بدعوة من مؤسسة "إنماء الشعر العامي العربي"
سيدني-استراليا، في 10-11- 2013
أيها الحفل الكريم،
حين يسأل اللبناني المهاجر عن وطنه،يجيب أنه ابن مدرسة الشرائع بيروت، وابن هياكل بعلبك، وابن عجيبة الطبيعة جعيتا. فيبش السائل مردداً: أي أنك من بلد وديع الصافي.عندئذ، يصحو الفخر والاعتزاز بوطن فيه الثقافة غاية قديمة قدم المعلم الفينيقي قدموس..
أيها الأحبة،
تتفجر صخور جبال لبنان الحبلى بمياهها وتندفع لتروي العطشى من الكائنات، لكن جبل نيحا أصرّ على التمايز، فأنجب موهبة نادرة في صفاء الصوت وقوته، ونقاوة في الروح، وصلابة في الإنتماء، وخلقا في السلوك، فكان وديع فرنسيس الذي عرف فيما بعد بالصافي.
ما إن حبا في غنائه حتى دندن: "عاللوما اللوما اللوما.." عندئذ لفت إنتباه عشاق الغناء.
نزل وديع الصافي إالى بيروت ناقلاً إليها صوراً عن قريته التي لم تبارحه، فغنى:
"طل الصباح وتكتك العصفور سهرنا وطولنا بنومتنا""..
كان يشعربلذة ومتعة حين يذكر الأسماءوالمفردات المستخدمة في الكلام كما هي:
الكون غاشي .. سقسقة ميّات نبعتنا... الجرة .. التنور.. ترق معنا الخبز..
في حنينه إلى قريته يحلّف العصفور بمكان لا يوجد مثله إلا في لبنان فيغني:
رح حلفك بالغصن يا عصفور, ...... كوخ ووزال وسطحه
زهور تتسلقه عريشة.. وحلوة بإيدها كتاب.."
إن تعلقه بالقرية اللبنانية دفعه إلى دعوة إبنه كي يختار عروساً منها:
"الله يرضى عليك يا إبني ضهري انكسر والهم دوّبني
خود ليلى بنت ضيعتنا بترتاح معها وما بتتعبني"
أما العتب عنده على غياب الأحبة فهو دليل حب وشوق:
"ولو هيك بتطلعوا منا وما بتعودوا تسألوا عنا..".
عندما سمعه الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب عجب وتعجب وردد: "من غير المعقول أن
يملك أحد صوتاً كهذا"...لكن الصافي الوديع ملكه.. كان حبه لا يخلو من الغيرة ولا يخشى من البوح بها فغنى :
"قالت بترحلك مشوار قلتلا يا ريت
قالت لكن أوعى تغار حواليّ عشاق كتار
قلتلا بطلت..خليني بالبيت ".
حبه للبنان جعله يرسم جباله، وديانه، وسهوله، وبحره بأغان متعددة، فوقف على إحدى قممه
يتأمل هذا السحر المترامي أمامه وصرخ: " لبنان يا قطعة سما عالأرض تاني ما إلك.."
غنّى للبحر والبحارة ورئيسهم: "عندك بحرية يا ريس.."
وكأب لكل اللبنانيين دعا إلى حب الوطن وحمايته فغنّى:
"يا ابني بلادك قلبك اعطيها وغير فكرك ما بيغنيها
ان ما حميتها يا ابني من الويلات ما في حدا غيرك بيحميها"
لكنّ البعض من الأبناء عبثوا وعاثوا بلبنان وأثخنوه جراحا وخنقوه بدخان التقاتل..
ومع أنه كان يدعو إلى البقاء في الوطن ورفض الهجرة:
"خيي برضاي عليك يا خيي ورقة فراق بلادك طويها
وعالسفر لا تصمم النية بكرة الدني تضحك لياليها"
لكن الأعقة الآثمين المصّرين على التقاتل، أرغموه مكرهاً على حمل عوده والرحيل مهاجراً.
تنقل في بلدان عربية وأجنبية، حتى وصل إلى البرازيل وصوته يصدح:
"على الله تعود على الله يا ضايع في ديار الله.."
كان يأمل بعودة الأفراح إلى لبنان فغنى مبتهلاً: "على الله تعود بهجتنا والفراح تغمر دارنا والفراح"
وديع الصافي، الأسطورة .. الشلال .. الأرز .. صاحب الحنجرة الذهبية، حوّل فنه إلى مدرسة في الغناء حين أدخل إليها ألحانا من رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وبليغ حمدي، .. مع أنه كان يفضل ألحاناً لبنانية الروح، فغنى لزكي ناصيف والأخوين رحباني وفيلمون وهبي. كما أنه كان يؤثر ألحانه لدرايته بصوته وإحساسه.
أيها الأعزاء،
من كان كبيراً كالوديع والصافي في عطائه فإنه يستوطن القلب والذاكرة معاً، وقد ترك لنا إرثاً فنياً فريداً يمتعنا حتى في أشد الأزمات.
وديع الصافي، لم تقهره نكبات الدهر ولا سنونه التي تجاوزت التسعين بسنتين.
اعترف أن .. "شاب الهوى وشبنا وبعدن حبايبنا"
إلا أن المنية تحضر بلا استئذان وتمضي بالأحبة.. ويبقى الخلود سمة الكبار..
عندما حمل بنعشه على الأكف، ارتفعت الزغاريد ونثرت الورود،لكنه بقي هادئاً كما دأبه،
كان يصغي إلى الأوتار تعزف، وإلى القلوب تصدح: "طلوا حبابنا طلوا نسم يا هوى بلادي" ..... وقبل أن يوارى في بلدته نيحا صرخ: "لبنان يا قطعة سما".
أيها الأحبة،
إنني إذ أتوجه بالشكر إلى كل من يزيد في غلال المخزون الثقافي اللبناني خاصة الموجودين في بقاع العالم، هؤلاء الأوفياء لوطنهم لبنان .. لبنان الإنسان والجغرافيا.
إن الدفق الثقافي والفني عندهم لم ينقطع منذ المهاجرين الأوائل، فكتبوا وأنشأوا المؤسسات الفكرية والثقافية وبقيت شرايين المحبة والانتماء تتعلق وتتواصل مع وطنهم الأم لبنان.
وفي هذه المناسبة أخص بالشكر أعضاء "مؤسسة إنماء الشعر العامي العربي" في مدينة سيدني ورئيستها المحامية الأستاذة بهية أبو حمد ، على ما يقومون به من أنشطة ثقافية متعددة، وما إقامة هذا الحفل التأبيني للفنان الباقي وديع الصافي إلا دليل اعتزاز ووفاء له، ولإظهار وجه لبنان الثقافي والفني ورفعته من خلال فنانيه الكبار. فبالفنون والثقافات تسمو الأوطان.
عشتم.. عاشت الثقافة فيكم... عاش لبنان
0 comments:
إرسال تعليق