البلاد سوف تعيش حالة من التقلب والإضطراب وعدم اليقين، خصوصا وأنها قادمة الى المشهد السياسي دون أدنى خبرة.
صحيح أن أونغ إينغ شخصية كاريزمية ومعروفة في عالم العقارات والفنادق وتلقت تعليمها في بريطانيا، إلا أنها لا تملك أي تجربة سياسية، سوى انها شاركت وهي حامل في انتخابات عام 2023 كخطيب داعم لحزب والدها المعروف باسم حزب"بيوا تاي" (حزب شعبوي مناهض للملكية ويرتدي أنصارها القمصان الحمراء وأغلبهم من الريفيين الفقراء). وهذا، بطبيعة الحال، لا يجدي نفعا في حالة بلد كتايلاند يحتاج إلى زعيم قوي ينعش الاقتصاد المتعثر ويؤمن الإستقرار الطويل ويمنع وقوع الانقلابات العسكرية.
ومن الواضح لدى عموم التايلانديين أن والدها ووالدتها كانا يعدانها بتأن للعمل السياسي ويخططان لدفعها إلى المعترك في انتخابات عام 2027، كوجه شبابي يمثل الأمل والتغيير، لكن يبدو أن العائلة قررت أن تسرع الجدول الزمني وتقحمها في العمل السياسي دون جهوزية تامة. والسبب هو القرار المفاجيء للمحكمة الدستورية التايلاندية في 14 أغسطس المنصرم باقصاء رئيس الوزراء "سريتا تافيسين" من منصبه على خلفية قيامه بتعيين وزيرا مدان بالرشوة في حكومته. وقالت المحكمة في مبررات حكمها باقصاء رئيس الوزراء بعد أقل من عام في منصبه أن الرجل انتهك المعايير الأخلاقية في تعييناته.
والحقيقة، من وجهة نظرنا، أن المحاكم التايلاندية تصدر قراراتها تحت ضغوط، عادة ما يكون مصدرها المؤسسة العسكرية أو المؤسسة الملكية. فمثلا هي التي رضخت لأوامر العسكر فأصدرت حكما ضد زعيم حزب "التحرك إلى الأمام" التقدمي السياسي الشاب "بيتا ليمجارونرات" بدعوى أنه كان مساهما في شركة اعلامية (أمر محظور بموجب قانون الانتخابات) وذلك للحيلولة دون تقلده منصب رئيس الحكومة خلفا للجنرال"برايوت تشان أوتشا"، رغم تحقيقه للمركز الأول في انتخابات مايو 2023، وهو الأمر الذي أدى تلقائيا إلى ذهاب المنصب إلى صاحب المركز الثاني وهو "سريتا تافيسين"، الذي شكل حكومة من إئتلاف 11 حزبا. وها هي نفس المحكمة تعود اليوم لتسقط الأخير بحكم قضائي. وقتها تنبأنا بأن تولي تافيسين للمنصب الأسمى في البلاد لن يدوم طويلا.
ويتذكر القراء الكرام أننا كتبنا في هذه الصحيفة في أغسطس 2023 عن اجتماعات سرية عقدت في جزيرة لانكاو الماليزية بين ممثلين عن الجيش والقصر الملكي التايلاندي والمليادير "تاكسين شيناواترا" بهدف حلحلة الوضع السياسي المتأزم في تايلاند.
وقتها قلنا: "يبدو أن صفقة قد تم التوصل إليها بين الفرقاء ملخصها أن يعود تاكسين شيناواترا إلى بلاده بعد 15 عاما قضاها في منفاه منذ الإطاحة به في انقلاب عسكري سنة 2006، ليقضي عقوبة السنوات العشر التي أصدرتها محكمة عليا بحقه في ثلاث قضايا فساد منفصلة مع تخفيفها أو إلغائها بعفو ملكي بحجة اعتلال صحته (ألغيت بعفو ملكي)، على أن يتزامن ذلك مع تسليم السلطة في البلاد إلى مرشحه سريتا تافيسين باعتباره الحائز على المركز الثاني في انتخابات مايو، وعلى أن يتعهد تاكسين بالولاء للنظام الملكي والتخلي عن شطحاته السابقة ضد الملكية".
وبالفعل عاد تاكسين إلى بانكوك في 22 أغسطس 2023 في طائرته الخاصة وهو يزين معطفه بدبوس يحمل صورة الملك "ماها فاجيرالونغكورن"، بل وسارع فور وصوله بالسجود أمام صورة لعاهل البلاد، قبل أن يقتاده ضباط الجيش إلى المحكمة. وتعليقا على الحدث كتبنا: "أن تاكسين، الذي أفسد الحياة السياسية التايلاندية بخطابه الشعبوي ورشوته لمؤيديه من الطبقات الفقيرة منذ توليه السلطة سنة 2001 وطوال سنوات وجوده في المنفى عبر تحريك أنصاره من الخارج لإحداث الفتن والاضطرابات، لم يعقد صفقة مع خصومه إلا لكي يعود وينظم نفسه من جديد من أجل الانتقام وخلق قواعد جديدة للعبة السياسية، وأنه ليس جادا في إدعاءاته بالولاء للملكية، خصوصا مع وجود مناهضين كثر للملكية في دائرته المقربة من أولئك الذين لن يقبلوا أن يتحولوا فجأة إلى حماة للعرش أو حتى أصدقاء لجنرالات أطاحوا به في 2006 ثم أطاحوا بشقيقته ينغلوك في 2014".
وبالعودة إلى ما حدث في بانكوك يوم 14 أغسطس الفائت، نجد أن تاكسين شيناواترا، بمجرد أن علم بسقوط حليفه وشريكه "سيريتا تافيسين"، تدخل لضمان حلول ابنته مكانه، من أجل تفادي انهيار التحالف الحاكم الذي يضم خليطا غريبا من الأعداء والأصدقاء. وهو بهذا العمل انتهك احد شروط العفو الملكي بعدم توجيهه البرلمان والحكومة من خلف الكواليس.
ومن هنا يرى المراقبون أن صفقة جزيرة لانكاو قد ماتت، وبالتالي فإن المؤسسة الملكية ومن ورائها المؤسسة العسكرية والأحزاب المحافظة ستسعى إلى تعطيل مشاريع أونغ إينغ، لاسيما تلك المتعلقة بتبييض صفحة والدها وعمتها المنفية كليا ونهائيا)، خصوصا وأن القصر لديه ما يستخدمه ضدها وهو تعليقات أدلت بها خلال حملات انتخابية العام الماضي حول إصلاحات قانون العيب في الذات الملكية (قانون يحمي الملك والملكة والوصي وولي العهد من النقد ويعاقب المتجاوز بالسجن لمدة 15 عاما).
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: نهاية أغسطس 2024م
بنغلادجيش .. أسئلة ما بعد التغيير الكثيرة
بقلم: د. عبدالله المدني*
أسئلة كثيرة تحوم في سماء بنغلاديش بعد كل ما شهدته مؤخرا من أعمال عنف وفرار زعيمتها الشيخة حسينة واجد واستلام الجيش للسلطة وتكليف البروفسور محمد يونس (84 عاما) بتشكيل حكومة انتقالية إلى حين إجراء انتخابات عامة جديدة. ولعل أهم هذه الأسئلة هو "هل بمقدور يونس أن يؤسس لنظام ديمقراطي نزيه، ويعيد للبلاد دولة القانون والنظام والمؤسسات المستقلة؟"
مما لا شك فيه أن الآمال المعقودة على الرجل كبيرة، خصوصا وأنه نزيه وموثوق به من الجميع ولم يتلوث إلى الآن بأمراض السياسة، ويساعده طاقم من الوزراء من النشطاء الحقوقيين وأساتذة الجامعات والمحامين ورموز المجتمع المدني. لكن التحديات التي يواجهها ثقيلة وتنوء بحملها الجبال الرواسي وتضيق بها الصدور، خصوصا وأن حكومته بلا أسنان وتفتقد للشرعية الدستورية.
فالبلاد في حالة انقسام سياسي شديد ومشحونة بالأيديولوجيات المتباينة، وأوضاعها الإقتصادية هشة ومثخنة بالتضخم والبطالة، وظروفها الأمنية الداخلية متفجرة، لاسيما بعد الاعتداءات المشينة ضد الأقليات الهندوسية والبوذية، وأحزابها السياسية الكبيرة (حزب بنغلاديش الوطني بفيادة السيدة خالدة ضياء أرملة الرئيس العسكري الأسبق ضياء الرحمن، وحزب جماعت إسلامي الإخواني التوجه) متأهبة للعودة إلى السلطة لممارسة نفس المماحكات القديمة من تسلط وفساد واستغلال وتمييز وانتقام، معتقدة أن الساحة قد خلت لها بغياب زعيمة حزب رابطة عوامي الذي قاد الإستقلال عن باكستان عام 1971، وشبابها الذين يشكلون نحو 40 بالمائة من عدد السكان البالغ 170 مليون نسمة ينتظرون حصتهم في كعكة السلطة باعتبارهم المحرك الذي قاد التغيير وضحى بدمائه من أجل ذلك، مشيرين إلى أن اختيار إثنين منهم ضمن تشكيلة البروفسور يونس (وهما ناهد إسلام وآصف محمود) ليس كافيا.
