بقلم: د. عبدالله المدني*
في مقال سابق قلنا أن دول جنوب شرق آسيا العشر المتكتلة في رابطة آسيان ليست متشابهة في مواقفها السياسية من الصين، فبعضها يظهر عداء صريحا لبكين ومخططاتهاالتوسعية في منطقتي المحيط الهاديء والمحيط الهندي، والبعض الآخر يجاهر ويتباهي بعلاقات الود والتعاون معها، والبعض الثالث حائر لجهة اتخاذ موقف حاسم، خصوصا وأن أي ميل من جانبه نحو الصين سيفسر على أنه عداء للولايات المتحدة والعكس بالعكس.
وفي منطقة مشحونة بالمشاكل الجيوسياسية والأزمات المتراكمة والنزاعات التاريخية حول الأراضي والحدود البحرية كمنطقة جنوب شرق آسيا، وفي حقبة يسودها عدم اليقين كالحقبة الراهنة، فإن أفضل وسيلة تلجأ إليها التكتلات الإقليمية هو التحوط وإلتزام نوع من الحياد. وهذا، في اعتقادنا، ما حاول تكتل آسيان ممارسته من أجل ألا تثير غضب أي من القوتين العظميين المتنافستين في المنطقة.
غير أن إلتزام الحياد قد لا يجدي في بعض الحالات، بل قد يفسر على أنه موقف سلبي وانتهازي مائع، خصوصا كما في حالة التنافس والعداء الأمريكي ــ الصيني الراهن، والمتوقع أن يشهد مزيدا من التدهور والتفاقم في ظل الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وعليه، يمكن القول أن سنة 2025 ستكون سنة حاسمة بالنسبة لرابطة آسيان ومكانتها السياسية والاقتصادية والأمنية، إذ عليها أن تحسم خياراتها وتنبذ سياسة وضع قدم مع بكين وقدم أخرى مع واشنطن، وهي طريقة لا تلقى، بطبيعة الحال، قبولا من الإدارة الأمريكية الجديدة المليئة بالصقور المناوئين للصين، كوزير الخارجية الجديد "ماركو روبيو" ووزير الدفاع "بيت هيغسيت" ووكيل وزارة الدفاع للسياسة "إلبريدج كولبي"، وجميعهم سيحاولون ممارسة ضغوط على الدول الإقليمية لحملها على الالتزام بالموقف الأمريكي تجاه الصين أو المخاطرة بإثارة غضب البيت الأبيض.
أحد المشاكل التي قد تثير خلافات مريرة داخل آسيان، وقد تؤدي بالنتيجة إلى احباط خططها الطموحة حول إطلاق "السوق الاقليمية المشتركة" في عام 2025 كمرساة للإستقرار الإقليمي والتنمية طوال القرن 21 هو قرب ذهاب القيادة الدورية لتكتل آسيان هذا العام إلى ماليزيا المعروفة بمواقف وسياسات زعيمها أنور إبراهيم المنحازة بوضوح لبكين، وبالتالي فإنه ليس في وارد إبراهيم أن يغضب الصينيين، هو الذي تفادى مجرد توجيه انتقاد بسيط للصين لإنتهاك قواتها البحرية سيادة الفلبين. وبدلا من التضامن مع دولة جارة وشريكة مؤسسة لآسيان، راح ابراهيم يكرر أن بلاده محايدة فيما يتعلق بالنزاعات الملتهبة في المحيط الهاديء بين واشنطن وبكين، وأن ماليزيا تعول على الدبلوماسية لنزع فتيل تلك النزاعات. هذا على الرغم من أنه طوال العام الماضي وجه انتقادات متكررة لواشنطن والغرب، بينما تجنب انتقاد الصين التي وصفها بـ "الجار الودود الذي لا مشاكل لنا معها، والشريك الذي لا غنى عنه للتنمية الاقليمية". ولسنا هنا بحاجة إلى عناء كبير لنعرف أسباب هذا المديح للصينيين. ذلك أن ماليزيا هي المستفيدة الرئيسية من تدفق الإستثمارات الصينية الاقليمية.
ولعل أكثر ما يقلق بعض دول آسيان، التي ترتبط بعلاقات تحالف تاريخية مع واشنطن مثل الفلبين وتايلاند، أو شراكة اقتصادية وثيقة معها مثل فيتنام، أو روابط عسكرية متنامية معها منذ بعض الوقت مثل أندونيسيا، هو حقيقة أن الرئاسة الدورية لمنظومة آسيان تتمتع بنفوذ هائل من حيث تشكيل أجندتها وأولوياتها واتجاه سياستها الخارجية، على الرغم من أن هذه المنظومة الاقليمية التي تأسست سنة 1967م تعمل وفق أسلوب الإجماع عند اتخاذ القرار. فمثلا زعيم البلد الذي يتراس آسيان بامكانه أن يصدر بيانا مستقلا باسم التكتل كلما كان هناك خلاف أو طريق مسدود حول قضية إقليمية حساسة، كما رأينا في قضية الحرب الأهلية الدائرة في ميانمار، وبالتالي ليس من المستبعد أن تختلف الدول الأعضاء قريبا حول شكل العلاقة بينها وبين كل من واشنطن وبكين، فيصدر أنور إبراهيم بيانا مستقلا باسم آسيان فيه تجاوز لوجهة نظر بعض الأعضاء، وتضمين لما تراه حكومته أنه الأصوب وهو الانحياز للصين.
والغريب هنا أن بعض رجال الأعمال والمسؤولين والأكاديمين في ماليزيا يعتقدون أنه كلما زادت شقة الخلافات وكلما اشتدت حدة التنافس والصراع بين الولايات المتحدة والصين، كلما كان ذلك أفضل بالنسبة لآسيان، كونه يخلق فرصة للمنظومة لجذب أقصى قدر من الاهتمام والاستثمار من قبل القوتين العظميين المتنافستين.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يناير 2025م
0 comments:
إرسال تعليق