القلق من حرب نووية يسيطر على دول آسيان


كتب د. عبدالله المدني*:

المعروف أن دول رابطة آسيان الجنوب شرق آسيوية وقعت في العاصمة التايلاندية سنة 1995 على ما يعرف بمعاهدة بانكوك التي كرست إلتزامها بعدم حيازة الأسلحة والمحطات النووية أو تطويرها أو اختبارها سواء داخل حدودها أو خارجها. غير أن هذه المعاهدة والتزاماتها تبدو اليوم شيئا من الماضي الذي يجب التراجع عنه على ضوء الأحداث الأخيرة المرتبطة بالأزمة الأوكرانية وما أعلنته موسكو من أن "أي دولة تتدخل في الأزمة ستواجه عواقب لم يسبق لها أن رأتها في تاريخها"، وهو ما عدّ بمثابة تهديد بشن هجوم نووي، خصوصا بعد أن وضع قادة الكرملين ترسانتهم النووية في حالة تأهب. وإذا كان هذا قد بث الذعر والقلق في دول آسيان، فإن تذبذب وتراخي مواقف حليفها الأمني الأكبر ممثلا في الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو ضاعف من قلقها ومخاوفها الأمنية.

لقد تجلى هذا القلق بوضوح في مؤتمر آسيان الأخير حينما خاطب الرئيس الدوري الحالي للرابطة، رئيس وزراء كمبوديا "هون سين" المؤتمرين بقوله أن التنبؤ بما سيحدث عملية بالغة الصعوبة في ظل بيئة عالمية آخذه في الانهيار وتهديدات بحرب نووية. وقبل هذا بوقت قصير بدا رئيس وزراء سنغافورة "لي هسين لونغ" منزعجا بنفس القدر حينما صرح بأن كرة الجليد قد تشكلت وبدأت تتدحرج في اتجاه سباق تسلح نووي في شرق آسيا.


والحقيقة أن ما يبدو جديدا في دول آسيان، ليس جديدا في بلدين آسيويين هامين هما اليابان وكوريا الجنوبية اللتين أثيرت فيهما قضية حيازة السلاح النووي، أو نشره على أراضيهما رغم الحساسية الشديدة للقضية، بحجة ضرورته للأمن الإقليمي في مواجهة دولتين مجاورتين تملكان السلاح النووي هما الصين وكوريا الشمالية (سبق أن قام أحد المراكز البحثية الأمريكية بعمل استطلاع في أوساط الكوريين الجنوبيين، فتبين أن 71% ممن شملهم الاستطلاع يؤيدون امتلاك بلادهم للسلاح النووي، فيما فضلت نسبة 56% نشر الأسلحة النووية الأمريكية على أراضيهم).

وهكذا نرى أن دول آسيان، التي لا تملك أي منها السلاح النووي حتى الآن، باتت اليوم أكثر قناعة من أن باكستان والهند وكوريا الشمالية مثلا اتخذت القرار الصحيح بامتلاك السلاح النووي الرادع ورفض التخلي عنه تحت الضغط الغربي، وذلك على خلاف أوكرانيا التي تخلت عن قوتها النووية من الحقبة السوفيتية لصالح روسيا الاتحادية مقابل حصولها على ضمانات من موسكو بوحدة أراضيها وعدم التدخل في شؤونها، فانتهكت سيادتها وخسرت أراضيها بدءا بشبه جزيرة القرم عام 2014م.

إن ما تشعر به دول آسيان اليوم من قلق متزايد، لاسيما بعد التوترات الأخيرة بين الصين وتايوان والولايات المتحدة، ناهيك عن مخاطر عدم إلتزام دول كثيرة بمعاهدة عدم الإنتشار المعروفة باسم NPT، ومحاولة الجارة الأسترالية ركوب القطار النووي من خلال معاهدتها الأمنية (AUKUS) مع واشنطن ولندن  التي ستساعدها على امتلاك غواصات تعمل بالطاقة النووية، قد يدفعها دفعا نحو تسليح نفسها نوويا من خلال برامج تبدأ تحت ستار الإستخدام السلمي للطاقة النووية، وبحجة التغلب على مشاكل الطاقة التي تفاقمت اليوم مع الحرب الأوكرانية ومع تطلع الدول إلى تعزيز إجراءات تغير المناخ. وبمعنى آخر فإن دول آسيان أقرب اليوم من أي وقت مضى لإعادة التفكير في إلتزاماتها بموجب معاهدة بانكوك، ومعها إعادة التفكير في كراهيتها السابقة للطاقة النووية المدنية.

وفي هذا السياق نرى مثلا أن الفلبين اتخذت بالفعل قرارا بتبني الطاقة النووية من خلال تعهد رئيسها المنتخب بونغ بونغ ماركوس بذلك، علما بأن سلفه الرئيس رودريغو دوتيرتي أصدر أمرا سابقا بالتخلص التدريجي من محطات الطاقة العاملة بالفحم والعمل على إعادة تشغيل محطة باتان للطاقة النووية (بناها الديكتاتور السابق فرديناند ماركوس في الثمانينات بكلفة 2.2 مليار دولار لكنها لم تشغل بسبب مخاوف متعلقة بالسلامة على إثر كارثة تشيرنوبل في 1986). كما نرى أن فيتنام، التي اتخذت في عام 2009 قرارا ببناء مفاعلين نووين دون أن تنجزهما بسبب التكاليف، تحاول الآن إحياء خططها تلك بمساعدة روسية ويابانية. وفي أندونيسيا هناك اليوم مشروع قانون معروض أمام البرلمان للعمل على أن تمتلك البلاد أول محطة للطاقة النووية بحلول عام 2045. وبالمثل فإن ماليزيا تريد أن تنافس جارتها الأندونيسية وسط حماس حكومي وبرلماني، لاسيما وأنها تمتلك مفاعلا نوويا للإبحاث منذ عام 1982. أما في تايلاند فإن حكومتها العسكرية صامتة حول الموضوع، على الرغم من امتلاكها خبرة أفضل من جاراتها على هذا الصعيد. كما وأن ميانمار وقعت في يوليو المنصرم اتفاقية أولية مع روسيا للتعاون في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، لتنضم ميانمار بذلك إلى كمبوديا ولاوس اللتين تربطهما اتفاقيات مماثلة مع الروس,

وأخيرا فإن مراقبين كثر يرون أن هناك عوائق تحول دون نووية أقطار آسيان، على رأسها التكلفة المالية الضخمة ومخاوف تتعلق بالسلامة والصحة العامة وأخرى بمخاطر التجاوز.



د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أغسطس 2022م


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق