بقلم: د. عبدالله المدني
في آخر انتخابات رئاسية جرت في كوريا الجنوبية قبل نحو عامين فاز الرئيس الحالي "يون سوك يول"، الذي خاض الانتخابات مرشحا لحزبه اليميني المحافظ (حزب قوة الشعب)، على منافسه زعيم الحزب الديمقراطي "لي جاي ميونغ" بفارق ضئيل جدا بلغ 0.7 بالمائة، وهذه النسبة هي أضيق نسبة من الأصوات بين مرشحين في تاريخ البلاد منذ تبنيها الديمقراطية والتعددية الحزبية. ومذاك لم ترتفع شعبية الرئيس "يون"، بل ظلت تعاني من الانخفاض. وقد قيل في أسباب نفور الكوريين منه، ابتعاده عن التصرف كسياسي مرن، يفاوض ويقدم تنازلات، وانتهاجه، بدلا من ذلك لأسلوب المواجهة والاستبداد في الرأي الذي ربما تشربه من عمله السابق كمدع عام. ومن الواضح اليوم أن شعبيته تدهورت كثيرا وأن الرياح تعاند سفنه ولن تسمح له بعد اليوم بمواصلة تنفيذ أجنداته وطموحاته.
نقول هذا على ضوء نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت مؤخرا والتي عدت بمثابة استفتاء على عهده. إذ اسفرت نتائجها عن فوز كبير لحزب المعارضة الرئيسي (الحزب الديمقراطي) الذي يمثل يسار الوسط وشركائه من الأحزاب الصغيره (حصدوا معا 192 مقعدا في البرلمان المكون من 300 مقعد)، ورغم أن هذه النتيجة أقل قليلا من الأغلبية العظمى، إلا أنها تحقق سيطرة المعارضة على البرلمان بصورة أكبر من ذي قبل، وتكفي لمواجهة حق النقض الذي يتمع به رئيس الجمهورية. وهذا، بطبيعة الحال، يجعل الأخير بطة عرجاء غير قادرة على تنفيذ سياساته خلال السنوات الثلاث المتبقية من ولايته، بل يجعله أول زعيم لبلاده يحكم طوال مدة ولايته في ظل برلمان تقوده المعارضة.
ولسنا بحاجة هنا للإشارة إلى حاجة الرئيس "يون" إلى دعم برلماني (بات مفقودا) لمواصلة سياسته المتشددة مع النظام الكوري الشمالي، خصوصا في هذا الوقت الذي تدق فيه كوريا الشمالية طبول الحرب وتتوعد على لسان زعيمها الديكتاتور "كيم جونع أون" قائلة "إن الأوضاع الجيوسياسية غير المستقرة المحيطة بكوريا الديمقراطية (الشمالية) تعني أن الوقت قد حان للإستعداد للحرب أكثر من أي وقت مضى"، طبقا لما نقلته وكالة أنباء كوريا الشمالية عن كيم خلال تفقده جامعة "كيم جونغ إيل" العسكرية والسياسية في بيونغيانغ في وقت سابق من الشهر الجاري.
لقد شكلت نتائج الانتخابات التشريعية هذه صدمة كبيرة للرئيس "يون" وحزبه الحاكم بدليل أن زعيم الحزب الحاكم "هان دونغ هون" استقال من منصبه فورا، فيما عرض رئيس الحكومة "هان داك سو" ومجموعة من كبار المسؤولين التنحي عن مناصبهم. أما الرئيس فلم يجد مفرا من احترام إرادة الناخبين مع وعد منه بالتحرك سريعا لإجراء اصلاحات اقتصادية.
ومما لا شك فيه أن ما حدث يعكس استياء شعبيا من الطريقة التي أدار بها "يون" كوريا الجنوبية خلال العامين الماضيين. حيث أنه أولى جل اهتمامه بالقضايا الخارجية، رغبة منه في تعظيم دور ومكانة بلاده على الساحة الدولية. فكان ذلك على حساب التعامل مع الشأن الداخلي، ولاسيما القضايا المعيشية والاقتصادية وبعض الملفات السياسية.
وبعبارة أخرى، يمكن القول أن الكوريين الجنوبيين عاقبوا رئيس البلاد وحزبه الحاكم على قضايا مثل تزايد تكلفة السكن وارتفاع أسعار السلع الغذائية وتراجع فرص العمل، ناهيك عن فشله في تخفيف عدوانية نظام كوريا الشمالية، وإهمال حكومته للشيخوخة السكانية السريعة وعدم معالجتها اضراب الأطباء المستمر، واخفاقها في منع حادثة التدافع البشري في العاصمة خلال احتفالات عيد الهالوين عام 2022، وممارسة سياسة التقرب مع اليابان التي ينظر إليها غالبية الكوريين الجنوبيين كقوة استعمارية بغيظة سابقا. ويمكن أن ندرج في هذا السياق ايضا ما تردد عن قيام الحكومة بمحاولات وضغوط لإسكات زعيم المعارضة "لي ميونغ" عبر ملاحقته بتهم فساد ملفقة. هذا علما بأن الأخير يمكنه الآن أن يطالب برد الإعتبار وبياض صفحته من تهم الفساد بعد أن التف حوله الشعب ومنحه صوته، بل يمكنه خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2027 والفوز بها.
ولعل متاعب الرئيس يون وحزبه الحاكم ستتضاعف في حال انضمام حزب "إعادة بناء كوريا" إلى حزب المعارضة الرئيسي وحلفائه، حيث أن هذا الحزب الذي تأسس حديثا على يد وزير العدل السابق "تشو كوك" والذي حصل على 12 مقعدا برلمانيا، قد يقرر ذلك في حال استمرار ملاحقة زعيمه بتهمة الفساد التي استأنف الأخير ضدها حكما صدر بحقه بالسجن لمدة عامين. وإذا ما فعل، ستصبح للمعارضة اليد الطولى في صياغة وتمرير القوانين والتشريعات التي تلائم أجنداتها دون معوقات.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: أبريل 2024م
0 comments:
إرسال تعليق