بقلم: د. عبدالله المدني*
من المعروف أن مضيق ملقا يلعب دورا محوريا كطريق بحري لنقل حوالي ربع اجمالي السلع المتداولة في العالم، بما فيها نفط الشرق الأوسط إلى كوريا الجنوبية وتايوان والصين واليابان والفلبين ودولا أخرى في المحيط الهاديء، لكن هذا المضيق يمثل نقطة اختناق استراتيجية، وعادة ما يشار إليه بالمعضلة. كما أن مخاوف كثيرة راجت في العقود الأخيرة حول سهولة تعرضه لأعمال القرصنة أو لعمل إرهابي بقصد تعطيل الملاحة الدولية والإضرار بالتجارة العالمية.
اليوم تطرح الحكومة التايلاندية مشروعا طموحا لتوفير طريق بري بديل للمضيق وتروج له وتبحث عن مستثمرين عالميين لتنفيذه. فخلال قمة التعاون الإقتصادي لآسيا والمحيط الهاديء (إبيك) التي استضافتها مدينة سان فرانسيسكو في نوفمبر 2023، عرض رئيس الوزراء التايلاندي "سريتا تافيسين" فكرة إنشاء جسر بري جنوبي للسكك الحديدية للربط بين الشرق والغرب تجاريا بتكلفة نحو 3 مليار دولار، كي يكون بمثابة طريق مختصر وآمن لإمدادات النفط والسلع الأخرى، وأبدى استعداد بلاده للعمل مع جميع الشركاء قائلا أن المشروع سيخلق 280 ألف فرصة عمل وسيزيد من حجم الناتج المحلي الإجمالي لتايلاند بنسبة 5.5 بالمائة سنويا.
يتضمن المشروع المذكور بناء مينائين عميقين في مدينتي رانونغ" و"شومفون" بالإضافة إلى 90 كيلومترا من السكك الحديدية والطرق السريعة عبر برزخ "كرا" الذي يفصل بين بحر أندامان وخليج تايلاند في جنوب البلاد.
يعتقد المراقبون أن طرح هذا المشروع هو بديل لمشروع "قناة كرا" كونه أرخص تكلفة (بنحو 25 مليار دولار تقريبا) وأقل ضررا على البيئة ولا يخلق جدلا قانونيا ودستوريا. والمعروف أن فكرة حفر قناة يشق التراب التايلاندي بطول 100 كيلومتر وعرض 400 متر من أجل وصل خليج تايلاند ببحر أندامان، فكرة تم تداولها منذ القدم وكان غالبا ما يتم إلغاؤها، لكن الصين عادت ونفضت عنها الغبار في عام 2015، وتحمست لها كجزء من مشروع طريق الحرير البحري، وهو ما قابله رئيس الحكومة العسكرية التايلاندية السابقة الجنرال "برايوت تشان أوشا" في عام 2018 بالقول أن القناة المقترحة ليست ضمن أولويات حكومته، وأن التراب التايلاندي غير قابل للتجزئة من خلال حفر قناة مائية يفصل أقصى جنوبه عن شماله.
والحقيقة أن مشروع بانكوك المقترح، سيخدم بكين بالدرجة الأولى، خصوصا إذا ما احتدمت الخلافات الصينية الأمريكية حول تايوان ووصلت إلى حالة حرب بين البلدين وقررت واشنطن فرض حصار على مضيق ملقا كوسيلة لتعطيل تجارة الصين ووارداتها من الطاقة. ذلك أن مشروع الجسر البري المقترح سيمكن الصين من تفريغ وارداتها في ميناء رانونغ المطل على بحر أندامان ونقلها برا بالسكك الحديدية إلى ميناء شومفون المقابل المطل على خليج تايلاند لتنطلق من الأخيرة بحرا إلى موانيء جنوب الصين. ومن ناحية أخرى يمكن للصادرات الصينية أن تستخدم نفس المسار نحو وجهاتها العالمية دون المرور بمضيق ملقا.
وعلى الرغم من بعض الانتقادات التي وجهت للمشروع بدعوى أنه غير اقتصادي ويتطلب خدمات لوجستية كثيرة بتكلفة مضاعفة ووقتا أطول في التفريغ والنقل البري وإعادة تحميل السفن نحو الصين، فإن بانكوك ماضية في حملة ترويجية مكثفة له، بل عقد وزراؤها اجتماعات مع مسؤولين صينيين وأمريكيين وأوروبيين ومصارف استثمارية آسيوية، وتستعد لطرحه أيضا على مسؤولين في شركة موانيء دبي العالمية.
ولئن أبدت بكين اهتماما بالمشروع خلال زيارة وزير خارجيتها "وانغ لي" لبانكوك مؤخرا، ولئن قيل أن البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية (مقره بكين) معجب بالفكرة ويدرسها، فإنه من غير الواضح حتى الآن موقف الإدارة الأمريكية وموقف البنتاغون الأمريكي من المشروع من منظور عسكري كونه يزود الصين بطريق شحن بديل في سيناريوهات أي حرب محتملة بين الصين والولايات المتحدة. ومن هنا قيل أن بانكوك وضعت نفسها في موقف حرج مع حلفائها الأمريكيين، بل تساءل البعض عما سيحدث إذا ما تم تنفيذ المشروع وقامت واشنطن مستقبلا بفرض حصار على مينائي "رانونغ" و"شومفون" التايلانديين، بغية منع الصين من استخدامهما، والضغط عليها اقتصاديا. هذا ناهيك عن احتمال أن يثير المشروع المقترح حفيظة الهند فتتأزم العلاقات الهندية التايلاندية الودية كونه يساعد الصين على الوصول بسهولة أكبر إلى مياه المحيط الهندي.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: مارس 2024م
0 comments:
إرسال تعليق