مواكَبَةً لقضايا ذات بُعدٍ راهني ومضاعفاتٍ ممتدّة، أقام "مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية"، بالتعاون مع مؤسسة ( Hanns Seidel Stiftung) الألمانية، ورشة تفكير ونقاش، يومَي 28 و29 آب 2020، بعنوان: "انفجار مرفأ بيروت: تداعيات بنيوية وتحوّلات بحجم وطن".
إلى الجلسة الافتتاحية، التي تكلّم فيها رئيس "مركز تموز" د. أدونيس العكره، والسيدة عُلا الشريدي، ممثِّلةً "هانز زايدل"، كانت ست جلسات، تمت فيها مقاربة هذا الحدث المزلزل على الصُعُد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، إلى التداعيات النفسية والتربوية والصحية والبيئية والتراثية والسياحية، ناهيك عن التحولات البنيوية، دستورياً وسياسياً. وكان تسليطٌ للضوء على دور الجيش اللبناني والدفاع المدني إغاثياً، وعلى دور المجتمع المدني وسائر الأطر الإغاثية والإعلام في مواجهة الحدث. وقد تميَّز الحضور بمشاركة واسعة لطلبة دراسات عُليا من مختلف جامعات لبنان، كما لممثلي هيئات فاعلة في المجتمع ا لمدني، ومهتمين. ولقد خلصت أعمال الورشة إلى الرؤى والتوصيات الآتية:
أولاً- في الرؤى/ خلفياتٍ وأبعاداً:
أ- إن تفجير مرفأ بيروت، بفظاعتِهِ وهولِهِ، إذْ أحال عاصمتنا إلى مدينة منكوبة، شكَّل حدثاً مفصلياً وجودياً في مسار لبنان، لم تُقتصر أضراره على البقعة الواسعة التي شملها، بل شمل لبنان من أقصاه إلى أقصاه. وبهذا فإن ما بعد 4 آب 2020 لن يكون كما قبله، على جميع المستويات.
ب- إن هذه الكارثة، غير المسبوقة في تاريخ لبنان الحديث، شفّت عن منظومة حاكمة، غارقةٍ في الفساد والإفساد، مُدمنةٍ على الإهمال الذي يَرقى إلى حدّ الجريمة. كما شفّت عن انتفاء المساءلة والمحاسبة العامة واعتماد السياسات الخاطئة، مما أفضى إلى دولة هشّة ومؤسسات عاجزة وقرار ضائع!
ج- إن من كُتب لهم الموت، في هذه الكارثة، وقد أربوا على المائتين، ليسوا بشهداء، بل هم ضحايا وإن كانوا يرتقون إلى مصاف الشهادة، لأنهم لم يختاروا مصيرهم المشؤوم بفعل إرادي.
د- إن هذا الانفجار/ الزلزال، الذي ما فتئت تردّداته تتكشّف، يوماً بعد يوم، عن مآسٍ مُتعدّدة الأوجه، يأتي في خضمّ أزمة طاحنةٍ، لا زال اللبنانيون في أتونها يُكابدون تداعياتها المتفاقمة: من تصدّع للدولة، مما أحالها دولة عاجزة ومُفلسة، إلى انهيارٍ مُريع ومتمادٍ للعملة اللبنانية، إلى نهبِ مدخرات اللبنانيين المالية وجنى عمرهم: مُقيمين ومغتربين، إلى جائحة كورونا التي تزيدُ البلاد شللاً على شلل، وانتهاءً بوضع اللبنانيين على شفا مجاعةٍ، تُعيدنا إلى زمن "سفر برلك!"، ولنجدنا في مواجهة أزمة مركَّبة مستعصية!
هـ- لقد انجلى المشهد الزلزالي عن ظاهرة التضامن العضوي بين اللبنانيين: مقيمين ومغتربين، عبر حملات إغاثة واسعة ومبادرات خيِّرة، منذ الساعات الأولى التي أعقبت الكارثة. وقد كانت مشاركةٌ من جميع مناطق لبنان، مما يؤسِّسُ لحركة وعي، تُوثِّق عُرى الوحدة الوطنية بين مكوِّنات الشعب برمته.
و- إن انفجار بيروت، وما سبقه من أزمات ، يعيشها اللبنانيون، منذ ثلاثة عقود، بل منذ الاستقلال، وما تنجلي عنه من احترابات دموية ومن موجات هجرات متمادية، يدعو إلى التفكير بإيجاد عقدٍ جديدٍ، يُحقِّقُ النهوض البنيوي، على المستويات الدستورية والسياسية والاجتماعية. وعلى أن يحظى هذا العقد العتيد بإجماع غالبية اللبنانيين الذين لم تعُدْ لديهم القدرة على احتمال المزيد من الآلام والعذابات.
