التنافس الاميريكي الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي


 بقلم: د. عبدالله المدني*

بمجرد أن أطلقت الصين في 20 يناير 2025، تطبيقها الخاص للذكاء الإصطناعي المعروف باسم DeepSeek ، وما اعقب ذلك من قيام مجموعة من الباحثين الصينيين بنشر ورقة بحثية تفيد بأن "ديب سيك" هو أحدث نموذج للذكاء الاصطناعي، وأنه يحقق أداء مشابها لمثيله الأمريكي ChatGPT، وأن هذا الانجاز، الذي تحقق بتكلفة منخفضة وباستخدام عدد قليل من الرقائق، جاء ردا على "الغطرسة والقيود والضغوط الأمريكية"، راح بعض العرب يهلل ويطبل للإنجاز الصيني، وكأنه انجاز يُعزى لوطنه، وراح البعض الآخر، من منطلق عدائه لكل ما هو غربي، يبشر بسقوط العهد التكنولوجي الامريكي قريبا، حتى قبل أن يستخدم التطبيق الصيني عمليا للتعرف على مميزاته "العظيمة".

ولاحاجة لنا للقول أن الحدث جاء في إطار التنافس الأمريكي ــ الصيني القائم منذ سنوات في مختلف المجالات العسكرية والعلمية والجيواستراتيجية والتجارية والصناعية، ووصل اليوم إلى مجال الذكاء الإصطناعي (AI) الذي يُعزى فضل ابتكار نماذجه وإطلاقها إلى العالم للولايات المتحدة التي استثمرت فيه مواردها الذتية وأموالها وعقولها البشرية. وبطبيعة الحال، وجد الصينيون أنهم سوف يتخلفون عن الأمريكيين إن لم يبادروا إلى عمل شيء مواز، خصوصا بعد أن أغلقت واشنطن الطريق أمامهم، وفرضت عليهم حصارا تجاريا وتكنولوجيا ومعرفيا.

لا يمكننا هنا التقليل من الإنجاز الصيني الجديد، والذي نجم عن استثمارات صينية هائلة في الذكاء الإصطناعي فاقت 50 مليار دولار في عام 2023، ويتوقع أن تتواصل لتصل إلى 120 مليار دولار أمريكي بحلول 2027، طبقا لبيانات "مركز أبحاث الذكاء الإصطناعي العالمي". لكن يبقى السؤال هو: هل "ديب سيك" انجاز صيني بحت؟ أم أنه اعتمد جزئيا أو كليا على تكنولوجيات ومكونات أجنبية؟

في 29 يناير الفائت، وفي جلسة استجوابه أمام مجلس الكونغرس الأمريكي للبت في تعيينه وزيرا للتجارة في إدارة ترامب الجديدة، قال هوارد لوبتيك أن شركة "ديب سيك" لم تكن لتنجح في انجازها لولا شرائها كمية كبيرة من رقائق Nvidia (شركة متعددة الجنسيات مقرها كاليفورنيا وتعد الابرز في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي) قبل أن تحظر الولايات المتحدة صادرات الرقائق إلى الصين في أكتوبر 2022، وأن الشركة الصينية سرقت البيانات من منصة Meta المفتوحة، وأضاف أن الصينيين نجحوا في الالتفاف حول ضوابط التصدير الأمريكية من خلال الإستعانة بدولة ثالثة. وفي هذا السياق نتذكر أن صحيفة "وول ستريت جورنال" نشرت في يوليو 2024 ما مفاده أن مؤسسات سنغافورية تعمل لصالح الصين اشترت كميات من شرائح الذكاء الاصطناعي المتطورة من Nvidia  ودفعت أموالا لطلاب صينيين من أجل مساعدتها.

وفي السياق نفسه، لابد من الإشارة إلى ما قاله مستشار البيت الأبيض لشؤون الذكاء الإصطناعي والعملات المشفرة ديفيد ساكس لشبكة فوكس نيوز من أن "ديب سيك" استخدمت طريقة تسمى "التقطير  المعرفي" أو knowledge distillation لإستخراج البيانات من نماذج OpenAI لصالحها، علما بأن "التقطير المعرفي" تقنية يتم فيها استخدام مخرجات نموذج الذكاء الإصطناعي الأكبر لتدريب نموج أصغر وتحسينة، وهي تقنية شائعة في تدريب الذكاء الإصطناعي وتتطلب قوة حاسوبية أقل بكثير مما استخدمته شركة OpenAI لتدريب ChatGPT. ومن جهتها أكدت OpenAI ما قاله ديفيد ساكس حول عملية التقطير المعرفي، وانتقدت شركة "ديب ستيك" لإنتهاكها حقوق الملكية الفكرية. 

والغريب هنا أن كاتب عمود صيني مقيم في بكين ومعروف كخبير في مجال تكنولوجيا المعلومات هو "وانغ تشي يوان" قال أنه من الواضح بعد فحص بعض الخصائص أن برنامج DeepSeek V- 3 الذي تم إصداره في 26 ديسمبر 2024 أستخدمت فيه تقنية التقطير عند التدريب. لم يكتف الخبير الصيني بذلك فحسب وانما أخبرنا أيضا بأن ورقة أكاديمية نشرتها مجموعة من الباحثين الصينيين في 25 نوفمبر الماضي بينت بالتفصيل عملية التقطير وفعاليتها، مضيفا أن نموذج الذكاء الإصطناعي المصنوع من البيانات المقطرة مثل "ديب سيك" قادر على الإجابة على أسئلة او حل مشكلات من تلك الشائعة في مرحلة الدراسة الثانوية مثلا، لكنه غير قادر على الإجابة على الأسئلة الصعبة والمعقدة على نحو ما يفعله ChatGPT.

ونختتم بالقول أن الانجاز الصيني لا يمثل خطرا على موقع الولايات المتحدة التنافسي في الذكاء الإصطناعي، وإنْ قيل خلاف ذلك. إذ تبقى الأخيرة متفوقة بمراحل بسبب امكانياتها المالية والاقتصادية الهائلة، وقدراتها الفريدة في استقطاب المواهب العالمية، ونظامها الجامعي المتقدم، ومراكزها البحثية المذهلة، وقدرتها على بناء تحالفات قوية وسريعة حول الذكاء الإصطناعي ومنصات التكنولوجيا المستقبلية، ناهيك عن تصدر شركاتها عملية تطوير نماذج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: فبراير 2025م


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق