بقلم: د. عبدالله المدني*
يبدو أن أفغانستان سوف تظل متصدرة، مانشيتات الصحف ونشرات الأخبار لفترة طويلة أخرى، مثلما كان حالها منذ الغزو السوفياتي لأراضيها في أواخر سبعينات القرن العشرين. نقول هذا على ضوء ما يجري حاليا من تحركات وتموضعات وبناء تحالفات جديدة استعدادا لما ستسفر عنه عملية سحب القوات الأمريكية والأطلسية من هذا البلد الجريح.
والحقيقة أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في حيرة من أمرها حول المعضلة الأفغانية. فهي، على الرغم من إعلانها أنها ستنسحب من أفغانستان قريبا تنفيذا للإتفاقية الغريبة التي وقعتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في فبراير 2020 مع حركة طالبان الإرهابية حول إخلاء البلاد من القوات الأجنبية مقابل ضمان الأخيرة لعدم عودة تنظيم القاعدة للعمل في أفغانستان، إلا انها تتعرض لضغوط من أعضاء الكونغرس وجنرالات البنتاغون لصرف النظر عن تنفيذ الإتفاقية لأن سحب القوات الأجنبية ــ كما تصر طالبان ــ سوف يعيد الأمور في أفغانستان إلى المربع الأول خصوصا وأن الضمانات الطالبانية مشكوك في أمرها ومجرد وعود في الهواء، لاسيما وأن ما يربط حركة طالبان بتنظيم القاعدة روابط عقائدية متجذرة ومصالح جهادية عليا مشتركة.
ومن هنا تبحث واشنطن عن مخرج يحفظ لها ماء الوجه، ولا يتسبب في خسارة مصالحها الإستراتيجية في هذا القطر المتاخم لحدود خصمين من خصومها الرئيسيين وهما الصين وإيران. غير أن الأوراق التي بحوزتها قليلة، لذا تسعى للإستفادة من النفوذ التركي والباكستاني والهندي في أفغانستان. وهذا في حد ذاته معضلة أخرى. فحليفتها الهندية لاعب جديد في أفغانستان ولا تتمتع بثقة الحركات الأفغانية المسلحة المتمردة على حكومة كابول الشرعية. أما تركيا وباكستان، اللتان يمكنهما تقديم المساعدة ــ الأولى كونها دولة إسلامية يقودها حزب محسوب على جماعة الإخوان المسلمين التي لها دالة على طالبان وغيرها من الميليشيات الإسلامية المقاتلة؛ والثانية كونها غارقة في المستنقع الأفغاني على مدى العقود الطويلة الماضية، بل هي التي خلقت حركة طالبان ابتداء من أجل نفوذها ومصالحها الخاصة ــ فهما دولتان تشوب علاقاتها مع الولايات المتحدة التوتر على خلفية ملفات عدة.
المشكلة الأخرى الجديدة، التي قد تخلط كل الأوراق وتسخن الأوضاع في أفغانستان أكثر من ذي قبل، فتكمن في سعي موسكو الحثيث للعودة إلى الساحة الأفغانية من البوابتين الباكستانية والإيرانية، علما بأن البوابة الإيرانية مفتوحة أمامها بسبب العلاقات الوثيقة بينها وبين النظام الإيراني والتي نجد تجلياتها في تعاونهما المعروف في سوريا، بينما البوابة الباكستانية مغلقة أمامها منذ سنوات طويلة ليس فقط بسبب الدور السوفياتي القديم ضدها زمن الحرب الباردة وإنما أيضا بسبب العلاقات الاستراتيجية بين موسكو ونيودلهي. وعليه فإن لا تفسير للزيارة المفاجئة التي قام بها مؤخرا وزير الخارجية الروسي ألكسندر لافروف إلى إسلام آباد وحرصه على لقاء قائد الجيش الباكستاني الجنرال قمر جاويد باجوا، سوى أن موسكو تسعى إلى فتح البوابة الباكستانية المغلقة، من خلال تفاهمات ثنائية وعروض بتقديم مساعدات تنقذ حكومة رئيس الوزراء عمران خان من التحديات الأقتصادية التي تواجهها، كي تضمن لنفسها دورا ونفوذا جديدين في باكستان وأفغانستان بصفة خاصة، وكي تضمن أيضا استقرار جمهوريات آسيا الوسطي المحسوبة عليها والمتاخمة لأفغانستان من الشمال.
وهنا تواجه كل من موسكو وأنقرة وواشنطن معا معضلة من نوع آخر هو التأهب الصيني لعدم المس بمصالحها في جارتها الأفغانية في مرحلة ما بعد الانسحاب المفترض للقوات الأجنبية من الأراضي الأفغانية. فما يهم بكين في هذا السياق هو ثلاثة ملفات رئيسية تحديدا، أولها ألا تغرق أفغانستان في فوضى شاملة تقود إلى عودة الطالبانيين إلى السلطة وبالتالي دعمهم للجماعات الإنفصالية في إقليم تركستان الشرقية المتاخم لإفغانستان من جهة الشرق، أو دعمهم للقبائل البشتونية المتمردة في باكستان، خصوصا وأن تركستان الشرقية وباكستان يشكلان حجر الزاوية في مشرع الصين العملاق المعروف بمبادرة الطريق والحزام، وبالتالي فإن استقرارهما ضروري لتنفيذ المشروع. الملف الثاني هو منع تركيا من الحصول على أي نفوذ في أفغانستان من منطلق أن أنقرة داعمة، لأسباب إثنية وثقافية ودينية، لإنفصاليي تركستان الشرقية، ناهيك عن أنها باتت صاحبة تاريخ في حشد ونقل العناصر الجهادية للعمل في مناطق النزاع والتوتر كما فعلت في ليبيا. أما الملف الثالث فهو خروج القوات الأمريكية والأطلسية من أفغانستان في أسرع وقت ودون إبطاء، كي لا تشكل هذه القوات ضغطا عليها في وقت تشهد فيه العلاقات الأمريكية ــ الصينية حربا باردة غير مسبوقة.
وبقدر ما تتحسس بكين من تورط محتمل لأنقرة في أفغانستان، فإن موسكو تشاطرها الحساسية والحذر، لاسيما وأن أنقرة نقلت عناصر جهادية من سوريا ليس إلى ليبيا فحسب وإنما أيضا إلى إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع حوله بين آذربيجان وأرمينيا وهما دولتان تعدان ضمن منطقة النفوذ الروسي في القوقاز.
جملة القول أن الساحة الأفغانية باتت مفتوحة على كل الإحتمالات في ظل التحالفات والضغوط والمبادرات وعوامل الحساسية والحذر بين الأطراف المنخرطة فيها او تلك الساعية للإنخراط فيها لأسباب ومصالح جيوسياسية.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: مايو 2021م
عبارة الهامش:
تواجه موسكو وأنقرة وواشنطن معا معضلة من نوع آخر هو التأهب الصيني لعدم المس بمصالحها في جارتها الأفغانية.
0 comments:
إرسال تعليق