أما الأسئلة الآخرى التي تتردد اليوم بكثرة في الساحة البنغلادية فهي خاصة بالانتخابات القادمة التي وعد الجيش ورئيس الحكومة المؤقتة بإجرائها ومنها: متى سوف تجري الإنتخابات القادمة؟" ومن يضمن نزاهتها؟ وهل سيسمح لحزب الرئيسة المخلوعة المشاركة فيها؟ وهل من المفيد تحديد موعدها ضمن المهلة الدستورية وهي 90 يوما أم تأخيرها لوقت أطول؟
يقول الخبراء والمطلعون على أوضاع هذه البلاد التي لم تنعم بالإستقرار الطويل قط أنه من المهم أولا وقبل كل شيء أن تقوم الحكومة المؤقتة بإصلاح دستوري، سواء عن طريق صياغة دستور جديد أو عن طريق تنقيح الدستور الحالي الذي صدر في عام 2011. لكن الإشكالية تكمن في أن قيام حكومة مؤقتة بتعديل الدستورهو امر غير دستوري بحد ذاته، خصوصا وأن دستور 2011 لا ينص في أي مادة من مواده إلى حكومة مؤقتة أو حكومة تصريف أعمال. هذا عدا أن أي دستور جديد أو حتى مجرد تنقيح يحتاج إلى مصادقة برلمانية، والبرلمان لا وجود له.
أما مهلة التسعين يوما لإجراء الانتخابات فقد باتت موضع خلاف بين فريق يؤيدها ويدعو إلى الإلتزام بها خوفا من استحلاء العسكر للبقاء طويلا في الحكم، وفريق يرى أنها غير كافية لإعداد البلاد لديمقراطية حقيقية قادرة على مقاومة الإنزلاق مرة أخرى نحو الإستبداد، لاسيما وأن البلاد تعيش فوضى سياسية واقتصادية وأمنية، الأمر الذي يتطلب وقتا أطول لإجراء الإصلاحات المطلوبة واستعادة استقلال المؤسسات الحيوية.
وبالنسبة لمشاركة حزب عوامي من عدمها في الانتخابات، يرى الخبراء الدستوريون أن فكرة إقصائه تعد كارثة، بل يعني عملا غير دستوري وغير ديمقراطي ومجلب للمتاعب والقلاقل بحكم ما يتمتع به من شعبية لدى الكثيرين من أطياف الشعب، ناهيك عن شرعيته التاريخية. لكن هناك من يقول أن عودة الشيخة حسينة واجد لقيادة عوامي في أي انتخابات قد يعني فوزها وبالتالي اصطدامها مجددا بغريمتها اللدودة خالدة ضياء وخصومها من الإسلاميين المتشددين، أي العودة إلى المربع الأول.
وفيما تدور هذه الأسئلة وغيرها دون إجابات قاطعة، ينظر البنغلاديشيون بحذر شديد إلى التطورات الجارية في بلادهم في هذه الحقبة الحرجة، ويخشون من انتكاسة قد تحدث على غرار ما حدث من قبل. ذلك أن بنغلاديش سبق أن شهدت اضطرابات وانتفاضات شعبية ضد حكومات مستبدة اكثر من مرة، انتهت باسقاط تلك الحكومات، لكن لتحل مكانها حكومات أخرى فاشلة وعاجزة عن تلبية تطلعاتهم.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المدة: أغسطس 2024م.
عبارة الهامش:
ينظر البنغلاديشيون بحذر شديد إلى التطورات الجارية في هذه الحقبة الحرجة، ويخشون من انتكاسة قد تحدث على غرار ما حدث من قبل.
بنغلاديش ما بعد إستقالة الشيخة حسينة/ د. عبدالله المدني
مع بعض الفوارق البسيطة، سقطت خلال السنوات القليلة الماضية حكومات ثلاثة اٌقطار آسيوية، وفر قادتها إلى الخارج تحت ضغط الشارع كنتيجة لسوء إدارتها للبلاد، فبعد أفغانستان وسريلانكا رأينا نفس المشاهد تتكرر مؤخرا في بنغلاديش التي فرت زعيمتها المنتخبة الشيخة حسينة واجد إلى الهند في مروحية عسكرية أمنها لها قادة الجيش الذين تسلموا إدارة البلاد منها بعد أن أبلغوها أنه ليس بمقدورهم مواصلة قمع المتظاهرين والمحتجين.
حسنا فعل كلا الجانبين، فالشيخة حسينة باستقالتها منعت وقوع المزيد من الضحايا في أسوأ احتجاجات تشهدها بنغلاديش منذ تأسيسها سنة 1971، والجيش باستلامه السلطة سلميا وتأمين مغادرة زعيمة البلاد إلى الخارج وعدم قيامه بانقلاب عسكري سن سنة جديدة (قاد الجيش ثلاثة انقلابات ناجحة وحوالي عشرين تمردا فاشلا كان آخرها في 2012).
والأمر الآخر الإيجابي الذي يحسب للجيش أنه قرر إسناد قيادة البلاد مؤقتا إلى حكومة مدنية برئاسة النوبلي الموثوق به محليا وعالميا البروفسور محمد يونس الذي نشفق عليه من الوقوع في وحول السياسة، خصوصا وأن التجارب تقول أن السياسة في هذه البلاد مزيج من الفساد والمؤامرات والاغتيالات والمماحكات والانقلابات والإضطرابات.
إن التجارب المؤلمة التي مرت بها حسينة، ابتداء من اغتيال والدها المؤسس الشيخ مجيب الرحمن في أغسطس 1975 مع كل أفراد عائلته (باستثناء حسينة واجد وأختها ريحانة صديق اللتين كانتا خارج البلاد آنذاك)، وصولا إلى أكثر من 19 محاولة اغتيال فاشلة تعرضت لها على مر السنين، وقيام العسكر بسجنها مع غريمتها زعيمة الحزب الوطني خالدة ضياء في عام 2007 بتهمة الفساد، ساهم كله في تشكيل نهجها السياسي في الإمساك بالسلطة بقبضة حديدية والإقتصاص من معارضيها وكسر شوكتهم بإيداعهم السجن. وذلك لتأمين استقرار طويل للبلاد، على شاكلة ديكتاتوريات جنوب شرق آسيا.
وخلال حكمها منذ عام 2009 وحتى فوزها بنسبة 80% في انتخابات يناير 2024 التي قاطعتها أحزاب المعارضة، حققت لبلادها الكثير من الإنجازات المثيرة للإعجاب مثل انتشال الملايين من براثن الفقر، وتحويل البلاد إلى ثاني أكبر اقتصاد في جنوب آسيا بعد الهند بقيمة 460 مليار دولار، واستئصال الأحزاب الإسلاموية المتطرفة من السياسة، واخراج الجيش من اللعبة السياسية على طريقة النموذج الهندي، وتوفير المأوى لأكثر مليون لاجيء من مسلمي ميانمار عام 2010، والإنتقال بالبلاد من دولة تكافح من أجل الطعام إلى مصدرة للغذاء، وتوفير التعليم المجاني لنحو 98% من الفتيات، والبدء بنقل البلاد إلى التصنيع عالي التقنية وهو ما سمح للشركات العالمية كسامسونغ الكورية باخراج سلاسل التوريد من الصين إلى بنغلاديش. هذا ناهيك عن تأسيسها لعلاقات خارجية متوازنة مع جارتي بنغلاديش الكبيرتين (الهند والصين) ومع الولايات المتحدة، بدليل نيلها على ثناء نادر من واشنطن وتمكنها من الحصول على قروض بقيمة 4.7 مليار دولار من صندوق النقد الدولي وأخرى من الهند بقيمة 7 مليارات دولار، علاوة على قرض من الصين كانت تتفاوض عليه بقيمة 5 مليار دولار.