ثانياً- في ا لتوصيات:
أ- في ظل تقاذف المسؤوليات بين الأجهزة العاملة في مرفأ بيروت، من مدنية وعسكرية، ينبغي إيجاد صيغة جديدة، بحيث تكون مرجعيةٌ جامعة، تُخرج هذا المرفق، الأكثر أهمية على الصعيد الاقتصادي، من صيغته الحالية كشركة إدارة واستثمار، بما هي إرث عثماني، عاصَرَ عهد الانتداب واستمر في العهد الاستقلالي وحتى تاريخه!
ب- إخراج "وحدة إدارة مخاطر الكوارث"، المنشأة في العام 2010، والتابعة لرئاسة مجلس الوزراء، من وضعها الصُوري فتغدو مؤسسة فاعلة، على غرار سائر بلاد العالم، مُشكِّلةً حمايةً استراتيجية للبلاد.
ج- تفعيل دور البلديات لمواجهة شتّى أنواع الأزمات والكوارث، والتشبيك مع المنظمات غير الحكومية، ومختلف الهيئات من المجتمع المدني، العاملة في المجال الإغاثي.
د- التنسيق في عمليات مسح الأضرار بين نقابة المهندسين والمديرية العامة للآثار، بما يخص الأبنية التراثية، التي ينبغي إعادتها إلى ما كانت عليه، وبالمواصفات عينها، كونها جزءاً من التراث الثقافي المادي.
هـ- الإسراع في أعمال الترميم وإعادة البناء، بما يحفظ نسيج المنطقة المنكوبة ويقطع الطريق على تغيير ديموغرافي، وفي ذلك ضمانة للعيش الوطني الواحد. وفي مقاربة الأثر الاجتماعي للكارثة ، لا بُدَّ من إعادة الحياة الاجتماعية البيروتية، من حيث مشهدياتها والسلوكات اليومية والذاكرة الجمعية، من منطلق تداخل عناصر الثقافة والموروثين العمراني والشعبي.
و- مع الحرص على حرية الإعلام وتنوّع منابره، ينبغي مجانبة تحوله إلى بروباغندا، فيلتزم أخلاقيات المهنة والقوانين المرعية الإجراء، وبما يُعزِّز من ظاهرة التضامن العضوي بين اللبنانيين. وفي هذا المجال لا بُدّ من سَعي حثيث، بالتعاون مع وزارة الإعلام، لإيجاد "هيئة ناظمة للإعلام".
ز- بإزاء التحديات النفسية، التي فرضها الانفجار، لا بد من اعتماد برامج تربوية خاصة، في المدارس والجامعات، لمعالجة التداعيات النفسية التي يُعاني منها الأولاد والشباب ( ما يربو على مائة ألف). مع ما يستلزم ذلك من تدريب عددٍ من المعالجين النفسيين وأفراد الهيئات ا لتعليمية (في القطاعين الرسمي والخاص)، نظراً لعدم كفاية عدد العاملين في مجال الصحة النفسية.
ح- مع التنويه بالدور الإغاثي، الذي أدّاه المجتمع المدني، بمختلف تشكيلاتِهِ، فإن المطلوب أن لا يُحجِّم وظيفته الأساسية، المتمحورة حول المساءلة والمحاسبة والمناصرة.
ط- الدعوة إلى التلاقي بين هيئات ا لمجتمع المدني وبعض القوى السياسية، بهدف زيادة منسوب البُعد المدني لدى هذه القوى، مما يُشكِّلُ خطوة أساسية نحو التغيير. وفي هذا ا لمجال، ثمة دورٌ لـ"مركز تموز" يستطيع تأديته، من مُنطلق الصُدقية التي يحظى بها لدى مختلف الأفرقاء .
ي- لا خيار أمام اللبنانيين، بما يخصُّ نظامهم السياسي، إلاّ واحد من اثنين: إما بناء دولة علمانية على قاعدة المواطنة، وإما تنظيم الطائفية بشجاعة وعدالة ووضوح، بحيث يتم الحفاظ على ما احتواه "الطائف" من خير عام، وتوسيع الآفاق المدنية في النظام أكثر وبالتدرّج، مع تطويره ومعالجة مكامن الخلل فيه، فيغدو نظام عمل لا تعطيل، ونظام تشارك لا تشابك.
ك- تثمين الدور الذي قامت به مختلف التشكيلات الإغاثية، في القطاعين الرسمي والخاص: من الصليب الأحمر اللبناني، إلى الدفاع المدني، إلى كاريتاس، إلى سائر هيئات المجتمع المدني والأهلي، وسوى ذلك من مؤسسات، كانت لها أيادٍ بيض في مواجهة الكارثة.
ل- الإشادة بدور إطفائية بيروت، والترحُّم على شهدائها العشرة، الذين ارتقوا من مرتبة الضحايا إلى مرتبة الشهداء.
م- التوجُّه بالتحية والشكر إلى الجيش اللبناني، قيادةً وضباطاً ورتباء وأفراداً، الذي لطالما شكّل الضمانة الوطنية، في كل المحطات المفصلية للبلاد، مثمِّنين دوره الفعّال في معالجة ذيول هذه الكارثة، بعزمٍ وبصُدقية عالية.
0 comments:
إرسال تعليق