ما ينبغي على اليابان أن تفعله كقوة متوسطة مسالمة
بقلم د. عبدالله المدني*
إطلعت مؤخرا على دراسة استراتيجية مطولة هامة حول وضع اليابان في حال نشوب صراع مسلح بين واشنطن وبكين في منطقة آسيا والمحيط الباسيفيكي، والسياسات التي يجب على طوكيو انتهاجها في هذه البيئة المقبلة على مخاطر كبيرة.
تنبع أهمية الدراسة من كونها لامست مختلف الجوانب ذات العلاقة اولا، ثم من مشاركة نخبة من كبار الأكاديميين والمفكرين والدبلوماسيين اليابانيين المرموقين في إعدادها من أولئك المنخرطين في أعمال "مجموعة أبحاث المستقبل في آسيا"، ناهيك عن أن مرئيات الدراسة ومقترحاتها تصلح للتطبيق في حال دول أخرى متوسطة الوزن من تلك التي ترتبط بعلاقات استراتيجية وطيدة مع واشنطن من جهة ولديها من جهة أخرى مصالح وروابط اقتصادية متعددة الأشكال مع بكين.
تنطلق الدراسة من القول أن اليابان تفتقر في خطابها العام إلى استراتيجية متوازنة واضحة لجهة التعامل مع اشتداد التنافس الجيوسياسي الراهن بين واشنطن وبكين، وأن مستقبل اليابان وكل آسيا بات اليوم على مفترق طرق. هذا على الرغم من أن الحكومة اليابانية تبنت في ديسمبر الفائت استراتيجية جديدة للأمن القومي، لكنها في نظر أصحاب الدراسة ترتكز على سياسات القوة والقدرات العسكرية والجغرافيا السياسية والأمن الاقتصادي أكثر من ارتكازها على الدبلوماسية والحوار والتعاون، ناهيك عن أنها تعطي الأهمية القصوى للتحالف الأمريكي ــ الياباني التاريخي لسد أي فجوة أو مخاطر قد تنشأ من نزاع مسلح بين واشنطن وبكين.
وبعبارة أخرى، فإنه على الرغم من أن الدراسة تصف التحالف الأمريكي ــ الياباني بأنه هام وضروري ولا غنى عنه، إلا أنها تقترح أن يتواكب ذلك مع خطاب ياباني جديد يرتكز على نبذ العصبيات القومية التاريخية ويستدعي روح التعاون والتنسيق مع جميع الأطراف الدولية الفاعلة ــ ولاسيما القوى المتوسطة منها ــ لأن ذلك "وسيلة بناءة لمواجهة التحديات والانقسامات الإقليمية والدولية الجديدة".
من ناحية أخرى هناك ميل واضح لدى واضعي الدراسة نحو دفع اليابان إلى التخلي عن النظر لنفسها كقوة منافسة للقوى العظمى، والتركيز بدلا من ذلك على الترويج لنفسها كقوة متوسطة الوزن والتأثير مع ممارسة دورها التقليدي كبلد آسيوي قائد وموثوق به في محيطها الاقليمي، وكقطر داعم لغيرها من دول آسيا النامية في مجالات الاقتصاد والتنمية المستدامة والاستثمار والتجارة الدولية والحوكمة المالية والديمقراطية والتقدم التكنولوجي، لأن ذلك سوف يوطد مكانتها في أعين شريكاتها من الدول التي تتقاسم معها قيم الديمقراطية ومباديء حقوق الإنسان والتعاون والسلام ونبذ القوة في حل النزاعات مثل الهند واستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وبعض دول رابطة آسيان. أما خلاف ذلك فمعناه ترك آسيا فريسة للمزيد من التخلف والانقسام والتشرذم.
ومما لفت نظرنا في الدراسة أنها تحث صانع القرار الياباني على تبني سياسة مستقلة عن سياسات واشنطن، خصوصا فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وبعبارة آخرى ترى الدراسة أن على طوكيو ألا تنجرف إلى ما تفعله الولايات المتحدة لجهة فرض قيمها على الأمم الأخرى، مشيرة إلى أن على اليابان أن تدرك تنوع الأنظمة السياسية في آسيا وفقا للمسارات التاريخية والثقافية والتقاليد الاجتماعية لكل بلد، وبالتالي التنبه إلى حساسية إملاء شروط وقيم لا تتفق مع تلك المسارات والتقاليد، وتجنب نهج ايديولوجي مفرط في السياسة الخارجية.
كما لفت نظرنا مطالبة الدراسة للحكومة اليابانية بان تكون حذرة حول تعريف المنطقة الآسيوية من حيث انها فقط "المحيطين الهاديء والهندي"، وهو تعريف تكرر استخدامه في السنوات الأخيرة في السياسة الدولية ولا سيما من جانب واشنطن. فالمطلوب ــ بحسب واضعي الدراسة ــ أن تكون طوكيو قوة دافعة نحو تعزيز التفاهم والتعاون والسلام في آسيا بأسرها، شرقها وغربها، بمعنى ألا تهمل الدول غير الحليفة والشريكة للولايات المتحدة في المنطقة الآسيوية.
وهناك ضربت الدراسة مثلا بكوريا الشمالية، مطالبة طوكيو بأن درء أخطار نظام بيونغيانغ الإستبدادي المتطرف يتطلب منها السعي إلى انتهاج نهج واقعي وتدريجي تجاه الهدف الأسمى المتمثل في نزع سلاح بيونغيانغ النووي عبر الحوار المستمر. كما وأن درء أخطار نشوب صراع مسلح في مضيق تايوان يتطلب من طوكيو أن تلتزم مبدأ الحفاظ على الوضع الراهن إلى أن تنضج الحلول السلمية لقضية الوحدة بين بكين وتايبيه وأن تظهر بقوة ووضوح رفضها القاطع لأي استخدام أحادي الجانب للقوة العسكرية من جانب بكين لحل مسألة تايوان، مع التأكيد الدائم على عدم نيتها دعم فكرة استقلال الصين الوطنية.
في الدراسة الكثير من الينبغيات والتمنيات، ومنها أيضا ضرورة أن تكون طوكيو مبدعة في طرح ومناقشة أفكار مختلفة مع بكين حول قضية جزر سينكاكو المتنازع عليها بين الدولتين والتي لطالما وترت علاقاتهما البينية، مع إحياء وتنفيذ البيان الصحفي الياباني ــ الصيني المشترك الصادر في يونيو 2008 بشأن التنمية المشتركة في بحر الصين الشرقي لجعله بحرا من السلام والتعاون والصداقة.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أغسطس 2023م
0 comments:
إرسال تعليق