على أن كل تلك الانجازات ضاعت بسبب حزمها وسياساتها الحديدية، لتجد نفسها اليوم معزولة في الهند التي استقبلتها مؤقتا ريثما تقرر وجهتها القادمة. ولا يعرف على وجه التحديد ما تنوي القيام به مستقبلا. لكن كل المؤشرات تفيد بأنها ستعود إلى بنغلاديش، كما فعلت من قبل، لقيادة حزبها التاريخي (رابطة عوامي) في الانتخابات القادمة التي يجب أن تجرى خلال 90 يوما طبقا للدستور. حيث أن إجراء هذه الانتخابات التي وعد بها العسكر، دون مشاركة "عوامي"، يعتبر عملا معيبا ومؤججا للقلاقل غير ديمقراطي.
وفي حالة تقاعد حسينة عن العمل السياسي بسبب سئمها من الإذلال السياسي، يتوقع أن يقود إبنها ووريثها "سجيب واجد جوي" الحزب على عادة السلالات الآسيوية. وقد سجل عن الأخير(عمل مستشارا لوالدته لتكنولوجيا المعلومات من 2009 إلى 2024، وهو يقيم الآن في أمريكا) قوله أنه لا طموحات سياسية لديه، لكن إذا فرضت عليه قيادة "عوامي" فسوف يستجيب، مضيفا: "أنا مقتنع بأنه إذا أجريت انتخابات حرة ونزيهة في بنغلاديش وكانت ساحة اللعب متكافئة، فإن عوامي ستفوز مجددا".
وبانتظار ما ستؤول إليه أوضاع هذا البلد الذي يواجه اليوم متاعب اقتصادية جراء أعمال عنف شلت البلاد لنحو شهر، والتي بسببها خفضت الوكالات العالمية المختصة تصنيفه الإئتماني، نجد أن ثلاث دول تراقب تطورات الأوضاع فيه باهتمام؛ الهند الحريصة دوما أن تكون في دكا حكومة موالية لها، او على الأقل غير حليفة لإسلام آباد، وباكستان التي لن تغفر للبنغلاديشيين تمردهم عليها وفصل جناحها الشرقي لتأسيس دولتهم المستقلة، والصين التي يشغلها إيجاد نفوذ دائم لها في بنغلاديش في مواجهة النفوذ الهندي.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المدة: أغسطس 2024م.
فصل جديد من الاضطرابات في بنغلاديش .. لماذا؟
بقلم : د. عبدالله المدني*
شهدت بنغلاديش، البلد الذي حقق استقلاله عن باكستان سنة 1971 بالدم والدموع والتضحيات المكلفة، مؤخرا مواجهات دامية بين قوات الأمن وطلبة الجامعات، خلفت عشرات القتلى والجرحى في صفوف الطرفين.
بدأت هذه الأحداث في مطلع الشهر الماضي حينما انطلقت مظاهرات طلابية في العاصمة دكا للمطالبة بإنهاء نظام مثير للجدل أقرته حكومة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، وصادق عليه البرلمان المنتخب الذي يسيطر عليه حزبها (حزب رابطة عوامي).
أما النظام المختلف عليه فهو خاص بالحصص الوظيفية في القطاع العام والذي يخصص أكثر من نصف الوظائف لأبناء المحاربين القدامى ممن حاربوا وضحوا من أجل تأسيس بنغلاديش في عام 1971. حيث طالب المتظاهرون بالتوظيف على أساس الجدارة والكفاءة، معتبرين أن النظام الجديد يعطي الأفضلية لأبناء أنصار الشيخة حسينة، أبنة مؤسس بنغلاديش الشيخ مجيب الرحمن، والتي تحكم البلاد منذ عام 2009، وذلك من أجل تعزيز سلطتها في مواجهة خصومها السياسيين.
وعلى الرغم من أن مثل هذه الإضطرابات والمظاهرات ليست غريبة على بنغلاديش، التي شهدت خلال العقود الخمس الماضية أحداثا مماثلة وربما أكثر عنفا، فإن مراقبين كثر لايرون في ما حدث مؤخرا مجرد تظاهرات عفوية، وإنما مدبرة ومخطط لها من قبل حزبي المعارضة الرئيسيين: "حزب بنغلاديش الوطني" بقيادة السيدة خالدة ضياء، أرملة الرئيس العسكري الأسبق الجنرال ضياء الحق الذي خطف السلطة عبر انقلاب دموي في السبعينات، قبل أن يغتال عام 1981 في انقلاب آخر قاده صديقه الجنرال منصور أحمد، و"حزب الجماعة الإسلامية" التي يتجمع فيه متشددون إسلاميون، أغلبهم من أنصار وأحفاد من يطلق عليهم مصطلح "رزا كار razakar"، وهو مصطلح يرتبط بالخونة الموالين لباكستان زمن حرب التحرير والإستقلال، علما بأن الحزب ما هو إلا امتداد للجماعة الإسلامية الباكستانية التي أسسها أبو الأعلى المودودي عام 1941 في الهند البريطانية.
من وجهة نظري الشخصية، أعتقد أن الطلبة المحتجين لجأوا إلى التظاهر والفوضى والتخريب لإسقاط القانون المثير للجدل، لأنهم نجحوا في تحقيق مرادهم سابقا وذلك في عام 2018 حينما طرحته الشيخة حسينة لأول مرة قبل أن تؤجله تحت ضغط الشارع. أما أحزاب المعارضة فقد خطفت الاحتجاجات من الطلاب وأعادت توجيهها نحو تحقيق أجنداتها السياسية المتمثلة في أحداث الفوضى والإضطراب من أجل الإطاحة بحكومة الشيخة حسينة المنتخبة.
لكن كيف تصرفت زعيمة البلاد مع هذه الأحداث التي زلزلت المشهد السياسي في البلاد وفتحت أعين الرأي العام العالمي على ما يجري فيها من "قمع وتكميم للأفواه وسلب للحريات والحقوق وتزوير للإنتخابات" بحسب تعبير حزبي المعارضة وأنصارهما؟
الحقيقة أن الحكومة تصرفت كما تتصرف أي سلطة حاكمة مسؤولة في مواجهة أعمال الفوضى والتخريب، حفاظا على الأمن والإستقرار والنظام والممتلكات العامة والخاصة. وبعبارة أخرى تصدت للمتظاهرين وقمعت احتجاجاتهم وفرضت حظرا على تجمعاتهم وحجبت الإنترنت بهدف قطع تواصلهم مع بعضهم البعض وأغلقت المدارس والجامعات مؤقتا، وأوقفت أكثر من 2500 مشتبه. إلى ذلك حاولت تهدئة الأوضاع واحتواء سخط المحتجين عبر الإعلان عن تجميد قانون الحصص الوظيفية المختلف عليه مؤقتا.
خطوة الحكومة التالية كانت التركيز على الأضرار والخسائر الإقتصادية التي أحدثتها الإحتجاجات الطلابية، ومنها تخريب نظام مترو الأنفاق الوحيد في البلاد والطرق السريعة ومراكز الشرطة وأكشاك رسوم المرور على الجسور واقتحام السجون وتحرير نزلائها، بدلا من التركيز على الخسائر في الأرواح البشرية وضحايا المواجهات ( نحو 105 قتيل و 700 إصابة في صفوف الطلبة والشرطة والصحفيين).
وبطبيعة الحال، أضافت الحكومة إلى إجراءاتها هذه، تسخير إعلامها الرسمي للنيل من المعارضة واتهامها بالوقوف خلف كل ما حدث بهدف العودة للسلطة الغائبة عنها منذ 15 عاما.
ونخالة القول إن حكومة الشيخة حسينة واجد، ربما نجحت في شيطنة المعارضة، لكنها لن تنجح في إخراسها، وستظل البلاد تعاني من القلاقل السياسية بين فترة وأخرى، جراء ما بات يعرف في الأدبيات السياسية الآسيوية بـ "حرب الأرملتين" في إشارة إلى الشيخة حسينة واجد وخصمها اللدود السيدة خالدة ضياء اللتين تناوبتا على حكم بنغلاديش منذ سنوات، واقتصت كل واحدة من الأخرى بمجرد وصولها إلى الحكم.
وأثناء كتابة هذه المادة نقلت وكالات الأنباء أن الشيخة حسينة استقالت وغادرت البلاد إلى الهند بعد أن اقتحم المتظاهرون قصرها، وأن الجيش تولى قيادة البلاد. ولبنغلاديش قصة طويلة من العسكر الذين لم ينجحوا قط في إدارة البلاد أو تحقيق أي أزدهار. وعليه لا ينتظر أن يسود الإستقرار إلا وقتيا.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أغسطس 2024م
الموقف من الصين يفجر الخلافات في رابطة آسيان
بقلم: د. عبدالله المدني*
ظلت رابطة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا بإسم "آسيان"، منذ تأسيسها في عام 1967 من خمس دول (سنغافورة وماليزيا واندونيسيا وتايلاند والفلبين) نموذجا للتعاون الإقليمي وكيانا صامدا في وجه العواصف والحروب والاضطرابات السياسية والاقتصادية التي كانت تشهدها آسيا آنذاك مثل النزاعات الحدودية والتوترات العرقية وحركات التمرد الشيوعية وتداعيات الحرب الفيتنامية والحروب بالوكالة في لاوس وكمبوديا.
