بقلم: د. عبدالله المدني*
تحظى الشؤون الأندونيسية بمتابعة كبيرة من قبل الخبراء والمتخصصين في الشأن الآسيوي، انطلاقا مما تمثله هذه البلاد من ثقل سكاني واقتصادي وجيو استراتيجي ضمن منظومتها الإقليمية، ناهيك عن كونها أكبر ديمقراطيات العالم الإسلامي لجهة عدد السكان، علاوة على كونها في بؤرة التنافس الأمريكي ــ الصيني المحتدم في منطقة جنوب شرق آسيا.
والمعروف أن اللجنة الانتخابية في أندونيسيا أعلنت الشهر الماضي بصورة رسمية ونهائية أن "براباوو سوبيانتو" وزير الدفاع الحالي سوف يكون الرئيس المقبل للبلاد خلفا للرئيس المنهية ولايته ذي الشعبية الواسعة "جوكو ويدودو" الذي حكم البلاد لفترتين ولا يحق له الاستمرار لفترة ثالثة.
والسؤال الذي يتردد اليوم هو "كيف سيدير الرئيس المنخب سياسة بلاده الخارجية في السنوات الخمس المقبلة؟"، بمعنى هل سيواصل سياسة سلفه الهادئة غير المستفزة للجيران والقوى العظمى، أم أنه سيتبنى نهجا مغايرا من أجل إبراز صوت ومكانة بلاده على المسرحين الاقليمي والعالمي؟.
الاجابة على هذا السؤال يتطلب دراسة شخصية الرجل، والعودة إلى نشأته الأولى والأحداث التي صاحبت بروزه وصعود نجمه، وما سجل عنه من مواقف، مع الاعتراف مسبقا بأن الساسة كثيرا ما يغيرون مواقفهم، فيبدون مختلفين بعد وصولهم إلى السلطة عما كانوا عليه قبل ذلك.
صحيح أن "بروباوو سوبيانتو" البالغ من العمر اليوم 72 عاما، حرص خلال حملاته الانتخابية على التاكيد بأنه سيواصل سياسات جاكرتا الخارجية الراهنة التي رسمتها وزيرة الخارجية الحالي والدبلوماسية المحترفة "ريتنو مرسودي" ووافق عليها رئيسها "جوكو ويدودو" الذي لم يعرف عنه اهتماما كبيرا بالسياسة الخارجية منذ توليه زعامة أندونيسيا لأول مرة عام 2014، مع استثناءات نادرة تمثلت بحضور بعض قمم رابطة آسيان، والمشاركة في الدبلوماسية التي سبقت انعقاد قمة مجموعة العشرين في جزيرة بالي عام 2022.
غير أن الصحيح أيضا هو أن بروباوو الطامح لحفر إسمه في تاريخ بلاده، والرجل الذي قاتل مرارا من أجل الوصول إلى قصر مارديكا الرئاسي وأسس الأحزاب والتحالفات وفضها، وأمضى سنوات طويلة من حياته خارج أندونيسيا دارسا في مدارس ماليزية وسويسرية وبريطانية وأمريكية فتشبع بالثقافة الغربية وخبر دهاليز السياسات العالمية، وكان رقما عسكريا صعبا في نظام الديكتاتور الراحل الجنرال سوهارتو (والد زوجته سيتي هيداياتي بنت سوهارتو)، لا يتوقع منه إلا انتهاج توجه خارجي نشط يعيد من خلاله لبلاده ذلك الوهج الذي انطفأ برحيل نظام الرئيس الأسبق أحمد سوكارنو يوم كانت جاكرتا بلدا مؤثرا من خلال انتهاج سياسة عدم الانحياز، وإحدى عواصم ما عرف بسياسة الحياد الإيجابي، وصاحبة دور مؤثر في شؤون نطاقها الجيوسياسي، بل يعيد لها ــ على الأقل ــ دورها الغائب منذ زوال نظام سوهارتو في عام 1998، حينما كانت جاكرتا لاعبة محورية في صراع الشرق والغرب. والمعروف في هذا السياق أنه منذ التحول الديمقراطي في أندونيسيا بدءا من عام 1998، فإن كل النخب السياسية التي قادت البلاد انتهجت شعار "كسب المزيد من الأصدقاء وتصفير الأعداء" مع التركيز على التنمية الاقتصادية والابتعاد عن الدخول في مشاغبات ونزاعات مع الآخر، ربما باستثناء الرئيس الأسبق عبدالرحمن وحيد (غوس دور) الذي قاد البلاد في الفترة من اكتوبر 1999 إلى يوليو 2001، وتميزت خلالها سياساته الخارجية بمواقف غير تقليدية وتصريحات مثيرة للجدل.
ولعل ما يعزز احتمال تبني براباوو لنهج خارجي مغاير وأكثر نشاطا، هو وضع اندونيسيا الجيوسياسي والعسكري الراهن. فمن جهة هناك تنافس صيني أمريكي على بلاده بسبب موقعها الاستراتيجي وثرواتها واقتصادها الصاعد، ومن جهة أخرى هناك خلافات محتدمة بين جاكرتا وبكين حول السيادة على بعض الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي، ولاسيما حول جزر ناتونا الواقعة ضمن المياه الإقليمية الأندونيسية، ومن جهة ثالثة هناك اعتماد اندونيسي متنامي على الولايات المتحدة لجهة التسليح والدفاع. الأمر الذي يجعل الرئيس المنتخب واقعا ما بين المطرقة والسندان. فكيف يا ترى سوف يتصرف الرجل الذي خدم في جيش بلاده سنوات طويلة الى أن وصل إلى رتبة جنرال، وكان في عهد سوهارتو قائدا للقوات الخاصة (كوباسوس) ثم قائدا لقوات الاحتياطي الاستراتيجي (كوستراد)؟، أخذا في الإعتبار أنه لا يتهاون في مسألة السيادة الوطنية الاندونيسية، ناهيك عن أنه صاحب مزاج متوتر وميل للتعليقات غير الرسمية المثيرة للجدل.
د.عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يوليو 2024م
0 comments:
إرسال تعليق