د. عبدالله المدني*
تمثل الهند بثقلها الاقتصادي والصناعي والديموغرافي ونظام الديمقراطي الراسخ وموقعها الإستراتيجي الهام أهمية بالغة للقوى العالمية المتنافسة. وتساءل الكثيرون مؤخرا عن الشكل الذي ستتخذه العلاقات الهندية ــ الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، خصوصا في ظل سياساته وقراراته المتعلقة بـ "السيادية" و"الحمائية" و"الهجرة" ومبدأ "أمريكا أولا" من جهة وتمسك الهند من جهة أخرى بسياساتها المتمثلة في "الإستقلال الاستراتيجي" و"تعددية روابطها الدولية".
غير أن الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الحكومة الهندية "ناريندرا مودي" إلى واشنطن في 12 فبراير واجتماعه بترامب (الذي ارتبط معه بعلاقات ودية ابان ولايته الأولى ما بين 2017 و 2021) مثلت لحظة محورية في علاقات البلدين البينية، وبعثت برسالة مفادها أن التقارب الكبير في المصالح بين البلدين في قطاعات الامن والدفاع والتجارة والاستثمار والتكنولوجيا، ناهيك عن موضوع التصدي المشترك للسياسات الصينية التوسعية في منطقتي المحيطين الهندي والباسيفيكي. مستمر وسوف يتعزز، ولن يتأثر بالسياسات الترامبية الجديدة، لاسيما وأن مودي قدم تعهدات تظهر حسن النية حيال التجارة والرسوم الجمركية والهجرة (مثلا قبلت نيودلهي بإعادة مهاجرين هنود غير شرعيين من الولايات المتحدة على متن طائرة عسكرية امريكية).
ومما قيل حول قمة ترامب ــ مودي الأخيرة أن الزعيمين بحثا خططا لتعاون دفاعي أوسع بما في ذلك مسألة حصول الهند على أنظمة دفاعية أمريكية متقدمة ومقاتلات أمريكية متطورة من طراز F- 35 التي لا توجد الآن إلا في الترسانة الجوية لكل من الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وإسرائيل، علما بأن هذه المقاتلات تتميز بأجهزة استشعار إلكترونية متقدمة، ويمكن استخدامها لتحقيق تفوق هجومي حاسم، على نحو ما ثبت في حربي غزة ولبنان الأخيرتين (وقصف منشآت في إيران واليمن). ومن جهة أخرى تتفوق F- 35 كثيرا على الجيل الخامس من مقاتلات سوخوي الروسية من طراز Su-57 التي يمتلك سلاح الجو الهندي عددا منها.
والمعروف أن نيودلهي سعت وتسعى دوما إلى تعزيز وتجديد ترسانتها الجوية بهدف تحقيق تفوق جوي على غريمتيها، باكستان والصين، لذا اعتمدت بكثافة على روسيا، وتحاول اليوم ضم واشنطن إلى مصادر تسليحها الجوي. غير أن التحديات التي تواجهها تتمثل أولا في التكلفة العالية للطائرة F-35 مقارنة بتكلفة الطائرة Su-57، وتتمثل ثانيا في الطلب المرتفع جدا على الصيانة والتدريب، وتتمثل ثالثا في رفض الموّرد الأمريكي الاستجابة لطلب الهند المعتاد بحقوق إنتاج مشترك للطائرة في الهند (الروس لا يعارضون ذلك على الإطلاق).
من القضايا الأخرى التي يُعتقد أنها بحثت في القمة، استئناف ترامب لحملة "الضغط الاقصى على إيران، وقراره في 9 فبراير بإلغاء إعفاءات من العقوبات فيما خص "مشروع تشاهبهار" (تشاهبهار ميناء ايراني استثمرت فيه الهند مليارات الدولارات وتقوم الآن بتطويره وتشغيله بموجب إتفاقية وقعت العام الماضي مدتها 10 سنوات).
يمثل المشروع للهند أهمية قصوى لجهة مساعيها لتقوية نفوذها في أفغانستان وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، ولجهة التنافس مع مشروع ميناء جوادر الباكستاني على بعد 75 كيلومترا فقط، والذي استثمرت فيه الصين بكثافة من أجل حماية تجارتها. ذلك أن إلغاء ما تمتعت به الهند من اعفاءات بصفة خاصة سوف يضر بمصالحها الاستراتيجية، ويقوض نفوذها، ويحرمها من موازنة النفوذ الصيني المتزايد في جنوب ووسط آسيا، بل قد يؤثر سلبا على ديناميكيات الشراكة الأمنية الرباعية المعروفة باسم "كواد" والتي تشكلت من استراليا واليابان والهند والولايات المتحدة لتحجيم قوة الصين المتزايدة في البحار والمحيطات. والجدير بالذكر في هذا السياق أن ترامب، الذي قرر انسحاب بلاده من العديد من الالتزامات والهيئات والمنتديات متعددة الأطراف، أكد من خلال وزير خارجيته ماركو روبيو، حرصه على بقاء "كواد" والإلتزام بأهدافها، بل واقتراح قمة للمجموعة في الهند خلال العام الجاري.
وعليه يمكن القول أن المشهد السياسي الحالي، على الرغم من تعقيداته، إلا أنه يمثل فرصة واعدة للهند للانخراط مع الولايات المتحدة، بشروطها الخاصة، في علاقات استراتيجية وتفاهمات سياسية واقتصادية والتزامات دفاعية بعيدة الأثر والمدى. ولعل صمت نيودلهي حتى اليوم عن موضوع إلغاء ما تمتعت به من اعفاءات ضمن العقوبات الأمريكية على النظام الإيراني بسبب برنامج الأخير النووي يدل على الصبر وانتظار ما ستسفر عنه مفاوضات قد تكون جارية وراء الكواليس بين الهنود ونظرائهم الأمريكيين من أجل أن يحتفظ الطرف الأول بالإعفاءات الخاصة باستثماراته الهائلة في تشاهبهار.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: فبراير 2025م
0 comments:
إرسال تعليق