وعلى الرغم من كل هذه التحديات، واصلت سفينة آسيان الإبحار وحاولت إيجاد مفهوم مشترك بين دولها المتباينة في أنظمة الحكم والتوجهات السياسية من أجل التعاون والتكامل الإقتصادي الهادف إلى تحسين مستويات المعيشة وبناء مجتمعات نابضة بالحياة والعلم والمعرفة. وحتى بعد أن منحت المنظومة عضويتها الكاملة لدول أخرى في محيطها الإقليمي، أقل استقرارا وأضعف اقتصاديا وأكثر مشاكل مثل فيتنام ولاوس وبورما وكمبوديا (باستثناء سلطنة بروناي)، فإن تماسكها ورحلتها نحو تحقيق طموحاتها في الرخاء والإزدهار لم تتأثر كثيرا ، بدليل أنها اليوم من أنجح وأقوى التكتلات الإقليمية بعد الإتحاد الأوروبي، وصاحبة شبكة عالمية من التحالفات والشراكات الإستراتيجية.
ولأن دوام الحال من المحال، ولأن التكتلات الإقليمية عرضة للتأثر بما يجري في عالمها الأوسع من متغيرات، خصوصا إذا كنا نتحدث عن عالم مضطرب يسوده عدم اليقين، فإن آسيان بدأت تعاني مؤخرا من خلافات في الرؤى بين أعضائها المؤسسين الكبار، ولاسيما لجهة الموقف من العملاق الصيني الذي ينازع مجموعة من أعضاء آسيان حقوق السيادة على جزر صغيرة متناثرة في بحر الصين الجنوبي، وعلى المياه المشاطئة.
هذه الخلافات كانت حاضرة بقوة في إجتماعات المائدة المستديرة السابعة والثلاثين لآسيا والمحيط الهاديء التي عقدت مؤخرا في العاصمة الماليزية، كوالالمبور. إذ أظهرت الخطب واللقاءات والنقاشات بجلاء وجود بون شاسع في المواقف من الصين، التي يعتبرها بعض أعضاء آسيان قوة إقليمية كبرى تسعى إلى التوسع والهيمنة، وبالتالي يجب الحذر منها وعدم التهاون في الرد على مخططاتها، فيما يعتبرها البعض الآخر قوة صديقة يجب التفاوض معها للوصول إلى حلول سلمية بشأن القضايا المختلف عليها.
يقود التوجه الأول الفلبين في ظل حكومة رئيسها الحالي "بونغ بونغ ماركوس" الذي هجر سياسات سلفه الرئيس "رودريغو دوتيرتي" التصالحية مع بكين، ويتبى اليوم سياسة مغايرة قوامها التصدي لمشاريع الصين التوسعية وتحركات أساطيلها في المياه المتنازع عليها، وذلك من خلال السعي للحصول على دعم القوى الاقليمية والعالمية سياسيا ودبلوماسيا، ولاسيما دعم حليفتها التاريخية الكبرى ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم من خلال شراء المزيد من الأسلحة المتطورة والقيام بمناورات بحرية وجوية مع قوات الدول الحليفة، ناهيك عن التودد إلى الإتحاد الأوروبي والذي أثمر بالفعل عن تعهدات من قبل مفوضيتها بتعزيز التعاون الأمني البحري مع الفلبين، وموافقة كل من هولندا والنرويج على تزويد مانيلا بصفقات أسلحة.
أما التوجه الثاني فتقوده ماليزيا التي تحتفظ بعلاقات سياسية واقتصادية متينة مع الصين، لا تريد أن تخسرها، وبالتالي فهي تتبنى وجهة نظر مفادها ضرورة الانفتاح على الصين والتفاوض معها حول الأمور الخلافية بدلا من التصعيد. والغريب في موقف كوالالمبور وزعيمها الحالي أنور إبراهيم أن ماليزيا هي من ضمن الدول التي تنازعها الصين حقوق السيادة على الأراضي والمياه في بحر الصين الجنوبي، بدليل حدوث مواجهة بين البلدين في العام الماضي حول قيام شركة "بتروناس" النفطية المملوكة للدولة الماليزية بتطوير مشروع لإحتجاز الكربون في حقل غاز كاساواري المتنازع عليه. هذا علما بأن مواقف أنور إبراهيم المهادنة هذه لبكين ومخططاتها ووجهت بانتقادات داخلية مريرة.
وما بين الموقفين يبرز موقف رابطة آسيان الصامت، فبدلا من أن تدعم الرابطة موقف الفلبين، باعتبارها عضوا مؤسسا، كما فعلت سنغافورة وفيتنام وتايلاند، نجدها صامتة وغير مكترثة بتطورات الأوضاع بين بكين ومانيلا والتي كان آخرها اشتباكا بحريا بين قوات خفر السواحل الفلبينية وقوات الجيش الأحمر الصيني بالقرب من منطقة "توماس شول الثانية المتنازع عليها. في تلك الواقعة لقي مواطن فلبيني حتفه على أيدي الجنود الصينيين، الأمر الذي اعتبره الرئيس الفلبيني عملا من أعمال الحرب التي يجب ألا يمر مرور الكرام.
ومما لا شك فيه أن تباين المواقف هذا داخل آسيان خلق حالة من التشاؤم حول مسيرة التكتل وتماسكه. لكن مراقبين كثرا يعولون على موقف أندونيسيا، العضو المؤسس والمؤثر، لرأب الصدع، علما بأن جاكرتا نأت بنفسها حتى الآن عن الدخول في الاستقطابات الدائرة، على الرغم من أنها معينة بالخلافات مع الصين كونها هي الأخرى أيضا ضمن الدول التي تنازعها الصين حقوق السيادة على الأراضي والمياه، ناهيك عن الثقة مفقودة تاريخيا بين جاكرتا وبكين منذ الستينات على خلفية الانقلاب الدموي الذي دعمه نظام ماوتسي تونغ للإطاحة بحكم الزعيم الإندونيسي الأسبق أحمد سوكارنو بهدف تحويل أندونيسيا إلى دولة شيوعية.
وبانتظار تغيير قد يحدث في سياسات جاكرتا الخارجية في عهد رئيسها المنتخب حديثا الجنرال المتقاعد "براباوو سوبيانتو"، فإن آسيان تبقى عاجزة ومهددة بالتصدع بسبب الصين.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أغسطس 2024م
لو فاز ترامب، كيف سيتعامل مع قضية تايوان؟
بقلم: د. عبدالله المدني*
حتى قبل فوزه المتوقع برئاسة الولايات المتحدة للمرة الثانية، أثار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب زوبعة حول قضية تايوان. فقد سجل عنه قوله أنه لن يدافع عن هذا الإقليم الحليف الذي تطالب به الصين وتهدد بضمه بالقوة في حال قيام بكين بغزوه. وفي مناسبة أخرى سجل عنه قوله أن على حكومة تايبيه أن تدفع مقابل حماية الولايات المتحده لها. هذان التصريحات اشغلا مراقبي الشؤون الدولية والآسيوية مؤخرا لما له من تداعيات خطيرة ــ في حال تنفيذه ــ على مجمل أوضاع الشرق الأقصى.
والحقيقة أن مساعدي ترامب سارعوا بتفنيد التصريح الأول، موضحين أن مرشح الحزب الجمهوري للسباق الرئاسي المقبل في نوفمبر من العام الجاري لم يقل أنه سيتخلى عن تايوان لمصيرها، وإنما قال أن بكين ليست بحاجة لغزو تايوان التي تقع في مرمى صواريخها وترسانتها الحربية العملاقة، وأن الولايات المتحدة تفتقر إلى الميزات النسبية التي يتمتع بها جيش الأحمر الصيني والمتمثلة في القرب الجغرافي، والمساحة الشاسعة وامتلاك قوة برية جرارة معززة بآلاف الصواريخ المضادة للسفن وآلاف الطائرات والمسيرات.
لقد كان ترامب واضحا وواقعيا في قوله أن تايوان تقع على بعد أقل من 100 ميل من البر الرئيسي الصيني، وأن الصين لديها ما يكفي من الصواريخ لتدمير الجزيرة المنشقة إذا ما اختارت غزوها، لكنها ــ أي الصين ــ لا تريد تدمير المصانع التايوانية المنتجة لأكثر من 90 بالمائة من الرقائق المتقدمة، ولا تريد أن تقتل مئات الآلاف من التايوانيين الذين تعتبرهم مواطنين صينيين. كما كان الرجل واقعيا في قوله أنه في حال تأزم الموقف بين تايبيه وبكين فإن باستطاعة الأخيرة أن تنتصر عن طريق محاصرة تايوان وقطع امدادات النفط والغاز عنها وإبلاغ ناقلات النفط والغاز المتجهة إليها بمخاطر إغراقها في البحر، خصوصا وأن تايوان تتمتع بقدرات تخزينية لا تكفيها إلا لمدة ثلاثة أسابيع فقط.
ويقارن الخبراء العسكريون هذه الميزات المتوفرة للصين بما لا يتوفر للولايات المتحدة في حال أن قررت تنفيذ تعهداتها الأمنية بالدفاع عن تايوان. فالجيش الأمريكي وقتئذ سيحارب على بعد 6000 ميل من وطنه، ولا يمكن لقوته النارية أن تضاهي قوة خصم قريب جدا من قيادة أركانه ومن مراكز تموينه وأكثر علما بخرائط منطقة المعارك. ويضيف هؤلاء أنه في حال إصطدام البحرية الصينية بالأسطول البحري الأمريكي من أجل تايوان، فإن النتيجة سوف تشبه تدمير الأسطول الروسي على يد اليابانيين في معركة مضيق تسوشيما التي دارت رحاها أثناء الحرب الروسية اليابانية من 27 مايو إلى 28 مايو من عام 1905.
أضف إلى ما سبق حقيقة أن استخدام جهاز اعتراضي بقيمة مليون دولار لإسقاط طائرة بدون طيار بقيمة 5000 دولار في أي مواجهة عسكرية أمريكية ــ صينية بخصوص تايوان هو عمل خاسر. وبعبارة أخرى فإنه حتى لو تمكنت الولايات المتحدة من صنع ما يكفي من الصواريخ الاعتراضية لمواكبة انتاج الصين من الصواريخ، وكان بامكان الأساطيل البحرية الأمريكية حملها إلى مواقع الإشتباك مع الصين، فإن تكلفة الدفاع الصاروخي التقليدي ستكون باهضة الثمن.
يقول ترامب ومساعدوه أن الجيش الأمريكي يعرف كل هذه الحقائق جيدا، لكن إدارة جو بايدن الديمقراطية تناور وتخادع كي تضفي على نفسها صفة حامية الديمقراطيات في العالم. والمعروف أنه في السنوات القليلة الماضية تعززت العلاقات بين تايبيه وواشنطن في مواجهة قيام بكين بتكثيف ضغوطها العسكرية والدبلوماسية على تايوان، علما بأن إدارة بايدن وافقت في يونيو المنصرم على بيع أسلحة بقيمة 360 مليون دولار لتايوان، وأرسلت لها مئات الطائرات بدون طيار بالإضافة إلى معدات صاروخية ومواد الدعم ذات الصلة.
ومن مفاجآت ترامب أيضا مطالبته تايوان بدفع تكاليف الحماية الأمريكية لها. ففي مقابلة مع "بلومبورغ بيزنس ويك" في 17 يوليو الجاري قال: "يجب أن تدفع لنا تايوان تكاليف الدفاع، فكما تعلمون نحن لا نختلف عن شركات التأمين، وتايوان تسيطر عالميا على صناعة الرقائق ولديها الكثير من الأموال"، وهو ما أشعل جوا من عدم اليقين حول نهج ترامب حيال تايوان إذا ما عاد إلى البيت الأبيض، وهو أيضا ما دفع تايبيه للرد عبر رئيس مجلس الدولة "تشو جونغ تاي" الذي قال أن تايوان على استعداد لتحمل المزيد من المسؤولية للدفاع عن نفسها، مذكرا في الوقت نفسه ترامب بأن من مصلحة واشنطن والمجتمع الدولي الحفاظ على السلام والإستقرار في مضيق تايوان لأنه جزء لا يتجزأ من الرخاء العالمي.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يوليو 2024م
اليابان والصين تشعلان سباق تسلح جديد في آسيا
د. عبدالله المدني*
يبدو أن ما توقعه تقرير لمعهد الدراسات الدولية والاستراتيجية نهاية العام الماضي من ان سباقا جديدا للتسلح في آسيا سوف يشتعل، فيؤدي إلى المزيد من التوترات الإقليمية، قد بدأ بالفعل.
ففي التقرير المذكور الذي كتبه "توم كاراكو" و"ماساو دالغرين" في 2023 تمت الإشارة إلى اليابان والصين كطرفين رئيسيين في السباق المتوقع، مع بيان طبيعة السباق والمتمثلة في اختراع وتصنيع أسلحة غير تقليدية قادرة على مواجهة الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
واليوم نقرأ في صحيفة "تشاينا مورنينغ بوست" الصينية أن العلماء الصينيين قد نجحوا في ابتكار رادار جديد يمكنه تتبع 10 صواريخ بسرعة 20 ماخ، بدقة تصل إلى 99.7 بالمائة، وذلك باستخدام تكنولوجيات الليزر المتقدمة، مع خوارزمية جديدة، مضيفة انه بوسع الابتكار الجديد نقل المعلومات بسرعة الضوء ومعالجة إشارات الموجات الدقيقة المعقدة وإلغاء مشكلة الصور الوهمية والأهداف الزائفة.
كما نقرأ في خبر نقلته صحيفة "نافال نيوز" البريطانية أن قوات الدفاع الذاتي البرية اليابانية سوف تبدأ اعتبارا من عام 2026 بنشر القذيفة الشراعية المتفوقة HVGP المصممة للدفاع عن الجزر والذي تزيد سرعتها عن سرعة الصوت ويصل مداها إلى 900 كم (مع إمكانية زيادته بحلول عام 2030)، علما بأن الحكومة اليابانية قامت بتسريع انتاج هذا السلاح بالتعاون مع واحدة من أفضل شركاتها الصناعية وهي شركة "متسوبيشي للصناعات الثقيلة"، خصوصا وأن حليفتها الأمريكية التي تعهدت بالدفاع عنها، باتت متخلفة توعا ما عن الصين في مجال الصواريخ الدفاعية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت لأسباب مختلفة. حيث أن واشنطن استثمرت أكثر من 8 مليار دولار في العامين الماضيين في تطوير الصواريخ الهجومية ذات السرعة المتفوقة على سرعة الصوت، بينما انفقت أقل بكثير في مجال تطوير الصواريخ الدفاعية المضادة، ولا تتوقع وزارة الدفاع الأمريكية أن تشرع الولايات المتحدة في انتاج صواريخ دفاعية مضادة للصواريخ التي تزيد سرعتها عن سرعة الصوت قبل عام 2034.
مما لا شك فيه أن انجراف الصين إلى تحصين نفسها بمختلف الأسلحة المتطورة منطلق من سياسات بكين الرامية إلى التوسع والانتشار والهيمنة الإقليمية، ومنطلق من عقيدة الحزب الشيوعي الحاكم الداعية إلى بناء الصين الكبرى، شاملة تايوان والجزر الصغيرة المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي والشرقي، ومنطلق أيضا من ضرورات مواجهة ما يدبر لها من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين من مخططات لتحجيمها وإحتواء تطلعاتها وطموحاتها، خصوصا وأنها، بسبب طبيعة نظامها السياسي الشمولي، لا تواجه أي اعتراض تشريعي أو شعبي على فكرة منافسة الآخرين في سباق التسلح، والإنفاق الهائل على المشاريع الحربية.
أما اليابان، التي لم تفكر، إلا في السنوات القليلة الماضية، في التخلي تدريجيا عن سياسات السلمية الطويلة والبدء ذاتيا في تطوير قواتها وآلتها العسكرية، فقد أملت عليها حالة الغليان في محيطها الإقليمي ومناوشات جارتها الكورية الشمالية، وتحالفات خصومها التاريخيين، أن تخوض سباقا للتسلح من أجل حماية أمنها وسيادتها، وذلك على الرغم من كل القيود القانونية التي تواجه حكومتها (المادة 9 من الدستور الياباني لا يجيز التوسع في العسكرة إلا بالقدر الكافي للدفاع عن البلاد)، ناهيك عن القيود الشعبية ممثلة في معارضة تنظيمات أهلية محلية كثيرة لمسألة التوسع في الإنفاق الحربي.
ونستطيع القول أن ما دفع طوكيو وبكين إلى خوض سباق تسلح في مجال الأسلحة غير التقليدية تحديدا هو تحديات التتبع، بمعنى ان التتبع المستمر للصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت يتطلب أجهزة استشعار ذات قدرات استثنائية لجهة مواجهة تلك النوعية من الصواريخ القادرة على المناورات غير المتوقعة أو سلوك مسارات منخفضة لتجنب الرادارات الأرضية، وذلك بهدف خلق بنية نموذجية تتكامل فيها الرؤية والدقة والحساسية والعدد المطلوب من الأقمار الصناعية من أجل اعتراض الصواريخ المهاجمة بنجاح.
وفي هذا السياق كتب "تانغ رونغ" في صحيفة "جيش التحرير الشعبي" الصينية اليومية" ما مفاده أن الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت تعمل في الغالب على ارتفاعات قريبة من الفضاء، وهذا يجعل من الصعب اكتشافها ويقلل من وقت استجابة أنظمة الدفاع لتدميرها، علاوة على ذلك فإن "التأثير الجوي البصري الناجم عن رحلة ذلك السلاح، يصعب على النظام الدفاعي تتبع الهدف وتحديده واعتراضه بدقة بسبب إهتزاز الصورة وعدم وضوحها".
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يوليو 2024م
توجه اندونيسيا الخارجي في عهد رئيسها المقبل
بقلم: د. عبدالله المدني*
تحظى الشؤون الأندونيسية بمتابعة كبيرة من قبل الخبراء والمتخصصين في الشأن الآسيوي، انطلاقا مما تمثله هذه البلاد من ثقل سكاني واقتصادي وجيو استراتيجي ضمن منظومتها الإقليمية، ناهيك عن كونها أكبر ديمقراطيات العالم الإسلامي لجهة عدد السكان، علاوة على كونها في بؤرة التنافس الأمريكي ــ الصيني المحتدم في منطقة جنوب شرق آسيا.
والمعروف أن اللجنة الانتخابية في أندونيسيا أعلنت الشهر الماضي بصورة رسمية ونهائية أن "براباوو سوبيانتو" وزير الدفاع الحالي سوف يكون الرئيس المقبل للبلاد خلفا للرئيس المنهية ولايته ذي الشعبية الواسعة "جوكو ويدودو" الذي حكم البلاد لفترتين ولا يحق له الاستمرار لفترة ثالثة.
والسؤال الذي يتردد اليوم هو "كيف سيدير الرئيس المنخب سياسة بلاده الخارجية في السنوات الخمس المقبلة؟"، بمعنى هل سيواصل سياسة سلفه الهادئة غير المستفزة للجيران والقوى العظمى، أم أنه سيتبنى نهجا مغايرا من أجل إبراز صوت ومكانة بلاده على المسرحين الاقليمي والعالمي؟.
الاجابة على هذا السؤال يتطلب دراسة شخصية الرجل، والعودة إلى نشأته الأولى والأحداث التي صاحبت بروزه وصعود نجمه، وما سجل عنه من مواقف، مع الاعتراف مسبقا بأن الساسة كثيرا ما يغيرون مواقفهم، فيبدون مختلفين بعد وصولهم إلى السلطة عما كانوا عليه قبل ذلك.
صحيح أن "بروباوو سوبيانتو" البالغ من العمر اليوم 72 عاما، حرص خلال حملاته الانتخابية على التاكيد بأنه سيواصل سياسات جاكرتا الخارجية الراهنة التي رسمتها وزيرة الخارجية الحالي والدبلوماسية المحترفة "ريتنو مرسودي" ووافق عليها رئيسها "جوكو ويدودو" الذي لم يعرف عنه اهتماما كبيرا بالسياسة الخارجية منذ توليه زعامة أندونيسيا لأول مرة عام 2014، مع استثناءات نادرة تمثلت بحضور بعض قمم رابطة آسيان، والمشاركة في الدبلوماسية التي سبقت انعقاد قمة مجموعة العشرين في جزيرة بالي عام 2022.
غير أن الصحيح أيضا هو أن بروباوو الطامح لحفر إسمه في تاريخ بلاده، والرجل الذي قاتل مرارا من أجل الوصول إلى قصر مارديكا الرئاسي وأسس الأحزاب والتحالفات وفضها، وأمضى سنوات طويلة من حياته خارج أندونيسيا دارسا في مدارس ماليزية وسويسرية وبريطانية وأمريكية فتشبع بالثقافة الغربية وخبر دهاليز السياسات العالمية، وكان رقما عسكريا صعبا في نظام الديكتاتور الراحل الجنرال سوهارتو (والد زوجته سيتي هيداياتي بنت سوهارتو)، لا يتوقع منه إلا انتهاج توجه خارجي نشط يعيد من خلاله لبلاده ذلك الوهج الذي انطفأ برحيل نظام الرئيس الأسبق أحمد سوكارنو يوم كانت جاكرتا بلدا مؤثرا من خلال انتهاج سياسة عدم الانحياز، وإحدى عواصم ما عرف بسياسة الحياد الإيجابي، وصاحبة دور مؤثر في شؤون نطاقها الجيوسياسي، بل يعيد لها ــ على الأقل ــ دورها الغائب منذ زوال نظام سوهارتو في عام 1998، حينما كانت جاكرتا لاعبة محورية في صراع الشرق والغرب. والمعروف في هذا السياق أنه منذ التحول الديمقراطي في أندونيسيا بدءا من عام 1998، فإن كل النخب السياسية التي قادت البلاد انتهجت شعار "كسب المزيد من الأصدقاء وتصفير الأعداء" مع التركيز على التنمية الاقتصادية والابتعاد عن الدخول في مشاغبات ونزاعات مع الآخر، ربما باستثناء الرئيس الأسبق عبدالرحمن وحيد (غوس دور) الذي قاد البلاد في الفترة من اكتوبر 1999 إلى يوليو 2001، وتميزت خلالها سياساته الخارجية بمواقف غير تقليدية وتصريحات مثيرة للجدل.
ولعل ما يعزز احتمال تبني براباوو لنهج خارجي مغاير وأكثر نشاطا، هو وضع اندونيسيا الجيوسياسي والعسكري الراهن. فمن جهة هناك تنافس صيني أمريكي على بلاده بسبب موقعها الاستراتيجي وثرواتها واقتصادها الصاعد، ومن جهة أخرى هناك خلافات محتدمة بين جاكرتا وبكين حول السيادة على بعض الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي، ولاسيما حول جزر ناتونا الواقعة ضمن المياه الإقليمية الأندونيسية، ومن جهة ثالثة هناك اعتماد اندونيسي متنامي على الولايات المتحدة لجهة التسليح والدفاع. الأمر الذي يجعل الرئيس المنتخب واقعا ما بين المطرقة والسندان. فكيف يا ترى سوف يتصرف الرجل الذي خدم في جيش بلاده سنوات طويلة الى أن وصل إلى رتبة جنرال، وكان في عهد سوهارتو قائدا للقوات الخاصة (كوباسوس) ثم قائدا لقوات الاحتياطي الاستراتيجي (كوستراد)؟، أخذا في الإعتبار أنه لا يتهاون في مسألة السيادة الوطنية الاندونيسية، ناهيك عن أنه صاحب مزاج متوتر وميل للتعليقات غير الرسمية المثيرة للجدل.
د.عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يوليو 2024م
أستراليا: هستيريا حزب العمال وانتهازية الاحرار
تقرير عباس علي مراد
لم تكون السينتورة فاطمة بايمن الاولى ولن تكون الأخيرة الي انشقت عن الحزب هنا (العمال) الذي وصلت الى الندوة البرلمانية كمرشحة على لائحتة الانتخابية، فقد سبقتها النائبة لديا ثورب التي انشقت قبل عام عن حزب الخضر، وقبلهما كانت النائبة جاكي لامبي التي انشقت عن جزب كلايف بالمر (استراليا المتحدة) قبل ان تعود الى البرلمان كمرشحة مستقلة، وقبل ذلك بسنوات بولين هانسون عام 1996 انشقت عن حزب الاحرار هذا على سبيل المثال لا الحصر.
وبما ان موضوع الساعة استقالة النائبة بايمن من حزب العمال ما هي اسبابه وتداعياته، النائبة بايمن التي صوتت الى جانب حزب الخضر من أجل إقامة دولة فلسطينية مخالفة موقف الحزب الذي يمنع بموجب قوانينه الداخلية التصويت بخلاف رغبة الحزب مع العلم ان حزب العمال حاول تعديل مشروع القرار الذي تقدم به الخضر بإدخال فقرة تقول من خلال مفاوضات سلام تفضي الى إقامة تلك الدولة التي يقر بها حزب العمال ولكن مازال يتلكأ بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وخوفاً من التداعيات والتي يدركها قياديو الحزب والممسكين بقراره واهمها:
- خسارة صوت في مجلس الشيوخ
- الاحباط الذي اصاب مؤيدي الفلسطينيين من موقف العمال داخل الحزب وعلى المستوى الوطني.
- الحراك الذي يقوم به بعض اعضاء الجالية الاسلامية وتوجيه الصوت الاسلامي لتأييد مرشحين مستقلين مؤيدين للقضية الفلسطينية في الانتخابات القادمة.
- نتائج الانتخابات البريطانية والتي اوصلت العمال باكثرية كبيرة ومريحة لكنه خسر أمام المرشحين المستقلين المؤيدين للقضية الفلسطينية واهمهم جريمي كوربن زعيم الحزب السابق الذي اطاحه الحزب سابقاً بتهمة معاداة السامية.
- عدم تمكن الحكومة من الترويج لختطها بتخفيض الضرائب والتي كانت الحكومة تمني نفسها به للذهاب الى الانتخابات فخسرت هذه الفرصة بسبب التركيز على ما قامت به النائبة بايمن وردة فعل الحزب عليها.
لتلك الأسباب وغيرها اصيب حزب العمال بهستيريا بعد استقالة بايمن واقام الدنيا ولم يقعدها للنيل من مصداقية السينتورة بايمن.
الهجوم بدأ من اعلى الهرم مرورا بقيادي الحزب ونوابه وصولاً الى القواعد الحزبية لمحاولة النيل من مصداقية النائبة بايمن،هذا مع العلم الى ان هناك نواب ومحازبين يؤيدون مواقف بايمن واهمهم مجموعة اصدقاء فلسطين داخل حزب العمال.
النائبة بايمن التي صوتت كما تقدم الى جانب مشروع قرار حزب الخضر قالت انها صوتت بما يمليه عليه ضميرها ولا يخالف توجهات الحزب "لإن الإبادة الجماعية المستمرة في غزة هي مأساة ذات أبعاد لا يمكن تصورها. إنها أزمة تخترق القلب والروح، وتدعونا إلى التحرك بإحساس والإلحاح والوضوح الأخلاقي، وعلى عكس زملائي، أعرف كيف تشعر عندما تكون على الطرف المتلقي للظلم. لم تهرب عائلتي من بلد مزقته الحرب (افغانستان) لتأتي إلى هنا كلاجئين لكي أبقى صامتة عندما أرى الفظائع التي ترتكب بحق الأبرياء".
في خطاب الاستقالة من الحزب والالتحاق بصفوف النواب المستقلين قالت بايمن انها لم تأخذ هذا القرار بسهولة وكانت من اصعب اللحظات وقالت إنها "ممزقة بشدة" بسبب قرارها الانسحاب من حزب العمال، لكن ضميرها لم يترك لها "أي خيار" سوى الدفاع عن معتقداتها.
كيف تحركت ماكينة الحزب للنيل من بايمن، رئيس الوزراء أنثوني البانيزي الذي استدعى بايمن الى (اللودج) مقر رئيس الوزراء قال ان بايمن كانت تخطط لتلك الخطوة منذ مدة ولم يكتف بذلك بل لمح الى انه ليس من مصلحة احد العمل السياسي من منطلق طائفي او فئوي وقال لدينا في حزب العمال نواب مسيحيين ويهود ومسلمين يحتفظون بقيمهم الدينية ويلتزمون بالقوانين الحزبية.
نفت بايمن بشدة اقوال رئيس الوزراء ووصفت لقاءها برئيس الوزراء بالتلميذ المذنب الذي يحضر للمدير لتاديبه، ورداً على سؤال احد الصحافيين حول امكانية تشكيل حزب اسلامي قالت بان هذا السؤال مهين فهي تمثل ناخبيها ولا يعني ان كانت ملتزمة اسلامية تعمل لمصلحة الجالية فقط، وقالت انها التقت مجموعات أسلامية تعمل على توجيه الصوت الاسلامي في الانتخابات القادمة، واضافت انها لم تلتزم بما يقومون به،وأكدت أيضًا إجراء "محادثة" مع جلين دروري المختص بتنظيم الحملات الانتخابية، وكانت النائبة بايمن في وقت سابق تحدثت عن طريقة معاملة زملائها لها بطريقة متعالية تصل لحد السخرية تقريباً مثل قولهم أوه، انظر إلى هذه، إنها تصلي لهذا الكائن القدير""
بدأت التسريبات الحزبية تصل الى الاعلام فعنونت صحيفة "ذي أستراليا" ان بايمن ما زالت تحمل الجنسية الافغانية لانه بموجب المادة 44 من الدستور لا يحق لأي مواطن في البرلمان الفيدرالي ان يحمل جنسية ثانية (القانون لا ينطبق على نواب الولايات والمقاطعات) ليتبين لاحقا ان حزب العمال كان قد اصدر بيان قبل انتخابات عام 2022 يقول فيه ان بايمن قامت بما فيه الكفاية للتنازل عن الجنسية الافغانية ولكن بسبب حكم الطالبان لم يكن ألامر ممكن وعليه فقد حصل الحزب على إستشارة قانونية تؤكد قانونية الترشيح!
صحافية أخرى قالت ان بايمن اشترت شقة في العاصمة الفيدررالية كانبرا وتتلقى علاوة السكن التي تقارب 300 دولار عن الليلة مع انها تسكن في شقتها وهذا امر معروف واغلبية النواب يمارسون هذا الأمر ولا غبار عليه قانونياً.
الاعلام المسعور لم يكتفي بذلك لا بل ذهب الى تجييش الرأي العام وبث المعلومات الخاطئة والمضللة وكثرت التحليلات وكأن زلزال سياسي ضرب الطبقة السياسية الاسترالية.
وزير المهارات بريندان أوكونورحث على ألا يؤدي أي إجراء إلى تأجيج التوتر بين فئات المجتمع الأسترالي.
وزير الخارجية الأسبق غاريث إيفانز من حزب العمال قال إنه يتفق مع بايمان على أن موقف حزب العمال بشأن الدولة الفلسطينية لا يعتبر من الاولويات، واضاف لكنها من خلال موقفها المتحدي الذي اتخذته جعلت من الصعب سياسيا على الحكومة أن تتخذ خطوة إضافية صغيرة في باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي من شأنها أن تكون في مصلحة الجميع، الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.
الكاتب الصحفي شون كايلي كتب في الهيرلد (8/8/2024) ان حزب العمال الذي يدافع عن القوانين الحزبية بأسلوبه هذا لا يعني انه قد برأ نفسه بشكل جيد خلال الأسبوع الماضي. وان الطريقة التي استعملها ضد بايمن كانت قبيحة، فالمهاجمة على جنسيتها المزدوجة كان أمراً غير حكيم. وكذلك الاتهامات بأنها كانت تخطط لتلك الخطوة منذ شهر ولكن من المؤكد ان مسالة التحدث بوضوح عن المسائل ذات الأهمية الأخلاقية والعملية، وإسماع صوتك بأي طريقة متاحة لك. يمكنك القول، بالطبع، أنه إذا كنت تريد القيام بذلك، فمن المحتمل أن الحزب السياسي ليس هو المكان المناسب لك. وهذا بالطبع ما دفع بايمن الى اتخاذ هذا القرار.
أما المعارضة الفيدرالية وبأسلوب انتهازي واضح فلم يكن موقفها أفضل، زعيم المعارضة الفيدرالية بيتر داتون وبكلمة مختصرة لا تشذ عن اسلوبه الفج في مقاربة الامور أظهر موقف حزبه الذي يختصر ما يضمره من عنصرية بأن حكومة اقلية برئاسة حزب العمال ستضم حزب الخضر والمستقلين الخضر والنواب المسلمين المستقلين فستكون هذه الحكومة كارثة على أستراليا ولن تحل مشكلة غلاء الاسعار.
أما حزب الخضر فموقفه معروف من الاعتراف بالدولة الفلسطينية بتأييد الاعتراف، ولكنه لا يستطيع ان يقرر في هذا الامر لانه لا يعتبر من الاحزاب الكبيرة وان كان يحتفظ بكتلة من 11 نائباً في مجلس الشيوخ من اصل 76 و4 نواب في مجلس النواب الحالي من أصل151. ويتعرض الحزب لحملة قاسية من حزب العمال الذي يهاجم حزب الخضر ويتهمه بأنه باسلوبه يعمل على ضرب التناغم والانسجام الاجتماعي في البلاد وقد دعم حزب الاحرا ر موقف العمال هذا.
شعار التناغم الاجتماعي هذا الذي يرفعه حزب العمال اصبح عرضة للأهتزاز بعدما اقدمت الحكومة على تعيين مبعوث خاص لشؤون معادة السامية ونية الحكومة تعيين مبعوث خاص لشؤون الأسلاموفوبيا لانه يظهر ان الحكومة تتنازل عن صلاحياتها لصالح مكونات اجتماعية دون غيرها مما يشكل شرخاً اجتماعياً وهنا تطرح عدة أسئلة نفسها:
- هل سنصل الى مرحلة تطلب كل جالية بمبعوث خاص؟!
- ما هو دور قوانين مكافحة العنصرية والتمييز على أساس العرق والجنس واللون وغيرها سواء كانت قوانين فيدرالية او على مستوى الولايات والمقاطعات ولماذا هي موجودة؟!
- كيف لحكومة منتخبة من قبل الشعب وفي بلد دستوره علماني تتنازل عن دورها الذي كلفها به الناخب الأسترالي ؟!
هذه الاسئلة وغيرها برسم الحكومة والمعارضة الفيدرالية بشكل أساسي وكيف ستساهم في الحفاظ على التناغم والانسجام الاجتماعي في البلاد؟
قمة بوتين وكيم جونغ أون المفاجئة .. ماذا وراءها؟
بقلم: د. عبدالله المدني
كثرت تساؤلات مراقبي الشؤون الآسيوية حول الزيارة المفاجئة القصيرة التي قام بها مؤخرا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بيونغانغ، والقمة التي جمعته بديكتاتور كوريا الشمالية "كيم جونغ أون". تساءل أحدهم عن أسباب الزيارة من بعد انقطاع دام نحو ربع قرن، وتساءل آخر عما إذا كانت الزيارة طلبا لمساعدة كورية شمالية لروسيا في حربها المحتدمة مع أوكرانيا، وتساءل ثالث عن توقيت الزيارة في وقت تأزمت فيه العلاقات بين الكوريتين على خلفية "حرب المناطيد"، وتوترت فيه الأوضاع في مضيق تايوان بين تايبيه وبكين، وتساءل رابع عن مغزى عدم مشاركة الصين في القمة.
مما لا شك فيه أن منطقة شمال شرق آسيا بؤرة تصادم خطيرة بين الشرق والغرب، ومؤهلة لإندلاع حروب وتفجر أزمات تزيد الأوضاع الدولية تأزما وخللا. بل يمكن وصفها بـ "منطقة الجغرافيا السياسية المعقدة" بتعبير "دانييل سنايدر" المحاضر في السياسة الدولية ودراسات شرق آسيا بجامعة ستانفورد الأمريكية. حيث تتواجه في هذه المنطقة مثلث بكين ــ موسكو ــ بيونغيانغ مقابل مثلث واشنطن ــ طوكيو ــ سيئول. أما زيارة بوتين لبيونغيانغ، التي تم خلالها توقيع اتفاق لتشكيل شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين المعادين للغرب شاملة مجموعة من الروابط الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية، إضافة ــ وهذا هو الأهم ــ إلى تعهدات بالمساعدة المتبادلة في حالة العدوان على أي منهما (نصت الاتفاق في مادته الرابعة على أنه "في حالة وقوع أي من الطرفين في حرب بسبب عدوان مسلح من دولة منفردة أو دول عدة، يجب على الطرف الآخر أن يقدم على الفور المساعدة العسكرية وغيرها من المساعدات بجميع الوسائل المتاحة")، فقد أثارت لدى المراقبين ذكريات الزمن السوفيتي، وتحديدا نقطة التحول التاريخية التي تمثلت في إعطاء الزعيم السوفياتي الحديدي "جوزيف ستالين"، وبموافقة نظيره وحليفه الصيني "ماو تسي تونغ" الضوء الأخضر للرفيق "كيم إيل سونغ (جد الرئيس الكوري الشمالي الحالي) لغزو كوريا الجنوبية مطلع خمسينات القرن العشرين.
صحيح أن الزمن تغير، وصين تلك الحقبة غير صين اليوم، وكذا بالنسبة لروسيا. لكن الصحيح أيضا هو أن الصين لا زالت الداعمة الرئيسية لكوريا الشمالية ونظامها الحديدي وسلالتها الحاكمة. ورغم ذلك فهي لا تريد أن تدعم الحسابات الاستراتيجية الروسية الخاصة بكوريا الشمالية على غرار ما حصل في عام 1950، ولذا فضلت ألا تشارك في القمة، خصوصا وأنها لا تريد إثارة اليابان وكوريا الجنوبية، وكلتاهما من شركائها الاقتصاديين الكبار. بل أن بكين سعت مؤخرا إلى اسئناف حواراتها معهما من أجل التفاهم والإستقرار بدلا من الصراع كما تقول، وإنْ قيل أنها تحاول دق إسفين بين واشنطن وحليفتيها الآسيويتين الكبيرتين. أما روسيا فقد ابتعدت عن كوريا الشمالية لسنوات منذ ظهورها كدولة مستقلة بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، لكنها تعود اليوم لتحتضنها باعتبارها ضحية لخصومها الاستراتيجيين، وبعبارة أوضح ضحية مشتركة للضغوط الغربية والهيمنة الأمريكية.
وفي اعتقادنا أن تحرك الرئيس بوتين صوب كوريا الشمالية وتوقيع اتفاق شراكة استراتيجية معها، إنْ لم يكن ردا على مواقف الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو من الحرب في أوكرانيا، فلعله بداية تحرك للرد على الشراكة الأمنية الآخذه في الترسخ بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية والتي تحاول الدول الثلاث إضفاء الطابع المؤسسي عليها منذ اجتماع قادتها العام الماضي في منتجع كامب ديفيد، علما بأن تطورات قد تحدث على صعيد هذه الشراكة قريبا حينما يحضر قادة اليابان وكوريا الجنوبية قمة الناتو المقرر عقدها في شهر يوليو، لاسيما وأن الكوريين الجنوبيين ينظرون إلى الاتفاقية الروسية ــ الكورية الشمالية بعين القلق، بدليل ما ورد في افتتاحية صحيفة "دونغا إلبو" اليومية الصادرة في سيئول في الثامن عشر من يونيو الجاري من أن كيم جونغ أون ونظيره بوتين يسعيان من خلال اتفاقية الشراكة بينهما إلى خلخلة الوضع الراهن باتجاه الفوضى وعدم الإستقرار. ومثل هذا الموقف يتطابق مع مواقف الأمريكيين التي عبر عنها مسؤول الأمن القومي الأمريكي السابق "فيكتور تشا" بقوله: "قمة كيم ــ بوتين تمثل أكبر تهديد للأمن القومي الأمريكي منذ الحرب الكورية"، ويتطابق أيضا مع موقف المراقبين في اوروبا التي عبرت عنها مجلة الإيكونوميست البريطانية حينما وصفت الشراكة بين موسكو وبيونغيانغ بأنها "محور استبدادي أنيق، وأكثر من مثلث حب فوضوي".
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يونيو 2024م
إقرأ أيضاً
-
اختيار واعداد عادل محمد ـ بعد عدة سنوات من هزيمة الاستعمار الفرنسي في الحرب الفيتنامية على يد الشعب الفيتنامي الجبار وبقيادة البطل ا...
-
كتب عباس علي مراد قضية النائبة العمالية فاطمة بايمن والتي صوتت الى جانب حزب الخضر على مشروع قرار من أجل أقامة الدولة الفلسطينية ما زالت ت...
-
كتب عباس علي مراد يتحدث البعض في لبنان والمنطقة عن الشرعية الدولية والتي تستمد شرعيتها من الامم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها الذي لا &quo...
-
تقرير عباس علي مراد لم تكون السينتورة فاطمة بايمن الاولى ولن تكون الأخيرة الي انشقت عن الحزب هنا (العمال) الذي وصلت الى الندوة البرلمانية ...
-
قال النائب طوني فرنجية: "أحيي اهالي شهداء 13 حزيران الذي استشهدوا من اجل وحدة لبنان وأكبر عربون وفاء لهم هو الحفاظ على وحدة البلد&q...
-
حضرة السيد كريس منس رئيس ولاية نيو سوث ويلز المحترم تحية وبعد.. لقد وجدت نفسي مضطراً لأن اخاطبكم مباشرة لأنها الطريقة الأسرع والأفضل التي يم...
-
استغربت مؤسسة المطران ميخائيل الجَميل للحوار والثقافة، الصمت الدولي حيال ما يتعرض له لبنان من تدمير متواصل وتزايد الشهداء والمتضررين، وفي هذ...
-
التعميم الذي أرسلته إلى بعض الأصدقاء الأحد الماضي 9 تموز 2017 لم يكن الا علم وخبر لما حدث خلال الإحتفال بمناسبة استشهاد والدي في الثامن ...
-
افتتحت غابة بطل لبنان يوسف بك كرم في جوار محمية حرج اهدن، بدعوة مشتركة من مؤسسته وادارة المحمية، في حضور عقيلة عضو كتلة " لبن...